المَبحَثُ الثَّاني: قِياسُ الغائِبِ على الشَّاهِدِ
هذا النَّوْعُ مِن القِياسِ رَدَّه
الأشاعِرةُ في إثْباتِ الصِّفاتِ على اخْتِلافٍ بَيْنَهم في اسْتِعْمالِه، وقدِ اعْتَرَفَ بعضُهم بضَعْفِه إلَّا أنَّهم يَسْتَعْمِلونَه كَثيرًا في نَفْيِ الصِّفاتِ.
قالَ الباقِلَّانيُّ: (يَجِبُ الحُكْمُ والوَصْفُ للشَّيءِ في الشَّاهِدِ لِعِلَّةٍ ما، فيَجِبُ القَضاءُ على أنَّ مَن وُصِفَ بتلك الصِّفةِ في الغائِبِ فحُكْمُه في أنَّه مُسْتحِقٌّ لها لتلك العِلَّةِ حُكْمُ مُسْتَحِقِّها في الشَّاهِدِ؛ لأنَّه يَسْتَحيلُ قِيامُ دَليلٍ على مُسْتحِقِّ الوَصْفِ بتلك الصِّفةِ معَ عَدَمِ ما يوجِبُها، وذلك كعِلْمِنا أنَّ الجِسْمَ إنَّما كانَ جِسْمًا لتَأليفِه، وأنَّ العالِمَ إنَّما كانَ عالِمًا لوُجودِ عِلمِه، فوَجَبَ القَضاءُ بإثْباتِ عِلمِ كلِّ مَن وُصِفَ بأنَّه عالِمٌ، وتَأليفِ كلِّ مَن وُصِفَ بأنَّه جِسْمٌ أو مُجْتمِعٌ؛ لأنَّ الحُكْمَ العَقْليَّ المُسْتحَقَّ لعِلَّةٍ لا يَجوزُ أن يُسْتحَقَّ معَ عَدَمِها، ولا لوُجودِ شيءٍ يُخالِفُها؛ لأنَّ ذلك يُخرِجُها عن أن تكونَ عِلَّةً للحُكْمِ)
[642] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدَّلائِل)) (ص: 32). .
وقالَ
ابنُ العَرَبيِّ: (قد كانَ عُلَماؤُنا الأَوَّلونَ قالوا: إنَّ قِياسَ الغائِبِ على الشَّاهِدِ لا يكونُ إلَّا في الطُّرُقِ الأرْبَعةِ المَعْلومةِ؛ وهي العِلَّةُ والحَقيقةُ والشَّرْطُ والدَّليلُ، وأباه الآخَرونَ وقالوا: لا يُحمَلُ الغائِبُ على الشَّاهِدِ بحالٍ، ولا في وَجْهٍ، وكلُّ حَقيقةٍ مِنهما في نفْسِها ذاتُ اسْتِقْلالٍ)
[643] ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)) (ص: 643). .
وقالَ
الرَّازِيُّ: (قِياسُ الغائِبِ على الشَّاهِدِ مُطلَقًا باطِلٌ...، فإنَّ الأصْلَ المُعْتَبَرَ في إثْباتِ التَّنْزيهِ أنَّ قِياسَ الغائِبِ على الشَّاهِدِ لا يَجوزُ)
[644] ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) (2/ 53). ويُنظر: ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) (8/ 64). .
وقالَ الجُرْجانيُّ: (هنا طَريقانِ ضَعيفانِ يَسلُكُهما بعضُ المُتَكلِّمينَ في إثْباتِ مَطالِبِهم العَقْليَّةِ؛ الأوَّلُ: أنَّهم إذا حاوَلوا نَفْيَ شيءٍ غَيْرِ مَعْلومِ الثُّبوتِ بالضَّرورةِ قالوا: لا دَليلَ عليه فيَجِبُ نَفْيُه ...، الطَّريقُ الثَّاني مِن ذَيْنك الطَّريقَينِ الضَّعيفَينِ: قِياسُ الغائِبِ على الشَّاهِدِ، وإنَّما يَسلُكونَه إذا حاوَلوا إثْباتَ حُكْمٍ للهِ سُبْحانَه، فيَقيسونَه على المُمْكِناتِ قِياسًا فِقْهيًّا، ويُطلِقونَ اسْمَ الغائِبِ عليه تَعالى لكَوْنِه غائِبًا عن الحَواسِّ، ولا بُدَّ في هذا القِياسِ بلْ في القِياسِ الفِقْهيِّ مُطلَقًا مِن إثْباتِ عِلَّةٍ مُشْترَكةٍ بَيْنَ المَقيسِ والمَقيسِ عليه، وهو -أي هذا الإثْباتُ- بطَريقِ اليَقينِ مُشكِلٌ جِدًّا؛ لجَوازِ كَوْنِ خُصوصيَّةِ الأصْلِ الَّذي هو المَقيسُ عليه شَرْطًا لوُجودِ الحُكْمِ فيه، أو كَوْنِ خُصوصيَّةِ الفَرْعِ الَّذي هو المَقيسُ مانِعًا مِن وُجودِه فيه، وعلى التَّقْديرَينِ لا يَثبُتُ بَيْنَهما عِلَّةٌ مُشْترَكةٌ)
[645] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجانيِ)) (1/ 186، 189، 190). .
وقالَ الجُرْجانيُّ: (احْتَجَّ
الأشاعِرةُ بوُجوهٍ؛ الأوَّلُ: ما اعْتَمَدَ عليه القُدَماءِ، وهو قِياسُ الغائِبِ على الشَّاهِدِ؛ فإنَّ العِلَّةَ والحَدَّ والشَّرْطَ لا يَخْتلِفُ غائِبًا وشاهِدًا، وقد عَرَفْتَ ضَعْفَه، كيف والخَصْمُ قائِلٌ باخْتِلافِ مُقْتَضى الصِّفاتِ شاهِدًا وغائِبًا؟!)
[646] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجانيِ)) (3/ 67). .
والتَّحْقيقُ في هذه المَسْألةِ ما قَرَّرَه
ابنُ تَيْميَّةَ بقَوْلِه: (لا رَيْبَ أنَّ قِياسَ الغائِبِ على الشَّاهِدِ يكونُ تارةً حَقًّا، وتارةً باطِلًا، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بَيْنَ العُقَلاءِ؛ فإنَّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ الإنْسانَ ليس له أن يَجعَلَ كلَّ ما لم يُحِسَّه مُماثِلًا لِما أَحَسَّه؛ إذ مِن المَوْجوداتِ أمورٌ كَثيرةٌ لم يُحِسَّها، ولم يُحِسَّ ما يُماثِلُها مِن كلِّ وَجْهٍ، بلْ مِن الأمورِ الغائِبةِ عن حِسِّه ما لا يَعلَمُه أو ما يَعلَمُه بالخَبَرِ بحسَبِ ما يُمكِنُ تَعْريفُه به، كما أنَّ مِنها ما يَعلَمُه بالقِياسِ والاعْتِبارِ على ما شَهِدَه، وهذا هو المَعْقولُ، كما أنَّ الأوَّلَ هو المَسْموعُ، والمَحْسوسُ ابْتِداءً هو ما يُحِسُّه بظاهِرِه أو باطِنِه، وهذا بَيِّنٌ.
القِسْمُ الثَّاني: وهو أنَّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ مِن الأمورِ الغائِبةِ عن حِسِّه ما يَعلَمُه بالقِياسِ والاعْتِبارِ على ما شَهِدَه، كما يَعلَمُ ما يَغيبُ عنه مِن أفْرادِ الآدَميِّينَ والبَهائِمِ والحُبوبِ والثِّمارِ وأفْرادِ الأطْعِمةِ والأشْرِبةِ واللِّباسِ ونَحْوِ ذلك، فإنَّما يُسَمِّيه الفُقَهاءُ ونَحْوُهم جِنْسًا واحِدًا، أو هو ما له اسْمٌ جامِعٌ يَجمَعُ أنْواعًا يُميَّزُ بَيْنَها بالصِّفاتِ؛ كالحِنْطةِ، والثَّمَرِ، والإنْسانِ، والفَرَسِ، وهو الَّذي يُسمِّيه المَنْطِقيُّونَ النَّوْعَ، وما هو أَخَصُّ مِن ذلك، وإن كانَ قد يُسمَّى أيضًا جِنْسًا أو صِنْفًا أو نَوْعًا؛ كالعَرَبيِّ، والعِبْريِّ، والفارِسيِّ، والرُّوميِّ، وكالتَّمْرِ البَرْنيِّ والمَعْقِليِّ، ونَحْوِ ذلك، لا رَيْبَ أنَّ الإنْسانَ لم يُحِسَّ جَميعَ أعْيانِه وأفْرادِه، وإنَّما يَعلَمُ غائِبَها بالقِياسِ على شاهِدِها، فهذا أصْلٌ مُتَّفَقٌ عليه بَيْنَ العُقَلاءِ)
[647] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلاميَّة)) (2/ 326). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (المُتَكلِّمونَ والفَلاسِفةُ كلُّهم على اخْتِلافِ مَقالاتِهم هُمْ في قِياسِ الغائِبِ على الشَّاهِدِ مُضْطَرِبونَ، كلٌّ مِنهم يَسْتعمِلُه فيما يُثبِتُه، ويُنكِرُه فيما يَنْفيه، وإنَّ ذلك فيما يَنْفيه أَولى مِنه فيما يُثبِتُه، ويَرُدُّ على مُنازِعِه ما اسْتَعْملَه مِن ذلك، وإن كانَ قد اسْتَعْمَلَ هو في مَوضِعٍ آخَرَ ما هو دونَه! وسَبَبُ ذلك أنَّهم لم يَمْشوا على صِراطٍ مُسْتقيمٍ، بلْ صارَ قَبولُه ورَدُّه هو بحَسَبِ القَوْلِ لا بحَسَبِ ما يَسْتحِقُّه القِياسُ العَقْليُّ، كما تَجِدُهم أيضًا في النُّصوصِ النَّبَويَّةِ كلٌّ مِنهم يَقبَلُ مِنها ما وافَقَ قَوْلَه، ويَرُدُّ مِنها ما خالَفَ قَوْلَه، وإن كانَ المَرْدودُ مِن الأخْبارِ المَقْبولةِ باتِّفاقِ أهْلِ العِلمِ والحَديثِ، والَّذي قَبْلَه مِن الأحاديثِ المَكْذوبةِ باتِّفاقِ أهْلِ العِلمِ والحَديثِ؛ فحالُهم في الأقْيِسةِ العَقْليَّةِ كحالِهم في النُّصوصِ السَّمْعيَّةِ، لهم في ذلك مِن التَّناقُضِ والاضْطِرابِ ما لا يُحْصيه إلَّا رَبُّ الأرْبابِ! وأمَّا السَّلَفُ والأئِمَّةُ فكانوا في ذلك مِن العَدْلِ والاسْتِقامةِ ومُوافَقةِ المَعْقولِ الصَّريحِ والمَنْقولِ الصَّحيحِ بحالٍ آخَرَ، فالعِصْمةُ وإن كانَتْ شامِلةً لجَماعتِهم، فآحادُهم معَ ذلك لا يَجْتَرِئونَ في مُخالَفةِ النُّصوصِ المَشْهورةِ والمَعْقولاتِ المَعْروفةِ على ما يَجْتَرِئُ عليه هؤلاء المُسَفْسِطونَ، وكانوا يَسْتَعْمِلونَ القِياسَ العَقْليَّ على النَّحْوِ الَّذي وَرَدَ به القُرْآنُ في الأمْثالِ الَّتي ضَرَبَها اللهُ تَعالى للنَّاسِ؛ فإنَّ اللهَ ضَرَبَ للنَّاسِ في القُرْآنِ مِن كلِّ مَثَلٍ، وبَيَّنَ بالأقْيِسةِ العَقْليَّةِ المَقْبولةِ بالعَقْلِ الصَّريحِ مِن المَطالِبِ الإلَهيَّةِ والمَقاصِدِ الرَّبَّانيَّةِ ما لم تَصِلْ إليه آراءُ هؤلاء المُتَكلِّفينَ في المَسائِلِ والوَسائِلِ في الأحْكامِ والدَّلائِلِ، واللهُ تَعالى له المَثَلُ الأَعْلى، فلا يَجوزُ أن يُقاسَ على غَيْرِه قِياسَ تَمْثيلٍ يَسْتَوي فيه الأصْلُ والفَرْعُ، ولا يُقاسُ معَ غَيْرِه قِياسَ شُمولٍ تَسْتَوي أفْرادُه في حُكْمِه؛ فإنَّ اللهَ سُبْحانَه ليس مِثْلًا لغَيْرِه، ولا مُساوِيًا له أصْلًا، بلْ مِثلُ هذا القِياسِ هو ضَرْبُ الأمْثالِ للهِ، وهو مِن الشِّرْكِ والعَدْلِ باللهِ، وجَعْلِ النِّدِّ للهِ، وجَعْلِ غَيْرِه له كُفُوًا وسَمِيًّا، وهُمْ معَ هذا كَثيرو البَراءةِ مِن التَّشْبيهِ والذَّمِّ له، وهُمْ في مِثلِ هذه المَقاييسِ داخِلونَ في حَقيقةِ
التَّمْثيل والتَّشْبيهِ والعَدْلِ باللهِ، وجَعْلِ غَيْرِه له كُفُوًا ونِدًّا وسَمِيًّا! كما فَعَلوا في مَسائِلِ الصِّفاتِ والقَدَرِ وغَيْرِ ذلك؛ ولِهذا ذَكَرَ الوَزيرُ أبو المُظَفَّرِ بنُ هُبَيْرةَ في كِتابِ "الإيضاحِ في شَرْحِ الصِّحاحِ": أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَحْكونَ أنَّ النُّطْقَ بإثْباتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها يَشْتمِلُ على كَلِماتٍ مُتَداوَلاتٍ بَيْنَ الخالِقِ وخَلْقِه، وتَحَرَّجوا مِن أن يَقولوا: مُشْترَكةٌ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى لا شَريكَ له، بلْ للهِ المَثَلُ الأَعْلى، وذلك هو قِياسُ الأَوْلى والأَحْرى، فكلُّ ما ثَبَتَ للمَخْلوقِ مِن صِفاتِ الكَمالِ فالخالِقُ أَحَقُّ به وأَوْلى وأَحْرى به مِنه؛ لأنَّه أَكمَلُ مِنه، ولأنَّه هو الَّذي أَعْطاه ذلك الكَمالَ، فالمُعْطي الكَمالَ لغَيْرِه أَوْلى بأن يكونَ هو مَوْصوفًا به...، وَهَبَ له مِن إحْسانِه وعَطائِه ما وَهَبَه مِن ذلك؛ كالحَياةِ، والعِلمِ، والقُدْرةِ، وكذلك ما كانَ مُنْتَفيًا عن المَخْلوقِ لكَوْنِه نَقْصًا وعَيْبًا؛ فالخالِقُ هو أَحَقُّ بأن يُنزَّهَ عن ذلك، وعلى هذا فجَميعُ الأمورِ الوُجوديَّةِ المَحْضةِ يكونُ الرَّبُّ أَحَقَّ بِها؛ لأنَّ وُجودَه أَكمَلُ، ولأنَّه هو الواهِبُ لها، فهو أَحَقُّ باتِّصافِه بِها، وجَميعُ الأمورِ العَدَميَّةِ المَحْضةِ يكونُ الرَّبُّ أَحَقَّ بالتَّنْزيهِ مِنها؛ لأنَّه عن العَدَمِ أَبعَدُ مِن سائِرِ المَوْجوداتِ، ولأنَّ العَدَمَ مُمْتنِعٌ لذاتِه على ذاتِه، وذاتُه بذاتِه تُنافي العَدَمَ، وما كانَ فيه وُجودٌ وعَدَمٌ كانَ أَحَقَّ بما فيه مِن الوُجودِ، وأَبعَدَ عمَّا فيه مِن العَدَمِ؛ فهذا أصْلٌ يَنْبَغي مَعْرفتُه، فإذا أُثْبِتَتْ له صِفاتُ الكَمالِ مِن الحَياةِ والعِلمِ والقُدْرةِ والكَلامِ والسَّمْعِ والبَصَرِ وغَيْرِ ذلك بِهذه الطَّريقةِ القِياسيَّةِ العَقْليَّةِ الَّتي للهِ فيها المَثَلُ الأَعْلى، كانَ ذلك اعْتِبارًا صَحيحًا، وكذلك إذا نُفِيَ عنه الشَّريكُ والوَلَدُ والعَجْزُ والجَهْلُ ونَحْوُ ذلك بمِثلِ هذه الطُّرُقِ)
[648] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلاميَّة)) (2/ 345 - 350). .