المَبحَثُ الرَّابِعُ: التَّفْويضُ والتَّأويلُ لنُصوصِ الصِّفاتِ
للأشاعِرةِ مَسْلَكانِ في آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ؛ هُما: التَّفْويضُ، والتَّأويلُ، وقدِ اشْتَهَرَ هذا حتَّى ظَنَّ بعضُ العُلَماءِ فَضْلًا عن غَيْرِهم أنَّ التَّفْويضَ مَذهَبُ السَّلَفِ، والتَّأويلَ مَذهَبُ الخَلَفِ، وأنَّ كِلا المَسْلَكينِ جائِزٌ.
قالَ
النَّوَويُّ: (اعْلَمْ أنَّ لأهْلِ العِلمِ في أحاديثِ الصِّفاتِ وآياتِ الصِّفاتِ قَوْلَينِ: أحَدُهما: وهو مَذهَبُ مُعظَمِ السَّلَفِ أو كُلِّهم أنَّه لا يُتَكلَّمُ في مَعْناها، بل يقولونَ: يَجِبُ علينا أن نُؤمِنَ بِها، ونَعْتقِدَ لها مَعنًى يَليقُ بجَلالِ اللهِ تَعالى وعَظَمتِه، معَ اعْتِقادِنا الجازِمِ أنَّ اللهَ تَعالى ليس كمِثلِه شيءٌ، وأنَّه مُنزَّهٌ عن التَّجَسُّمِ والانْتِقالِ والتَّحَيُّزِ في جِهةٍ، وعن سائِرِ صِفاتِ المَخْلوقِ، وهذا القَوْلُ هو مَذهَبُ جَماعةٍ مِن المُتَكلِّمينَ، واخْتارَه جَماعةٌ مِن مُحقِّقيهم، وهو أَسلَمُ. والقَوْلُ الثَّاني: وهو مَذهَبُ مُعظَمِ المُتَكلِّمينَ، أنَّها تُتَأوَّلُ على ما يَليقُ بِها على حَسَبِ مَواقِعِها، وإنَّما يَسوغُ تَأويلُها لِمَن كانَ مِن أهْلِه، بأن يكونَ عارِفًا بلِسانِ العَرَبِ، وقَواعِدِ الأُصولِ والفُروعِ، ذا رِياضةٍ في العِلمِ)
[653] ((شرح مسلم)) (3/ 19). .
وقالَ
تاجُ الدِّينِ السُّبْكيُّ: (للأشاعِرةِ قَوْلانِ مَشْهورانِ في إثْباتِ الصِّفاتِ: هلْ تُمَرُّ على ظاهِرِها معَ اعْتِقادِ التَّنْزيهِ، أو تُؤَوَّلُ؟ والقَوْلُ بالإمْرارِ معَ اعْتِقادِ التَّنْزيهِ هو المَعْزُوُّ إلى السَّلَفِ، وهو اخْتِيارُ الإمامِ في الرِّسالةِ النِّظاميَّةِ، وفي مَواضِعَ مِن كَلامِه، فرُجوعُه مَعْناه الرُّجوعُ عن التَّأويلِ إلى التَّفْويضِ، ولا إنْكارَ في هذا، ولا في مُقابِلِه؛ فإنَّها مَسْألةٌ اجْتِهاديَّةٌ، أَعْني مَسْألةَ التَّأويلِ أو التَّفْويضِ معَ اعْتِقادِ التَّنْزيهِ)
[654] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 191). .
المَسلَكُ الأوَّلُ: التَّفْويضُالمُرادُ بالتَّفْويضِ تَفْويضُ المَعْنى المُرادِ مِن النَّصِّ الموهِمِ للتَّشْبيهِ عنْدَ
الأشاعِرةِ ومَن سَلَكَ سَبيلَهم، وهذا التَّفْويضُ إنَّما يكونُ بَعْدَ التَّأويلِ الإجْماليِّ، وهو: صَرْفُ اللَّفْظِ عن ظاهِرِه.
قالَ اللَّقَّانيُّ في مَنْظومتِه المَشْهورةِ عنْدَ
الأشاعِرةِ:
وكُلُّ نَصٍّ أَوهَمَ التَّشْبيهَا
أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تَنْزيهَا
[655] ((تقريب البعيد إلى جوهر التوحيد)) (ص: 63). .
قالَ الصَّفاقُسِيُّ في شَرْحِ ذلك: ((وكلُّ نَصٍّ) مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ (أَوهَمَ) باعْتِبارِ ظاهِرِ دَلالتِه، أي: أَوقَعَ في الوَهْمِ (التَّشْبيها) له تَعالى بالحَوادِثِ، المُسْتحيلَ على مَن ثَبَتَ مُخالَفتُه للحَوادِثِ في ذاتِه وفي صِفاتِه، فيَجِبُ تَنْزيهُ الباري تَعالى عن ذلك الظَّاهِرِ المُسْتَحيلِ عَقْلًا وشَرْعًا؛ ولِذا قالَ: (أَوِّلْه) أي: اصْرِفْه عن ظاهِرِه وُجوبًا، ثُمَّ أنت مُخَيَّرٌ في: أن تُؤَوِّلَه بتَأويلٍ خاصٍّ يَليقُ بالجَنابِ الرَّفيعِ؛ كتَأويلِ اليَدِ بالقُدْرةِ أو النِّعْمةِ الَّذي هو مَعْناها المَجازِيُّ، في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، وتَأويلِ الوَجْهِ بالوُجودِ والذَّاتِ، في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وتَأويلِ العَيْنِ في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] بالحِفْظِ والرِّعايةِ؛ وكتَأويلِ الاسْتِواءِ في قَوْلِه تَعالى:
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] بالاسْتِيلاءِ؛ فإنَّ الاسْتِواءَ لَفْظٌ له مَعْنيانِ:
قَريبٌ: وهو الاسْتِقرارُ، ويَتَعالى مَوْلانا عنه.
وبَعيدٌ: وهو الاسْتِيلاءُ والقَهْرُ والغَلَبةُ، وهو المُرادُ مِن الآيةِ ونَحْوِها؛ إذ هو اللَّائِقُ بالمَوْلى تَعالى كما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
قد اسْتَوى بِشْرٌ على العِراقِ
مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
فيكونُ مِن بابِ التَّوْريةِ، وهي مِن بَديعِ
البَلاغةِ. هذا مَذهَبُ الخَلَفِ، وهو أَعلَمُ وأَحكَمُ. (أو) أَوِّلْه إجْمالًا لا تَفْصيلًا، و(فَوِّضِ) الأمْرَ في المُرادِ مِنها تَفْصيلًا إلى اللهِ العَليمِ الحَكيمِ. وهذا مَذهَبُ السَّلَفِ، وهو أَسلَمُ لسَلامتِه مِن التَّجاسُرِ على تَأويلِ المُتَشابِهِ الَّذي لا يَعلَمُ تَأويلَه إلَّا اللهُ)
[656] ((تقريب البعيد إلى جوهر التوحيد)) (ص: 63 - 65). .
وقالَ الباجوريُّ: (قَوْلُه: (أَوِّلْه) أي: احْمِلْه على خِلافِ ظاهِرِه معَ بَيانِ المَعْنى المُرادِ، فالمُرادُ: أَوِّلْه تَأويلًا تَفْصيليًّا بأن يكونَ فيه بَيانُ المَعْنى المُرادِ كما هو مَذهَبُ الخَلَفِ: وهُمْ مَن كانوا بَعْدَ الخَمْسِمِئةٍ، وقيلَ: مِن بَعْدِ القُرونِ الثَّلاثةِ. وقَوْلُه: (أو فَوِّضْ) أي: بَعْدَ التَّأويلِ الإجْماليِّ الَّذي هو صَرْفُ اللَّفْظِ عن ظاهِرِه، فبَعْدَ هذا التَّأويلِ فَوِّضِ المُرادَ مِن النَّصِّ الموهِمِ إليه تَعالى على طَريقةِ السَّلَفِ: وهُمْ مَن كانوا قَبْلَ الخَمْسِمِئةٍ، وقيلَ: القُرونُ الثَّلاثةُ: الصَّحابةُ، والتَّابِعونَ، وأتْباعُ التَّابِعينَ، وطَريقةُ الخَلَفِ أَعلَمُ وأَحكَمُ؛ لِما فيها مِن مَزيدِ الإيضاحِ، والرَّدِّ على الخُصومِ، وهي الأَرجَحُ؛ ولِذلك قَدَّمَها المُصنِّفُ، وطَريقةُ السَّلَفِ أَسلَمُ لِما فيها مِن السَّلامةِ مِن تَعْيينِ مَعنًى قد يكونُ غَيْرَ مُرادٍ له تَعالى. وقَوْلُه: (ورُمْ تَنْزيهَا) أي: واقْصِدْ تَنْزيهًا له تَعالى عمَّا لا يَليقُ به معَ تَفْويضِ عِلمِ المَعْنى المُرادِ، فظَهَرَ ممَّا قَرَّرْناه اتِّفاقُ السَّلَفِ والخَلَفِ على التَّأويلِ الإجْماليِّ؛ لأنَّهم يَصرِفونَ الموهِمَ عن ظاهِرِه المُحالِ عليه تَعالى، لكنَّهم اخْتَلَفوا بَعْدَ ذلك في تَعْيينِ المُرادِ مِن ذلك النَّقْصِ وعَدَمِ التَّعْيينِ، بِناءً على الوَقْفِ على قَوْلِه تَعالى:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] ، فيكونُ مَعْطوفًا على لَفْظِ الجَلالةِ، وعلى هذا فنَظْمُ الآيةِ هكذا:
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] ، وجُمْلةُ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ... [آل عمران: 7] حينَئذٍ مُسْتَأنَفةٌ لبَيانِ سَبَبِ الْتِماسِ التَّأويلِ، أو على قَوْلِه:
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] ، وعلى هذا فقَوْلُه:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] إلخ اسْتِئْنافٌ، وذَكَرَ مُقابِلَه في قَوْلِه تَعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران: 7] إلخ، أي كالمُجَسِّمةِ؛ فمِنهم مَن قالَ: إنَّه على صورةِ شَيْخٍ كَبيرٍ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّه على صورةِ شابٍّ حَسَنٍ
[657] هذا الكلامُ غيرُ صَحيحٍ، فلا يُعلَمُ عن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ أو التَّابِعينَ أو أتباعِهم أنَّه قال ذلك. ، تَعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا. والحاصِلُ أنَّه وَرَدَ في القُرْآنِ أو السُّنَّةِ ما يُشعِرُ بإثْباتِ الجِهةِ، أو الجِسْميَّةِ، أو الصُّورةِ، أو الجَوارِحِ، اتَّفَقَ أهْلُ الحَقِّ وغَيْرُهم ما عَدا المُجَسِّمةَ والمُشَبِّهةَ على تَأويلِ ذلك لوُجوبِ تَنْزيهِه تَعالى عمَّا دَلَّ عليه ما ذُكِرَ بحَسَبِ ظاهِرِه؛ فمِمَّا يوهِمُ الجِهةَ قَوْلُه تَعالى:
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] ، فالسَّلَفُ يَقولونَ: فَوْقيَّةٌ لا نَعلَمُها، والخَلَفُ يَقولونَ: المُرادُ بالفَوْقيَّةِ التَّعالي في العَظَمةِ، فالمَعْنى يَخافونَ، أي: المَلائِكةُ، رَبَّهم مِن أجْلِ تَعاليه في العَظَمةِ، أي: ارْتِفاعِه فيها، ومِنه قَوْلُه تَعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ؛ فالسَّلَفُ يَقولونَ: اسْتِواءً لا نَعلَمُه، والخَلَفُ يَقولونَ: المُرادُ به الاسْتِيلاءُ والمُلْكُ)
[658] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 156). .
ومَسلَكُ التَّفْويضِ مَبْنيٌّ على أَمْرَينِ:الأوَّلُ: دَعْوى أنَّ الاتِّفاقَ حاصِلٌ على عَدَمِ إرادةِ الظَّاهِرِ؛ إذِ الظَّاهِرُ يوهِمُ التَّشْبيهَ!
الثَّاني: أنَّ آيةَ آلِ عِمْرانَ دالَّةٌ على صِحَّةِ تَفْويضِ المَعْنى المُرادِ مِن نُصوصِ الصِّفاتِ.
والإجابةُ عن الأمْرِ الأوَّلِ مِن وَجْهَينِ:الوَجْهُ الأوَّلُ: لا نُسلِّمُ أنَّ ظاهِرَ آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ يُفيدُ التَّشْبيهَ، بل هي تَدُلُّ على إثْباتِ الصِّفاتِ على الوَجْهِ اللَّائِقِ باللهِ تَعالى، ويَتَبيَّنُ ذلك بالآتي:
أنَّ
الأشاعِرةَ قد سَلَّموا أنَّ اللهَ تَعالى حَيٌّ بحَياةٍ، وعَليمٌ بعِلمٍ، وقَديرٌ بقُدْرةٍ...، إلى آخِرِ صِفاتِ المَعاني السَّبْعِ، ويُثبِتونَ ظاهِرَها على ما يَليقُ باللهِ تَعالى، فيَلزَمُهم كذلك إثْباتُ بَقيَّةِ الصِّفاتِ؛ كالاسْتِواءِ، والعُلُوِّ، والوَجْهِ، واليَدَينِ، والغَضَبِ، وغَيْرِها كما يَليقُ باللهِ سُبْحانَه.
الوَجْهُ الثَّاني: القَوْلُ بأنَّ نُصوصَ الصِّفاتِ ظاهِرُها غَيْرُ مُرادٍ يَلزَمُ مِنه لَوازِمُ باطِلةٌ؛ مِنها:
1- أن يكونَ اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد تَكلَّما بالباطِلِ فيما يَتَعلَّقُ بصِفاتِ اللهِ سُبْحانَه!
2- أنَّ قائِلَ هذه المَقالةِ قد مَثَّلَ أوَّلًا؛ إذ هو قد اعْتَقَدَ أنَّ ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ
التَّمْثيلُ والتَّشْبيهُ، ثُمَّ عَمَدَ إلى النَّصِّ فعَطَّلَه عن دَلالتِه على الحَقِّ، وعَطَّلَ الصِّفةَ الثَّابِتةَ في نفْسِ الأمْرِ للهِ تَعالى
[659] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 76-81). .
الوَجْهُ الثَّالِثُ: القَوْلُ بتَفْويضِ المَعْنى ثُمَّ الزَّعْمُ بأنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ غَيْرُ مُرادٍ تَناقُضٌ واضِحٌ، فلا يُعقَلُ الادِّعاءُ بأنَّ المَعْنى لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ معَ الزَّعْمِ بأنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ؛ إذ الَّذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ لا يكونُ ظاهِرًا لنا.
الوَجْهُ الرَّابِعُ: ثَبَتَ عن أئِمَّةِ السَّلَفِ أنَّهم قالوا عن نُصوصِ الصِّفاتِ: أَمِرُّوها كما جاءَتْ، وصَرَّحوا بأنَّ ظَواهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ مُرادةٌ يَجِبُ الإيمانُ بِها معَ عَدَمِ إدْراكِ كَيْفيَّتِها، وهذا يَتَعارَضُ معَ زَعْمِ
الأشاعِرةِ بأنَّ ظاهِرَها غَيْرُ مُرادٍ، وسيَأتي ذِكْرُ بعضِ النُّقولِ الواضِحةِ عن السَّلَفِ الَّتي تُبَيِّنُ بُطْلانَ نِسْبةِ التَّفْويضِ إليهم.
ومُرادُ السَّلَفِ بقَوْلِهم عن نُصوصِ الصِّفاتِ: (أَمِرُّوها كما جاءَتْ بلا تَفْسيرٍ) أحَدُ مَعْنيَينِ:الأوَّلُ: أَمِّروها بِلا تَفْسيرٍ مُبتَدَعٍ، كما يُفَسِّرُها
الجَهْميَّةُ و
المُعْتَزِلةُ ومَن تَأثَّرَ بهم ك
الأشاعِرةِ.
الثَّاني: أَمِرُّوها بِلا تَفْسيرٍ للكَيْفيَّةِ؛ فمَعاني الصِّفاتِ مَعْلومةٌ لنا، وكَيْفيَّتُها مَجْهولةٌ لنا
[660] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 38 - 46). .
ولا يَصِحُّ اسْتِدْلالُهم على التَّفْويضِ بقَوْلِه سُبْحانَه:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] ، ويَتَّضِحُ ذلك بما يَلي:
1- أنَّ المُرادَ بالتَّأويلِ على قِراءةِ الوَقْفِ: مَعْرِفةُ الحَقيقةِ الَّتي يَؤولُ إليها الخَبَرُ؛ إذِ الوَقْفُ التَّامُّ يُفيدُ أنَّ ذلك ممَّا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ؛ لأنَّ حَقائِقَ الصِّفاتِ وكَيْفيَّتَها ممَّا لا يَظهَرُ للخَلْقِ، أمَّا على قَوْلِ
الأشاعِرةِ فلا تَظهَرُ فائِدةٌ مِن الوَقْفِ؛ إذ هُمْ زَعَموا أنَّ لها ظاهِرًا يَعلَمُه البَشَرُ، ولكنَّه غَيْرُ مُرادٍ، وإنَّما المُرادُ شيءٌ آخَرُ، فخاضوا في تَعْيينِه بالظَّنِّ رَجْمًا بالغَيْبِ، وهذا يُنافي التَّسْليمَ التَّامَّ الَّذي وَصَفَ اللهُ به المُؤمِنينَ في الآيةِ نفْسِها، وهو قَوْلُه:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] .
2- لو سُلِّمَ لهم قَوْلُهم هذا للَزِمَ طَرْدُه في كلِّ نُصوصِ الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ المَعاني؛ كصِفةِ الحَياةِ، والإرادةِ، والقُدْرةِ، والعِلمِ؛ إذ لا مُوجِبَ للتَّفْريقِ إلَّا التَّحَكُّمُ، فما كانَ جَوابًا لهم عن نُصوصِ صِفاتِ المَعاني فلْيُجيبوا به عن نُصوصِ بَقيَّةِ الصِّفاتِ.
3- القَوْلُ بأنَّ التَّأويلَ هنا المُرادُ به حَقائِقُ الأشْياءِ قَوْلٌ لا يُعارِضُ قَوْلَ مَن لم يَرَ الوَقْفَ على اسْمِ الجَلالةِ؛ إذِ التَّأويلُ يكونُ على الثَّاني بمَعْنى التَّفْسيرِ الَّذي هو شَرْحُ الكَلِماتِ والألْفاظِ، ومِن المَعْلومِ أنَّ الشَّيءَ قد يُعلَمُ مَعْناه العامُّ، ولكِنْ لا تُعلَمُ حَقيقتُه وكُنْهُه، كما في نَعيمِ الجَنَّةِ؛ فالجَمْعُ بَيْنَ أقْوالِ السَّلَفِ في مَعْنى الآيةِ أَقْوى مِن القَوْلِ بتَعارُضِها.
4- أنَّ
الأشاعِرةَ لهم مَذْهَبانِ: ويَدَّعونَ صِحَّتَهما -وهُما التَّأويلُ والتَّفْويضُ- فلو كانَتِ الآيةُ دالَّةً على تَفْويضِ المَعْنى والكَيْفيَّةِ مُطلَقًا لَما كانَ هناك حاجةٌ للقَوْلِ بالتَّأويلِ، والعَجَبُ أنَّ
الأشاعِرةَ قد احْتَجُّوا بالآيةِ نفْسِها على جَوازِ التَّأويلِ باعْتِبارِ قِراءةِ الوَصْلِ، فلو أرادوا الجَمْعَ الصَّحيحَ كانَ عليهم أن يَقولوا: إنَّ لها مَعانيَ صَحيحةً إلَّا أنَّ حَقائِقَها غَيْرُ مَعْلومةٍ لنا، أمَّا القَوْلُ بأنَّ لها مَعنًى أو لبعضِها مَعنًى، ثُمَّ الزَّعْمُ بأنَّه لا يُعرَفُ لها مَعنًى- تَناقُضٌ واضِحٌ
[661] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 90 - 116). .
قالَ
ابنُ تَيْميَّةَ: (أمَّا إدْخالُ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أو بعضِ ذلك في المُتَشابِهِ الَّذي لا يَعلَمُ تَأويلَه إلَّا اللهُ، أو اعْتِقادُ أنَّ ذلك هو المُتَشابِهُ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِ تَأويلِه كما يَقولُ كلَّ واحِدٍ مِن القَوْلَينِ طَوائِفُ مِن أصْحابِنا وغَيْرِهم، فإنَّهم وإن أصابوا في كَثيرٍ ممَّا يَقولونَه ونَجوا مِن بِدَعٍ وَقَعَ فيها غَيْرُهم، فالكَلامُ على هذا مِن وَجْهَينِ: الأوَّلُ: مَن قالَ: إنَّ هذا مِن المُتَشابِهِ، وإنَّه لا يُفهَمُ مَعْناه فنَقولُ: أمَّا الدَّليلُ على بُطْلانِ ذلك فإنِّي ما أَعلَمُ عن أحَدٍ مِن سَلَفِ الأمَّةِ ولا مِن الأئِمَّةِ؛ لا
أَحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ ولا غَيْرِه، أنَّه جَعَلَ ذلك مِن المُتَشابِهِ الدَّاخِلِ في هذه الآيةِ، ونَفى أن يَعلَمَ أحَدٌ مَعْناه، وجَعَلوا أسْماءَ اللهِ وصِفاتِه بمَنزِلةِ الكَلامِ الأعْجَميِّ الَّذي لا يُفهَمُ، ولا قالوا: إنَّ اللهَ يُنزِلُ كَلامًا لا يَفهَمُ أحدٌ مَعْناه، وإنَّما قالوا كَلِماتٍ لها مَعانٍ صَحيحةٌ، قالوا في أحاديث الصِّفاتِ: تُمَرُّ كما جاءَت، ونَهَوا عن تَأويلاتِ
الجَهْميَّةِ ورَدُّوها وأَبطَلوها، الَّتي مَضْمونُها تَعْطيلُ النُّصوصِ عمَّا دَلَّتْ عليه، ونُصوصُ
أَحمَدَ والأئِمَّةِ قَبْلَه بَيِّنةٌ في أنَّهم كانوا يُبطِلونَ تَأويلاتِ
الجَهْميَّةِ، ويُقِرُّونَ النُّصوصَ على ما دَلَّتْ عليه مِن مَعْناها، ويَفهَمونَ مِنها بعضَ ما دَلَّتْ عليه، كما يَفهَمونَ ذلك في سائِرِ نُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ والفَضائِلِ وغَيْرِ ذلك، و
أَحمَدُ قد قالَ في غَيْرِ أحاديثِ الصِّفاتِ: تُمَرُّ كما جاءَتْ، وفي أحاديثِ الوَعيدِ مِثلُ قَوْلِه:
((مَن غَشَّنا فليس مِنَّا)) [662] أخرجه مسلم (101) مطوَّلًا مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأحاديثِ الفَضائِلِ، ومَقْصودُه بِذلك أنَّ الحَديثَ لا يُحَرَّفُ كَلِمُه عن مَواضِعِه كما يَفعَلُه مَن يُحَرِّفُه، ويُسمَّى تَحْريفُه تَأويلًا بالعُرْفِ المُتَأخِّرِ، فتَأويلُ هؤلاء المُتَأخِّرينَ عنْدَ الأئِمَّةِ تَحْريفٌ باطِلٌ، وكذلك نَصَّ
أَحمَدُ في كِتابِ الرَّدِّ على الزَّنادِقةِ و
الجَهْميَّةِ أنَّهم تَمَسَّكوا بمُتَشابِهِ القُرْآنِ، وتَكلَّمَ
أَحمَدُ على ذلك المُتَشابِهِ، وبَيَّنَ مَعْناه وتَفْسيرَه بما يُخالِفُ تَأويلَ
الجَهْميَّةِ، وجَرى في ذلك على سَنَنِ الأئِمَّةِ قَبْلَه، فهذا اتِّفاقٌ مِن الأئِمَّةِ على أنَّهم يَعلَمونَ مَعْنى هذا المُتَشابِهِ، وأنَّه لا يُسكَتُ عن بَيانِه وتَفْسيرِه، بلْ يُبيَّنُ ويُفسَّرُ باتِّفاقِ الأئِمَّةِ مِن غَيْرِ تَحْريفٍ له عن مَواضِعِه أو إلْحادٍ في أسْماءِ اللهِ وآياتِه. وممَّا يُوَضِّحُ لك ما وَقَعَ هنا مِن الاضْطِرابِ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقونَ على إبْطالِ تَأويلاتِ
الجَهْميَّةِ ونَحْوِهم مِن المُنْحَرِفينَ المُلْحِدينَ. والتَّأويلُ المَرْدودُ هو صَرْفُ الكَلامِ عن ظاهِرِه إلى ما يُخالِفُ ظاهِرَه، فلو قيلَ: إنَّ هذا هو التَّأويلُ المَذْكورُ في الآيةِ، وأنَّه لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، لَكانَ في هذا تَسْليمٌ للجَهْميَّةِ أنَّ للآيةِ تَأويلًا يُخالِفُ دَلالتَها، لكنَّ ذلك لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وليس هذا مَذهَبَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ، وإنَّما مَذهَبُهم نَفْيُ هذه التَّأويلاتِ ورَدُّها لا التَّوقُّفُ فيها، وعنْدَهم قِراءةُ الآيةِ والحَديثِ تَفْسيرُها، وتُمَرُّ كما جاءَتْ دالَّةً على المَعاني، لا تُحرَّفُ ولا يُلحَدُ فيها)
[663] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 294 - 296). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (قَوْلُ
رَبيعةَ و
مالِكٍ: الاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهولٍ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، مُوافِقٌ لقَوْلِ الباقينَ: أَمِرُّوها كما جاءَتْ بلا كَيْفٍ، فإنَّما نَفَوا عِلمَ الكَيْفيَّةِ، ولم يَنْفوا حَقيقةَ الصِّفةِ، ولو كانَ القَوْمُ قد آمَنوا باللَّفْظِ المُجرَّدِ مِن غَيْرِ فَهْمٍ لمَعْناه -على ما يَليقُ باللهِ- لَما قالوا: الاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهولٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، ولَما قالوا: أَمِرُّوها كما جاءَتْ بِلا كَيْفٍ؛ فإنَّ الاسْتِواءَ حينَئذٍ لا يكونُ مَعْلومًا بلْ مَجْهولًا بمَنزِلةِ حُروفِ المُعجَمِ. وأيضًا: فإنَّه لا يَحْتاجُ إلى نَفْيِ عِلمِ الكَيْفيَّةِ إذا لم يُفهَمْ عن اللَّفْظِ مَعنًى، وإنَّما يَحْتاجُ إلى نَفْيِ عِلمِ الكَيْفيَّةِ إذا أُثْبِتَتِ الصِّفاتُ. وأيضًا: فإنَّ مَن يَنْفي الصِّفاتِ الخَبَريَّةَ -أو الصِّفاتِ مُطلَقًا- لا يَحْتاجُ إلى أن يقولَ: بِلا كَيْفٍ، فمَن قالَ: إنَّ اللهَ ليس على العَرْشِ لا يَحْتاجُ أن يقولَ: بِلا كَيْفٍ، فلو كانَ مَذهَبُ السَّلَفِ نَفْيَ الصِّفاتِ في نفْسِ الأمْرِ لَما قالوا: بِلا كَيْفٍ. وأيضًا: فقَوْلُهم: أَمِرُّوها كما جاءَتْ، يَقْتَضي إبْقاءَ دَلالتِها على ما هي عليه، فإنَّها جاءَتْ ألْفاظٌ دالَّةٌ على مَعانٍ، فلو كانَتْ دَلالتُها مُنْتفِيةً لَكانَ الواجِبُ أن يُقالَ: أَمِرُّوا لَفْظَها معَ اعْتِقادِ أنَّ المَفْهومَ مِنها غَيْرُ مُرادٍ، أو أَمِرُّوا لَفْظَها معَ اعْتِقادِ أنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بما دَلَّتْ عليه حَقيقةٌ، وحينَئذٍ فلا تكونُ قد أُمِرَّتْ كما جاءَتْ، ولا يُقالُ حينَئذٍ: بِلا كَيْفٍ؛ إذْ نَفْيُ الكَيْفِ عمَّا ليس بثابِتٍ لَغْوٌ مِن القَوْلِ!)
[664] ((مجموع الفتاوى)) (5/ 41). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ: (قَوْلُ
مالِكِ بنِ أنَسٍ لمَّا سُئِلَ عن قَوْلِه تَعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف اسْتَوى؟ فقالَ: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ، وكذلك
رَبيعةُ قَبْلَه، وقد تَلَقَّى النَّاسُ هذا الكَلامَ بالقَبولِ، فليس في أهْلِ السُّنَّةِ مَن يُنكِرُه، وقدْ بَيَّنَ أنَّ الاسْتِواءَ مَعْلومٌ كما أنَّ سائِرَ ما أَخبَرَ به مَعْلومٌ، ولكنَّ الكَيْفيَّةَ لا تُعلَمُ، ولا يَجوزُ السُّؤالُ عنها، لا يُقالُ: كيف اسْتَوى...؟ فإن قيلَ: مَعْنى قَوْلِه: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ أنَّ وُرودَ هذا اللَّفْظِ في القُرْآنِ مَعْلومٌ، كما قالَه بعضُ أصْحابِنا الَّذين يَجعَلونَ مَعْرِفةَ مَعانيها مِن التَّأويلِ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِه. قيلَ: هذا ضَعيفٌ؛ فإنَّ هذا مِن بابِ تَحْصيلِ الحاصِلِ، فإنَّ السَّائِلَ قد عَلِمَ أنَّ هذا مَوْجودٌ في القُرْآنِ، وقدْ تَلا الآيةَ. وأيضًا فلم يَقُلْ: ذِكْرُ الاسْتِواءِ في القُرْآنِ ولا إخْبارُ اللهِ بالاسْتِواءِ، وإنَّما قالَ: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، فأَخبَرَ عن الاسْمِ المُفرَدِ أنَّه مَعْلومٌ، لم يُخبِرْ عن الجُملةِ. وأيضًا فإنَّه قالَ: والكَيْفُ مَجْهولٌ، ولو أرادَ ذلك لَقالَ: مَعْنى الاسْتِواءِ مَجْهولٌ، أو تَفْسيرُ الاسْتواءِ مَجْهولٌ، أو بَيانُ الاسْتِواءِ غَيْرُ مَعْلومٍ، فلم يَنْفِ إلَّا العِلمَ بكَيْفيَّةِ الاسْتِواءِ، لا العِلمَ بنفْسِ الاسْتِواءِ، وهذا شأنُ جَميعِ ما وَصَفَ اللهُ به نفْسَه، لو قالَ في قَوْلِه:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] كيف يَسمَعُ؟ وكيف يَرى؟ لَقُلْنا: السَّمْعُ والرُّؤْيا مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، ولو قالَ: كيف كَلَّمَ موسى تَكْليمًا؟ لَقُلْنا: التَّكْليمُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْلومٍ)
[665] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 308 - 310). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (غايةُ ما يَنْتَهي إليه هؤلاء المُعارِضونَ لِكَلامِ اللهِ ورَسولِه بآرائِهم مِن المَشْهورينَ بالإسْلامِ، هو التَّأويلُ أو التَّفْويضُ...، والتَّأويلُ المَقْبولُ: هو ما دَلَّ على مُرادِ المُتَكلِّمِ، والتَّأويلاتُ الَّتي يَذكُرونَها لا يُعلَمُ أنَّ الرَّسولَ أرادَها، بل يُعلَمُ بالاضْطِرارِ في عامَّةِ النُّصوصِ أنَّ المُرادَ مِنها نَقيضُ ما قالَه الرَّسولُ...، وحينَئذٍ فالمُتَأوِّلُ إن لم يكنْ مَقْصودُه مَعْرِفةَ مُرادِ المُتَكلِّمِ كانَ تَأويلُه للَّفْظِ بما يَحتَمِلُه مِن حيثُ الجُمْلةُ في كلامِ مَن تَكلَّمَ بمِثلِه مِن العَرَبِ- هو مِن بابِ التَّحْريفِ والإلْحادِ، لا مِن بابِ التَّفْسيرِ وبَيانِ المُرادِ.
وأمَّا التَّفْويضُ: فإنَّ مِن المَعْلومِ أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَنا أن نَتَدبَّرَ القُرْآنَ، وحَضَّنا على عَقْلِه وفَهْمِه، فكيف يَجوزُ معَ ذلك أن يُرادَ مِنَّا الإعْراضُ عن فَهْمِه ومَعْرِفتِه وعَقْلِه؟! وأيضًا فالخِطابُ الَّذي أُريدَ به هُدانا والبَيانُ لنا، وإخْراجُنا مِن الظُّلَماتِ إلى النُّورِ، إذا كانَ ما ذُكِرَ فيه مِن النُّصوصِ ظاهِرُه باطِلٌ وكُفْرٌ، ولم يُرِدْ منَّا أن نَعرِفَ لا ظاهِرَه ولا باطِنَه، أو أُريدَ منَّا أن نَعرِفَ باطِنَه مِن غَيْرِ بَيانٍ في الخِطابِ لِذلك، فعلى التَّقْديرَينِ لم نُخاطَبْ بما بُيِّنَ فيه الحَقُّ، ولا عَرَفْنا أنَّ مَدْلولَ هذا الخِطابِ باطِلٌ وكُفْرٌ. وحَقيقةُ قَوْلِ هؤلاء في المُخاطَبِ لنا: أنَّه لم يُبَيِّنِ الحَقَّ ولا أَوضَحَه، معَ أمْرِه لنا أن نَعْتقِدَه، وأنَّ ما خاطَبَنا به وأمَرَنا باتِّباعِه والرَّدِّ إليه لم يُبَيِّنْ به الحَقَّ ولا كَشَفَه، بل دَلَّ ظاهِرُه على الكُفْرِ والباطِلِ، وأرادَ منَّا أن نَفهَمَ مِنه شَيئًا، أو أن نَفهَمَ مِنه ما لا دَليلَ عليه فيه! وهذا كلُّه ممَّا يُعلَمُ بالاضْطِرارِ تَنْزيهُ اللهِ ورَسولِه عنه، وأنَّه مِن جِنْسِ أقْوالِ أهْلِ التَّحْريفِ والإلْحادِ)
[666] ((درء تعارض العَقْل والنَّقْل)) (1/ 201). .
فالقَوْلُ بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو عَدَمُ التَّكلُّمِ عن مَعاني الصِّفاتِ، وتَفْويضُ مَعاني الصِّفاتِ للجَهْلِ بها: قَوْلٌ خاطِئٌ، بلِ السَّلَفُ كانوا يَتَكلَّمونَ عن مَعاني الصِّفاتِ، ويُفوِّضونَ كَيْفيةَ الصِّفاتِ لا مَعانيَها، والأمْثِلةُ على ذلك كَثيرةٌ جِدًّا
[667] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 190، 454)، و (13/ 411)، ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السُّنَّة الأصبهاني (1/ 313) و (2/ 116)، ((الفتوى الحموية الكبرى)) لابن تيمية (ص: 307، 361 - 368)، ((درء تعارض العَقْل والنَّقْل)) (1/ 201 - 205)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 139)، ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) لابن عُثيمينَ (ص: 34 - 48)، ((تبرئة السلف من تفويض الخلف)) للحيدان (ص: 14). ، فمَثَلًا صِفةُ الاسْتِواءِ تَكلَّمَ السَّلَفُ عن مَعْناها؛ قالَ
البُخارِيُّ في صَحيحِه: (قالَ أبو العاليةِ:
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] : (ارْتَفَعَ)،
فَسَوَّاهُنَّ [البقرة: 29] : (خَلَقَهنَّ)، وقالَ مُجاهِدٌ:
اسْتَوَى: (عَلا على العَرْشِ)
[668] ((صحيح البخاري)) (9/ 124). .
وقالَ
البُخاريُّ أيضًا: (حَذَّرَ يَزيدُ بنُ هارونَ عن
الجَهْميَّةِ، وقالَ: مَن زَعَمَ أنَّ الرَّحْمنَ على العَرْشِ اسْتَوى على خِلافِ ما يَقِرُّ في قُلوبِ العامَّةِ فهو جَهْميٌّ، وقالَ سُلَيْمانُ التَّيْميُّ: لو سُئِلْتُ أينَ اللهُ؟ لقُلْتُ: في السَّماءِ، فإن قالَ: فأين كانَ عَرْشُه قَبْلَ السَّماءِ؟ لقُلْتُ: على الماءِ، فإن قالَ: فأين كانَ عَرْشُه قَبْلَ الماءِ؟ لقُلْتُ: لا أَعلَمُ. قالَ أبو عَبْدِ اللهِ: وذلك لِقَوْلِه تَعالى:
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] يَعْني إلَّا بما بَيَّنَ)
[669] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 36). .
ومَشْهورٌ قَوْلُ
مالِكٍ حينَ سُئِلَ عن الاسْتِواءِ: (الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ)
[670] ((الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صِفة الاستواء)) لعبد الرزاق البدر (ص: 38). .
قالَ
ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (هذه الآياتُ كلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَوْلِ
المُعْتَزِلةِ، وأمَّا ادِّعاؤُهم المَجازَ في الاسْتِواءِ، وقَوْلُهم في تَأويلِ
اسْتَوَى: اسْتَولى، فلا مَعْنى له؛ لأنَّه غَيْرُ ظاهِرٍ في اللُّغةِ، ومَعْنى الاسْتيلاءِ في اللُّغةِ المُغالَبةُ، واللهُ لا يُغالِبُه ولا يَعْلوه أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ، ومِن حَقِّ الكَلامِ أن يُحمَلَ على حَقيقتِه حتَّى تَتَّفِقَ الأمَّةُ أنَّه أُريدَ به المَجازُ؛ إذ لا سَبيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا إلَّا على ذلك، وإنَّما يُوجَّهُ كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلى الأَشهَرِ والأَظهَرِ مِن وُجوهِه ما لم يَمنَعْ مِن ذلك ما يَجِبُ له التَّسْليمُ، ولو ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لكلِّ مُدَّعٍ ما ثَبَتَ شيءٌ مِن العِباراتِ، وجَلَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن أن يُخاطِبَ إلَّا بما تَفهَمُه العَرَبُ في مَعْهودِ مُخاطَباتِها ممَّا يَصِحُّ مَعْناه عنْدَ السَّامِعينَ، والاسْتِواءُ مَعْلومٌ في اللُّغةِ ومَفْهومٌ، وهو العُلُوُّ والارْتِفاعُ على الشَّيءِ والاسْتِقرارُ والتَّمكُّنُ فيه. قالَ أبو عُبَيْدةَ في قَوْلِه تَعالى: اسْتَوى، قالَ: عَلا، قالَ: وتقولُ العَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ، واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ...، قالَ أبو عُمَرَ: الاسْتِواءُ: الاسْتِقرارُ في العُلْوِ، وبِهذا خاطَبَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ)
[671] ((التمهيد)) (7/ 131). .
وقالَ أبو بَكْرٍ الكلاباذيُّ: (أَجمَعوا على أنَّ للهِ صِفاتٍ على الحَقيقةِ هو بها مَوْصوفٌ مِن العِلمِ والقُدْرةِ، والقُوَّةِ، والعِزِّ، والحِلْمِ، والحِكْمةِ، والكِبْرياءِ، والجَبَروتِ، والقِدَمِ، والحَياةِ، والإرادةِ، والمَشيئةِ، والكَلامِ...، وأنَّ له سَمْعًا، وبَصَرًا، ووَجْهًا، ويَدًا على الحَقيقةِ، ليس كالأسْماعِ والأبْصارِ والأيْدي والوُجوهِ، وأَجمَعوا أنَّها صِفاتٌ للهِ)
[672] ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص: 35). .
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ: (حِفْظُ حُرْمةِ نُصوصِ الأسْماءِ والصِّفاتِ بإجْراءِ أخْبارِها على ظَواهِرِها، وهو اعْتِقادُ مَفْهومِها المُتَبادِرِ إلى أذْهانِ عامَّةِ الأمَّةِ، كما قالَ
مالِكٌ رَحِمَه اللهُ وقد سُئِلَ عن قَوْلِه تَعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف اسْتَوى؟ فأَطرَقَ
مالِكٌ حتَّى عَلاه الرُّحَضاءُ، ثُمَّ قالَ: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ. ففَرَّقَ بَيْنَ المَعْنى المَعْلومِ مِن هذه اللَّفْظةِ، وبَيْنَ الكَيْفِ الَّذي لا يَعقِلُه البَشَرُ، وهذا الجَوابُ مِن
مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه شافٍ عامٌّ في جَميعِ مَسائِلِ الصِّفاتِ، فمَن سَألَ عن قَوْلِه:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] كيف يَسمَعُ ويَرى؟ أُجيبَ بِهذا الجَوابِ بعَيْنِه، فقيلَ له: السَّمْعُ والبَصَرُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ. وكذلك مَن سألَ عن العِلمِ، والحَياةِ، والقُدْرةِ، والإرادةِ، والنُّزولِ، والغَضَبِ، والرِّضا، والرَّحْمةِ، والضَّحِكِ، وغَيْرِ ذلك، فمَعانيها كلُّها مَفْهومةٌ، وأمَّا كَيْفيَّتُها فغَيْرُ مَعْقولةٍ؛ إذ تَعَقُّلُ الكَيْفيَّةِ فَرْعُ العِلمِ بكَيْفيَّةِ الذَّاتِ وكُنْهِها. فإذا كانَ ذلك غَيْرَ مَعْقولٍ للبَشَرِ، فكيف يُعقَلُ لهم كَيْفيَّةُ الصِّفاتِ؟ والعِصْمةُ النَّافِعةُ في هذا البابِ: أن يُوصَفَ اللهُ بما وَصَفَ به نفْسَه، وبما وَصَفَه به رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ، بل تُثبَتُ له الأسْماءُ والصِّفاتُ، وتُنْفى عنه مُشابَهةُ المَخْلوقاتِ، فيكونُ إثْباتُك مُنَزَّهًا عن التَّشْبيهِ، ونَفْيُك مُنَزَّهًا عن
التَّعْطيلِ، فمَن نَفى حَقيقةَ الاسْتِواءِ فهو مُعَطِّلٌ، ومَن شَبَّهَه باسْتِواءِ المَخْلوقِ على المَخْلوقِ فهو مُمَثِّلٌ، ومَن قالَ: اسْتِواءٌ ليس كمِثلِه شيءٌ، فهو المُوَحِّدُ المُنزِّهُ، وهكذا الكَلامُ في السَّمْعِ، والبَصَرِ، والحَياةِ، والإرادةِ، والقُدْرةِ، واليَدِ، والوَجْهِ، والرِّضا، والغَضَبِ، والنُّزولِ، والضَّحِكِ، وسائِرِ ما وَصَفَ اللهُ به نفْسَه)
[673] ((مدارج السالكين)) (2/ 84). .
المَسلَكُ الثَّاني: مَسلَكُ التَّأويلِالتَّأويلُ: هو صَرْفُ اللَّفْظِ عن الاحْتِمالِ الرَّاجِحِ إلى الاحْتِمالِ المَرْجوحِ، فيُحمَلُ اللَّفْظُ على خِلافِ ظاهِرِه إلى مَعنًى آخَرَ؛ سواءٌ كانَ مُرادًا لِلمُتَكلِّمِ أو غَيْرَ مُرادٍ، فإن كانَ التَّأويلُ بدَليلٍ كانَ المَعْنى الآخَرُ مُرادًا، وكانَ التَّأويلُ صَحيحًا، وإن كانَ التَّأويلُ بلا دَليلٍ، فهو غَيْرُ مُرادٍ لِلمُتَكلِّمِ، وكانَ التَّأويلُ فاسِدًا
[674] يُنظر: ((درء تعارض العَقْل والنَّقْل)) لابن تيمية (5/ 234)، ((شرح العضد على مختصر المنتهى الأُصولي)) للإيجي (3/ 146)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/ 330)، ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 156). .
وقد أَكثَرَ
الأشاعِرةُ مِن الخَوْضِ في تَأويلِ آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، بل جَعَلوا ذلك مِن أَهَمِّ أغْراضِهم في كُتُبِ العَقائِدِ كما فَعَلَ ذلك أبو بَكْرِ بنُ فورَكٍ في كِتابِه "مُشكِلِ الحَديثِ وبَيانِه"
[675] يُنظر: ((مشكل الحديث وبيانه)) (ص: 37 - 499). ، ولِبعضِ أئِمَّةِ
الأشاعِرةِ قَوْلانِ في الصِّفاتِ: التَّأويلُ والتَّفْويضُ، ك
أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ.
قالَ
أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ: (ذِكْرُ تَأويلِ جُمَلٍ مِن ظَواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ: اعْلَموا وَفَّقَكم اللهُ أنَّا كُنَّا على أن نَجْتزِئَ بما ذَكَرَه الأسْتاذُ أبو بَكْرٍ في تَصْنيفِه المَذْكورِ المَشْهورِ المُشْتمِلِ على تَأويلِ مُشكِلاتِ الأخْبارِ، ولكنِ اقْتَضى الحالُ أن نَذكُرَ أُصولَ التَّأويلاتِ ومَآخِذَها، ونُرشِدَ إلى جَميعِ مَدارِكِها معَ إثْباتِ الاخْتِصارِ، واللهُ المُوَفِّقُ للصَّوابِ. وسَبيلُنا أن نَبدَأَ بظَواهِرَ مِن كِتابِ اللهِ تَعالى، ونَذكُرَ وُجوهَ التَّأويلِ فيها، ثُمَّ نَذكُرَ بَعْدَ تَقدُّرِ الفَراغِ مِنها جُمَلًا مِن السُّنَنِ الواقِعةِ مِن المَسانِدِ المُصَحَّحةِ عنْدَ الأثْباتِ والثِّقاتِ، ثُمَّ نُشيرَ إلى جُمَلٍ مِن المُتَأكَّدِ الَّتي يَتَمَسَّكُ بها الحَشَويَّةُ، ونُوضِّحَ أنَّها لو صَحَّتْ لم تَضِقْ مَسالِكُ التَّأويلِ مِنها)
[676] ((الشامل في أُصول الدين)) (ص: 543). .
ومعَ خَوْضِ
أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ في التَّأويلِ فإنَّه لم يَطْمَئِنَّ لِما قَرَّرَه مِن التَّأويلاتِ، فرَجَعَ بَعْدَ ذلك عن التَّأويلِ إلى التَّفْويضِ، وظَنَّ أنَّ التَّفْويضَ هو مَذهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
قالَ
الجُوَيْنيُّ: (اخْتَلَفَتْ مَسالِكُ العُلَماءِ في الظَّواهِرِ الَّتي وَرَدَتْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وامْتَنَعَ على أهْلِ الحَقِّ اعْتِقادُ فَحْواها، وإجْراؤُها على موجِبِ ما تَبْتَدِرُه أفْهامُ أرْبابِ اللِّسانِ مِنها.
فرأى بعضُهم تَأويلَها، والْتَزَمَ هذا المَنهَجَ في آيِ الكِتابِ، وما يَصِحُّ مِن سُنَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وذَهَبَ أئِمَّةُ السَّلَفِ إلى الانْكِفافِ عن التَّأويلِ، وإجْراءِ الظَّواهِرِ على مَوارِدِها، وتَفْويضِ مَعانيها إلى الرَّبِّ تَعالى، والَّذي نَرْتَضيه رَأيًا، ونَدينُ اللهَ به عَقْدًا: اتِّباعُ سَلَفِ الأمَّةِ؛ فالأَوْلى الاتِّباعُ، وتَرْكُ الابْتِداعِ. والدَّليلُ السَّمْعيُّ القاطِعُ في ذلك أنَّ إجْماعَ الأمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعةٌ، وهو مُستَنَدُ مُعظَمِ الشَّريعةِ. وقد دَرَجَ صَحْبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَضيَ عنهم، على تَرْكِ التَّعرُّضِ لمَعانيها، ودَرَكِ ما فيها، وهُمْ صَفوةُ الإسْلامِ والمُسْتقِلُّونَ بأعْباءِ الشَّريعةِ، وكانوا لا يَألُونَ جُهْدًا في ضَبْطِ قَواعِدِ المِلَّةِ، والتَّواصي بحِفْظِها، وتَعْليمِ النَّاسِ ما يَحْتاجونَ إليه مِنها، فلو كانَ تَأويلُ هذه الظَّواهِرِ مُسَوَّغًا ومَحْتومًا، لَأَوشَكَ أن يكونَ اهْتِمامُهم بها فَوْقَ اهْتِمامِهم بفُروعِ الشَّريعةِ، وإذا انْصَرَفَ عَصْرُهم وعَصْرُ التَّابِعينَ رَضيَ اللهُ عنهم على الإضْرابِ عن التَّأويلِ، كانَ ذلك قاطِعًا، وأنَّه الوَجْهُ المُتَّبَعُ، فحَقَّ على ذي الدِّينِ أن يَعْتقِدَ تَنزُّهَ الباري عن صِفاتِ المُحدَثينَ، ولا يَخوضَ في تَأويلِ المُشكِلاتِ، ويَكِلَ مَعْناها إلى الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى)
[677] ((العَقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 165). .
وكلامُ
الأشاعِرةِ في تَأويلِ نُصوصِ الصِّفاتِ كَثيرٌ جِدًّا، لا سِيَّما المُتَأخِّرونَ مِنهم، ومِن ذلك ما يَلي:
1- قالَ
الغَزاليُّ: (أَدِلَّةُ العُقولِ دَلَّت على اسْتِحالةِ المَكانِ، والجِهةِ، والصُّورةِ، ويَدِ الجارِحةِ، وعَيْنِ الجارِحةِ، وإمْكانِ الانْتِقالِ والاسْتِقرارِ على الله سُبْحانَه؛ فوَجَبَ التَّأويلُ بأَدِلَّةِ العُقولِ، وما وَعَدَ مِن الأُمورِ الآخِرةِ ليس مُحالًا في قُدْرةِ اللهِ تَعالى، فيَجِبُ الجَرْيُ على ظاهِرِ الكَلامِ، بل على فَحْواه الَّذي هو صَريحٌ فيه)
[678] ((تهافت الفَلاسِفة)) (ص: 293). .
وقالَ
الغَزاليُّ أيضًا: (
الأَشْعَرِيُّ والمُعْتَزِليُّ لزِيادةِ بَحْثِهما تَجاوَزا ذلك إلى تَأويلِ ظَواهِرَ كَثيرةٍ، وأَقرَبُ النَّاسِ إلى الحَنابِلةِ في أمورِ الآخِرةِ
الأَشْعَرِيَّةُ وَفَّقَهم اللهُ؛ فإنَّهم قَرَّروا فيها أَكثَرَ الظَّواهِرِ إلَّا يَسيرًا، و
المُعْتَزِلةُ أَشَدُّ مِنهم تَوَغُّلًا في التَّأويلاتِ، وهُمْ معَ هذا -أَعْني
الأَشْعَريَّةَ- يُضْطَرُّونَ أيضًا إلى تَأويلِ أمورٍ كما ذَكَرْناه مِن قَوْلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((إنَّه يُؤْتى بالمَوْتِ في صورةِ كَبْشٍ أَملَحَ ))، وكما وَرَدَ مِن وَزْنِ الأعْمالِ بالميزانِ؛ فإنَّ
الأَشْعَرِيَّ أوَّلَ وَزْنَ الأعْمالِ فقالَ: تُوزَنُ صَحائِفُ الأعْمالِ)
[679] ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) (ص: 42). .
ول
أبي حامِدٍ الغَزاليِّ كَلامٌ يَميلُ فيه إلى تَرْجيحِ التَّفْويضِ على التَّأويلِ، فقالَ: (أَكثَرُ ما قيلَ في التَّأويلاتِ ظُنونٌ وتَخْميناتٌ، والعاقِلُ فيه بَيْنَ أن يَحكُمَ بالظَّنِّ، وبَيْنَ أن يقولَ: أَعلَمُ أنَّ ظاهِرَه غَيْرُ مُرادٍ؛ إذ فيه تَكْذيبٌ للعَقْلِ، وأمَّا عَيْنُ المُرادِ فلا أَدْري، ولا حاجةَ إلى أن أَدْري؛ إذ لا يَتَعلَّقُ به عَمَلٌ ولا سَبيلَ فيه إلى حَقيقةِ الكَشْفِ واليَقينِ، ولسْتُ أرى أن أَحكُمَ بالتَّخْمينِ، وهذا أَصوَبُ وأَسلَمُ عنْدَ كلِّ عاقِلٍ، وأَقرَبُ إلى الأمْنِ في القِيامةِ؛ إذ لا يَبْعُدُ أن يُسأَلَ في القِيامةِ ويُطالَبَ ويُقالَ: حَكَمْتَ علينا بالظَّنِّ! ولا يُقالُ له: لِمَ لم تَسْتنبِطْ مُرادَنا الخَفِيَّ الغامِضَ الَّذي لم يُؤمَرْ فيه بعَمَلٍ؟ وليس عليك فيه مِن الاعْتِقادِ إلَّا الإيمانُ المُطلَقُ، والتَّصْديقُ المُجمَلُ، وهو أن يقولَ:
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] ، فهذه المُطالَبةُ في القِيامةِ بَعيدةٌ، وإن كانَت فالجَوابُ عنها أَسهَلُ، ولأجْلِه قالَ
الإمامُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه لمَّا سُئِلَ عن الاسْتِواءِ: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ)
[680] ((قانون التَّأويل)) (ص: 23). .
2- قالَ
الفَخْرُ الرَّازِيُّ: (شَرْطُ التَّمسُّكِ بالدَّلائِلِ النَّقْليَّةِ عَدَمُ المُعارِضِ العَقْليِّ القاطِعِ؛ لأنَّ بتَقْديرِ وُجودِه يَجِبُ صَرْفُ الظَّاهِرِ السَّمْعيِّ إلى التَّأويلِ)
[681] ((الأربعين في أُصول الدين للرازي)) (2/ 253) بتصَرُّفٍ. .
وقالَ أيضًا: (الدَّلالةُ السَّمْعيَّةُ: إمَّا أن تكونَ تَواتُرًا أو آحادًا، أمَّا الآحادُ فلا يُفيدُ العِلمَ، أمَّا التَّواتُرُ فإمَّا أن يكونَ مُحْتمِلًا للتَّأويلِ أو لا يكونَ كذلك، فأمَّا المُحتَمِلُ للتَّأويلِ فلا يَنْتَهِضُ حُجَّةً في القَطْعيَّاتِ، وأمَّا النَّصُّ المُتَواتِرُ الَّذي لا يَحتَمِلُ التَّأويلَ لو كانَ مَوْجودًا لَكانَ العِلمُ به وبالمُرادِ مِنه ضَروريًّا، وإلَّا فلا أَقَلَّ مِن عُثورِ العُلَماءِ واطِّلاعِهم عليه بَعْدَ البَحْثِ التَّامِّ؛ ولمَّا لم نَرَهم لم يَنْقُلوا ذلك فيما أَوْرَدوه في كُتُبِهم عَلِمْنا أنَّه غَيْرُ مَوْجودٍ، وهذا واضِحٌ)
[682] ((الإشارة في علم الكلام)) (ص: 267). .
وقالَ
الرَّازِيُّ أيضًا: (اللَّفْظُ إذا كانَ له حَقيقةٌ واحِدةٌ ثُمَّ دَلَّ دَليلٌ على أنَّها غَيْرُ مُرادةٍ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ على مَجازِه، ثُمَّ ذلك المَجازُ إن كانَ واحِدًا تَعيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ إليه صَوْنًا عن
التَّعْطيلِ، وإن كانَ مُعيَّنًا بَقِيَ اللَّفْظُ مُطَّرِدًا في تلك المَجازاتِ، وحينَئذٍ فذلك الكَلامُ الَّذي ذَكَرْناه في المُجمَلِ عائِدٌ هاهنا بعَيْنِه، فثَبَتَ بما ذَكَرْنا أنَّ تَأويلَ المُتَشابِهِ قد يكونُ مَعْلومًا، وقد يكونُ مَظْنونًا، والقَوْلُ بالظَّنِّ غَيْرُ حاصِلٍ على ما سَبَقَ تَقْريرُه في بابِ أنَّ التَّمسُّكَ بخَبَرِ الواحِدِ في مَعْرِفةِ اللهِ غَيْرُ جائِزٍ، فهذا هو الكَلامُ في تَقْريرِ مَذهَبِ السَّلَفِ، وأمَّا المُتَكلِّمونَ القائِلونَ في تَأويلاتِ المُفَصَّلةِ فحُجَّتُهم ما تَقدَّمَ أنَّ القُرْآنَ يَجِبُ أن يكونَ مَفْهومًا، ولا سَبيلَ إليه في رِواياتِ المُتَشابِهةِ إلَّا بذِكْرِ التَّأويلاتِ، فكانَ المَصيرُ إليه واجِبًا، واللهُ أَعلَمُ)
[683] ((أساس التقديس في علم الكلام)) (ص: 140) باختِصارٍ وتصَرُّفٍ. .
3- قالَ التَّفْتازانيُّ: (الأَدِلَّةُ القَطْعيَّةُ قائِمةٌ على التَّنْزيهاتِ، فيَجِبُ أن يُفوَّضَ عِلمُ النُّصوصِ إلى اللهِ تَعالى، على ما هو دَأبُ السَّلَفِ، إيثارًا للطَّريقِ الأَسلَمِ، أو تُؤَوَّلَ بتَأويلاتٍ صَحيحةٍ على ما اخْتارهَ المُتَأخِّرونَ؛ دَفْعًا لمَطاعِنِ الجاهِلينَ)
[684] ((شرح العَقائِد النسفية)) (ص: 35). .
4- قال الصَّفاقُسِيُّ في بَيانِ طَريقةِ
الأشاعِرةِ في نُصوصِ الصِّفاتِ: (أنت مُخيَّرٌ في: أن تُؤَوِّلَه بتَأويلٍ خاصٍّ يَليقُ بالجَنابِ الرَّفيعِ؛ كتَأويلِ اليَدِ بالقُدْرةِ أو النِّعْمةِ؛ الَّذي هو مَعْناها المَجازِيُّ، في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، وتَأويلِ الوَجْهِ بالوُجودِ والذَّاتِ في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وتَأويلِ العَيْنِ في نَحْوِ قَوْلِه تَعالى:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] بالحِفْظِ والرِّعايةِ؛ وكتَأويلِ الاسْتِواءِ في قَوْلِه تَعالى:
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] بالاسْتِيلاءِ؛ فإنَّ الاسْتِواءَ لَفْظٌ له مَعْنيانِ:
قَريبٌ: وهو الاسْتِقرارُ، ويَتَعالى مَوْلانا عنه.
وبَعيدٌ: وهو الاسْتِيلاءُ والقَهْرُ والغَلَبةُ، وهو المُرادُ مِن الآيةِ ونَحْوِها؛ إذ هو اللَّائِقُ بالمَوْلى تَعالى كما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
قد اسْتَوى بِشْرٌ على العِراقِ
مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
فيكونُ مِن بابِ التَّوْريةِ، وهي مِن بَديعِ
البَلاغةِ. هذا مَذهَبُ الخَلَفِ، وهو أَعلَمُ وأَحكَمُ. (أو) أَوِّلْه إجْمالًا لا تَفْصيلًا، و(فَوِّضِ) الأمْرَ في المُرادِ مِنها تَفْصيلًا إلى اللهِ العَليمِ الحَكيمِ. وهذا مَذهَبُ السَّلَفِ، وهو أَسلَمُ لسَلامتِه مِن التَّجاسُرِ على تَأويلِ المُتَشابِهِ الَّذي لا يَعلَمُ تَأويلَه إلَّا اللهُ)
[685] ((تقريب البعيد إلى جوهر التوحيد)) (ص: 63 - 65). .
فهذا غَيْضٌ مِن فَيْضٍ ممَّا في كُتُبِ
الأشاعِرةِ مِن القَوْلِ بالتَّأويلِ الَّذي هو في الحَقيقةِ تَحْريفٌ لا يَسْتَطيعُ المُنصِفُ أن يَجزِمَ أنَّه مُرادُ اللهِ سُبْحانَه، وقد جَعَلَه
الأشاعِرةُ مَسلَكًا في آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، والأمْرُ كما قالَ
ابنُ تَيْميَّةَ: (تَحْريفُ التَّأويلِ كَثيرٌ جِدًّا، وقدِ ابْتُلِيَتْ به طَوائِفُ مِن هذه الأمَّةِ)
[686] ((اقتضاء الصراط المستقيم لمُخالِفة أصحاب الجحيم)) (1/ 88). .
وقالَ أيضًا: (يَنْبَغي للمُسلِمِ أن يَقدُرَ قَدْرَ كَلامِ اللهِ ورَسولِه، بل ليس لأحَدٍ أن يَحمِلَ كَلامَ أحَدٍ مِن النَّاسِ إلَّا على ما عُرِفَ أنَّه أرادَه لا على ما يَحْتمِلُه ذلك اللَّفْظُ في كَلامِ كلِّ أحَدٍ؛ فإنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ يَتَأوَّلُ النُّصوصَ المُخالِفةَ لقَوْلِه، يَسلُكُ مَسلَكَ مَن يَجعَلُ التَّأويلَ كأنَّه ذِكْرُ ما يَحْتمِلُه اللَّفْظُ، وقَصْدُه به دَفْعُ ذلك المُحتَجِّ عليه بذلك النَّصِّ، وهذا خَطَأٌ، بل جَميعُ ما قالَه اللهُ ورَسولُه يَجِبُ الإيمانُ به، فليس لنا أن نُؤمِنَ ببعضِ الكِتابِ، ونَكفُرَ ببعضٍ، وليس الاعْتِناءُ بمُرادِه في أحَدِ النَّصَّينِ دونَ الآخَرِ بأَوْلى مِن العَكْسِ، فإذا كانَ النَّصُّ الَّذي وافَقَه يَعْتقِدُ أنَّه اتَّبَعَ فيه مُرادَ الرَّسولِ؛ فكذلك النَّصُّ الآخَرُ الَّذي تَأوَّلَه، فيكونُ أصْلُ مَقْصودِه مَعْرِفةَ ما أرادَه الرَّسولُ بكَلامِه)
[687] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 36). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (ابنُ كُلَّابٍ إمامُ
الأَشْعَريَّةِ أَكثَرُ مُخالَفةً ل
جَهْمٍ، وأَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن
الأَشْعَرِيِّ نفْسِه، و
الأَشْعَرِيُّ أَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن القاضي أبي بَكْرٍ الباقِلَّانيِّ، والقاضي أبو بَكْرٍ وأمْثالُه أَقرَبُ إلى السَّلَفِ مِن أبي المَعالي وأتْباعِه؛ فإنَّ هؤلاء نَفَوا الصِّفاتِ؛ كالاسْتِواءِ، والوَجْهِ، واليَدَينِ، ثُمَّ اخْتَلَفوا: هل تُتأوَّلُ أو تُفوَّضُ؟ على قَوْلَينِ أو طَريقَينِ، فأوَّلُ قَوْلَي أبي المَعالي هو تَأويلُها كما ذَكَرَ ذلك في الإرْشادِ، وآخِرُ قَوْلَيه تَحْريمُ التَّأويلِ، ذَكَرَ ذلك في الرِّسالةِ النِّظاميَّةِ، واسْتَدلَّ بإجْماعِ السَّلَفِ على أنَّ التَّأويلَ ليس بسائِغٍ ولا واجِبٍ، وأمَّا
الأَشْعَرِيُّ نفْسُه وأئِمَّةُ أصْحابِه فلم يَخْتلِفْ قَوْلُهم في إثْباتِ الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، وفي الرَّدِّ على مَن يَتَأوَّلُها كمَن يقولُ: اسْتَوى بمَعْنى: اسْتَولى، وهذا مَذْكورٌ في كُتُبِه كلِّها؛ كالمُوجَزِ الكَبيرِ، والمَقالاتِ الصَّغيرةِ والكَبيرةِ، والإبانةِ، وغَيْرِ ذلك، وهكذا نَقَلَ سائِرُ النَّاسِ عنه حتَّى المُتَأخِّرونَ؛ ك
الرَّازِيِّ، و
الآمِدِيِّ، يَنقُلونَ عنه إثْباتَ الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، ولا يَحْكونَ عنه في ذلك قَوْلَينِ؛ فمَن قالَ: إنَّ
الأَشْعَرِيَّ كانَ يَنْفيها، وأنَّ له في تَأويلِها قَوْلَينِ فقدِ افْتَرى عليه، ولكنَّ هذا فِعْلُ طائِفةٍ مِن مُتَأخِّري أصْحابِه كأبي المَعالي ونَحْوِه؛ فإنَّ هؤلاء أَدخَلوا في مَذهَبِه أشْياءَ مِن أُصولِ
المُعْتَزِلةِ)
[688] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 202) باختِصارٍ. .
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ: (قَوْلُ القائِلِ: يُحمَلُ اللَّفْظُ على كَذا وكَذا، يُقالُ له: ما تَعْني بالحَمْلِ؟ أَتَعْني به أنَّ اللَّفْظَ مَوْضوعٌ لِهذا المَعْنى؟ فهذا نَقْلٌ مُجَرَّدٌ مَوضِعُه كُتُبُ اللُّغةِ، فلا أثَرَ لحَمْلِك، أم تَعْني به اعْتِقادَ أنَّ المُتَكلِّمَ أرادَ ذلك المَعْنى الَّذي حَمَلْتَه عليه؟ فهذا قَوْلٌ عليه بلا عِلمٍ، وهو كَذِبٌ مُفْترًى إن لم تَأتِ بدَليلٍ يَدُلُّ على أنَّ المُتَكلِّمَ أرادَه، أم تَعْني به أنَّك أَنشَأْتَ له مَعنًى فإذا سَمِعْتَه اعْتَقَدْتَ أنَّ ذلك معناه؟ وهذا حَقيقةُ قَوْلِك وإن لم تُرِدْه، فالحَمْلُ إمَّا إخْبارٌ عن المُتَكلِّمِ بأنَّه أرادَ ذلك المَعْنى، فهذا الخَبَرُ إمَّا صادِقٌ إن كانَ ذلك المَعْنى هو المَفْهومُ مِن لَفْظِ المُتَكلِّمِ، وإمَّا كاذِبٌ إن كانَ لَفْظُه لم يَدُلَّ عليه؛ وإمَّا إنْشاءٌ لاسْتِعْمالِ ذلك اللَّفْظِ في هذا المَعْنى، وهذا إنَّما يكونُ في كَلامٍ تُنْشِئُه أنت، لا في كَلامِ الغَيْرِ. وحَقيقةُ الأمْرِ أنَّ قَوْلَ القائِلِ: نَحمِلُه على كَذا، أو نَتَأوَّلُه بكَذا، إنَّما هو مِن بابِ دَفْعِ دَلالةِ اللَّفْظِ على ما وُضِعَ له، فإنَّ مُنازِعَه لمَّا احْتَجَّ عليه به ولم يُمكِنْه دَفْعُ وُرودِه دَفَعَ مَعْناه، وقالَ: أَحمِلُه على خِلافِ ظاهِرِه. فإن قيلَ: بل لِلحَمْلِ مَعنًى آخَرُ لم تَذكُروه، وهو أنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحالَ أن يُرادَ به حَقيقتُه وظاهِرُه، ولا يُمكِنُ تَعْطيلُه، اسْتَدْلَلْنا بوُرودِه وعَدَمِ إرادةِ ظاهِرِه على أنَّ مَجازَه هو المُرادُ، فحَمَلْناه عليه دَلالةً لا ابْتِداءً وإنْشاءً. قيلَ: فهذا المَعْنى هو الإخْبارُ عن المُتَكلِّمِ أنَّه أرادَه، وهو إمَّا صِدْقٌ أو كَذِبٌ كما تَقدَّمَ، ومِن المُمْتنِعِ أن يُريدَ خِلافَ حَقيقتِه وظاهِرِه، ولا يُبَيِّنَ للسَّامِعِ المَعْنى الَّذي أرادَه، بل يَقْترِنُ بكَلامِه ما يُؤكِّدُ إرادةَ الحَقيقةِ، ونحن لا نَمنَعُ أنَّ المُتَكلِّمَ قد يُريدُ بكَلامِه خِلافَ ظاهِرِه إذا قَصَدَ التَّعْميةَ على السَّامِعِ؛ حيثُ يَسوغُ ذلك كما في المَعاريضِ الَّتي يَجِبُ أو يَسوغُ تَعاطيها، ولكنَّ المُنكَرَ غايةَ الإنْكارِ أن يُريدَ بكَلامِه خِلافَ ظاهِرِه وحَقيقتِه إذا قَصَدَ البَيانَ والإيضاحَ وإفْهامَ مُرادِه؛ فالخِطابُ نَوْعانِ: نَوْعٌ يُقصَدُ به التَّعْميةُ على السَّامِعِ، ونَوْعٌ يُقصَدُ به البَيانُ والهِدايةُ والإرْشادُ، فإطْلاقُ اللَّفْظِ وإرادةُ خِلافِ حَقيقتِه وظاهِرِه مِن غَيْرِ قَرائِنَ تَحتَفُّ به تُبَيِّنُ المَعْنى المُرادَ- مَحَلُّه النَّوْعُ الأوَّلُ لا الثَّاني، واللهُ أَعلَمُ)
[689] ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (1/ 204). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (المجازُ والتَّأويلُ لا يدخُلُ في المنصوصِ، وإنَّما يدخُلُ في الظَّاهِرِ المحتَمِلِ له، وهنا نُكتةٌ ينبغي التفَطُّنُ لها، وهي: أنَّ كونَ اللَّفظِ نصًّا يُعرَفُ بشيئَينِ:
أحَدُهما: بعدَمِ احتمالِه لغيرِ معناه وَضعًا، كالعَشَرةِ.
والثَّاني: ما اطرَّد استعمالُه على طريقةٍ واحدةٍ في جميعِ مواردِه؛ فإنَّه نصٌّ في معناه لا يقبَلُ تأويلًا ولا مجازًا، وإن قُدِّر تطَرُّقُ ذلك إلى بعضِ أفرادِه، وصار هذا بمنزلةِ خبرِ التواتُرِ، لا يتطرَّقُ احتمالُ الكَذِبِ إليه، وإن تطرَّق إلى كُلِّ واحدٍ من أفرادِه بمفرَدِه، وهذه عِصمةٌ نافعةٌ، تدُلُّك على خطأِ كثيرٍ من التأويلاتِ في السَّمعيَّاتِ التي اطَّرد استعمالُها في ظاهِرِها، وتأويلُها والحالةُ هذه غَلَطٌ؛ فإنَّ التأويلَ إنَّما يكونُ لظاهِرٍ قد ورد شاذًّا مخالِفًا لغيرِه من السَّمعيَّاتِ، فيحتاجُ إلى تأويلِه ليوافِقَها، فأمَّا إذا اطرَّدَت كُلُّها على وتيرةٍ واحدةٍ صارت بمنزلةِ النَّصِّ وأقوى، فتأويلُها ممتنعٌ، فتأمَّلْ هذا)
[690] ((بدائع الفوائد)) (1/ 26، 27). .
وقال أيضًا: (قال بعضُ أئمَّةِ النُّحاةِ: أكثَرُ اللُّغةِ مجازٌ، فإذا كان أكثَرُ اللُّغةِ مجازًا سَهُل على النُّفوسِ أنواعُ التأويلاتِ؛ فقُلْ ما شِئتَ، وأوِّلْ ما شِئتَ، وانزِلْ عن الحقيقةِ، ولا يَضُرُّك أيُّ مجازٍ ركِبْتَه!... أعطى الجَهميُّ من نفسِه أنَّ أكثَرَ اللُّغةِ مجازٌ، وأنَّ الأدلَّةَ اللَّفظيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ، وأنَّ العقلَ إذا عارَض السَّمعَ وَجَب تقديمُ العقلِ، والإعراضُ عن السَّمعِ وإهدارُه، ثمَّ إمَّا أن يشتَغِلَ بتأويلِه... أو يُفوِّضَه ولا يحتَجَّ به!)
[691] ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (2/ 451، 456، 457). .
وقالَ
ابنُ عُثَيْمينَ: (مَعاني التَّأويلِ ثَلاثةٌ:
أحَدُها: التَّفْسيرُ، وهو إيضاحُ المَعْنى وبَيانُه، وهذا اصْطِلاحُ جُمْهورِ المُفَسِّرينَ، ومِنه قَوْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ل
ابنِ عبَّاسٍ:
((اللَّهُمَّ فَقِّهْه في الدِّينِ، وعَلِّمْه التَّأويلَ )) [692] أخرجه أحمد (3032)، وابن حبان (7055)، والحاكم (6280) مِن حديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما. صَحَّحه ابنُ حِبَّان، وابنُ عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/67)، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2589)، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (245). وأصلُ الحديثِ في صحيحِ البُخاريِّ (143)، ومسلمٍ (2477) دونَ قَولِه: "وعَلِّمْه التَّأويلَ". ، وهذا مَعْلومٌ عنْدَ العُلَماءِ في آياتِ الصِّفاتِ وغَيْرِها.
الثَّاني: الحَقيقةُ الَّتي يَؤولُ الشَّيءُ إليها، وهذا هو المَعْروفُ مِن مَعْنى التَّأويلِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، كما قالَ تَعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53] ،
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] ، فتَأويلُ آياتِ الصِّفاتِ بِهذا المَعْنى هو الكُنْهُ والحَقيقةُ الَّتي هي عليها، وهذا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ.
الثَّالِثُ: صَرْفُ اللَّفْظِ عن ظاهِرِه إلى المَعْنى الَّذي يُخالِفُ الظَّاهِرَ، وهو اصْطِلاحُ المُتَأخِّرينَ مِن المُتَكلِّمينَ وغَيْرِهم، وهذان نَوْعانِ: صَحيحٌ، وفاسِدٌ؛ فالصَّحيحُ: ما دَلَّ الدَّليلُ عليه، مِثلُ تَأويلِ قَوْلِه تَعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] إلى أنَّ المَعْنى: إذا أَرَدْتَ أن تَقرَأَ. والفاسِدُ: ما لا دَليلَ عليه، كتَأويلِ اسْتِواءِ اللهِ على عَرْشِه باسْتيلائِه، ويَدِه بقُوَّتِه ونِعْمتِه، ونَحْوِ ذلك)
[693] ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمينَ)) (4/ 83). .
والتَّأويلُ بمَعْنى حَقيقةِ الشَّيءِ هو المُرادُ في قَوْلِه تَعالى:
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] على الوَقْفِ على لَفْظِ الجَلالةِ، أمَّا على وَصْلِها بما بَعْدَها فيكونُ التَّأويلُ في الآيةِ بمَعْنى التَّفْسيرِ الَّذي يَعلَمُه العُلَماءُ.
قالَ
ابنُ تَيْميَّةَ: (المَقْصودُ هنا أنَّ السَّلَفَ كانَ أَكثَرُهم يَقِفونَ عنْدَ قَوْلِه:
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] بِناءً على أنَّ التَّأويلَ الَّذي هو الحَقيقةُ الَّتي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِها لا يَعلَمُها إلَّا هو. وطائِفةٌ مِنهم؛ كمُجاهِدٍ و
ابنِ قُتَيْبةَ وغَيْرِهما قالوا: بلِ الرَّاسِخونَ يَعلَمونَ التَّأويلَ، ومُرادُهم بالتَّأويلِ المَعْنى الثَّاني، وهو التَّفْسيرُ، فليس بَيْنَ القَوْلَينِ تَناقُضٌ في المَعْنى.
وأمَّا التَّأويلُ بمَعْنى صَرْفِ اللَّفْظِ عن مَفْهومِه إلى غَيْرِ مَفْهومِه فهذا لم يكُنْ هو المُرادَ بلَفْظِ التَّأويلِ في كَلامِ السَّلَفِ، اللَّهُمَّ إلَّا أنَّه إذا عُلِمَ أنَّ المُتكلِّمَ أرادَ المَعْنى الَّذي يُقالُ: إنَّه خِلافُ الظَّاهِرِ جَعَلوه مِن التَّأويلِ الَّذي هو التَّفْسيرُ؛ لكَوْنِه تَفْسيرًا للكَلامِ، وبَيانًا لمُرادِ المُتَكلِّمِ به، أو جَعَلوه مِن النَّوْعِ الآخَرِ الَّذي هو الحَقيقةُ الثَّابِتةُ في نفْسِ الأمْرِ الَّتي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِها؛ لكَوْنِه مُندَرِجًا في ذلك، لا لكَوْنِه مُخالِفًا للظَّاهِرِ، وكانَ السَّلَفُ يُنكِرونَ التَّأويلاتِ الَّتي تُخرِجُ الكَلامَ عن مُرادِ اللهِ ورَسولِه، الَّتي هي مِن نَوْعِ تَحْريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، فكانوا يُنكِرونَ التَّأويلَ الباطِلَ الَّذي هو التَّفْسيرُ الباطِلُ، كما نُنكِرُ قَوْلَ مَن فَسَّرَ كَلامَ المُتَكلِّمِ بخِلافِ مُرادِه، وقدْ يُنكِرونَ مِن التَّأويلِ الَّذي هو التَّفْسيرُ ما لا يُعلَمُ صِحَّتُه، فنُنكِرُ الشَّيءَ للعِلمِ بأنَّه باطِلٌ، أو لعَدَمِ العِلمِ بأنَّه حَقٌّ، ولا يُنكِرونُ تَرْجمةَ الكَلامِ لِمَن لا يُحسِنُ اللُّغةَ، ورُبَّما أَنكَروا مِن ذلك ما لا يَفهَمُه المُسْتمِعُ أو ما تَضُرُّه مَعْرفتُه، كما يُنكِرونَ تَحْديثَ النَّاسِ بما تَعجِزُ عُقولُهم عن مَعْرفتِه، أو بما تَضُرُّهم مَعْرِفتُه، كما قالَ علِيٌّ عليه السَّلامُ: (حَدِّثوا النَّاسَ بما يَعرِفونَ، ودَعوا ما يُنكِرونَ، أتُحِبُّونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورَسولُه؟!)
[694] أخرجه البخاريُّ (127) بلَفْظ: (حَدِّثوا النَّاسَ بما يَعرِفون، أتحبُّون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورَسولُه). [695] ((الصفدية)) (1/ 291). .