المَبحَثُ الخامِسُ: البَيعةُ وأخذُ الطَّريقِ
تُرَكِّزُ الخَتميَّةُ كما تُرَكِّزُ الطُّرُقُ الصُّوفيَّةُ الأخرى على أخذِ البَيعةِ منَ الأتباعِ والعَهدِ منَ المُريدينَ، ولهم طُقوسٌ خاصَّةٌ يُلزِمونَ بها مَن أرادَ أن يَسلُكَ هذه الطَّريقةَ ويَنخَرِطَ في سِلكِها، وتَتَمَثَّلُ هذه الطُّقوسُ فيما يَأتي: يَضَعُ الشَّيخُ يَدَه في يَدِ المُريدِ ويَقولُ ويُجاوِبُه المُريدُ مَعَه: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ، وصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ: اللَّهمَّ إنِّي تُبتُ إليك ورَضيتُ بسَيِّدي السَّيِّدِ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيِّ شَيخًا لي في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فثَبِّتْني اللَّهمَّ على مَحَبَّتِه وعلى طَريقَتِه في الدُّنيا والآخِرةِ بحَقِّ سَيِّدِنا مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَدنانَ، وبحَقِّ بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ، إلى آخِرِ السُّورةِ -بشَرطِ أن تَكونَ البَسمَلةُ والفاتِحةُ في نَفَسٍ واحِدٍ- ثمَّ يَقرَأُ سورةَ (والعَصرِ) إلى آخِرِها، ثمَّ يَقولُ الشَّيخُ للمُريدِ سِرًّا: ثَبَّتَك اللهُ على الحَقِّ وعلى الصَّبرِ وعلى الطَّريقةِ المُحَمَّديَّةِ المُستَقيمةِ بحَقِّ (أهم سقك حلع يص، وبحق آحون قاف آدم هاء آمين) ثمَّ يَقولُ الشَّيخُ:
أهيمُ بِطَهَ مُذْ أعيشُ وإن أمُتْ
سَأوكِلُ بِطَهَ مَن يهيمُ به دَهري
ثمَّ يَقولُ الشَّيخُ للمُريدِ: اتَّخَذتُك مُريدًا لسَيِّدي السَّيِّدِ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيِّ الخَتمِ، رَضيتُ؟ فيَقولُ له المُريدُ: قَبِلتُ، وصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ)
[1328] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 125). ويُنظر: (ص: 62). .
والبَيعةُ الصُّوفيَّةُ تَتَضَمَّنُ التِزامًا مِن قِبَلِ المُريدِ بالولاءِ والطَّاعةِ التَّامَّةِ للشَّيخِ، والالتِزامَ بآدابِ الطَّريقةِ، ولا شَكَّ أنَّ هذه بدعةٌ لم تُعرَفْ لدى سَلفِ هذه الأمَّةِ، وليس هناكَ بَيعةٌ مَلزِمةٌ للمُسلمِ سِوى بَيعةِ إمامِ جَماعةِ المُسلمينَ؛ إذ إنَّ قيامَ الجَماعةِ المُسلِمةِ واجِبٌ على المُسلمينَ، وانتِماءُ المُسلمِ لهذه الجَماعةِ واجِبٌ عليه
[1329] يُنظر: ((قضايا التصوف الإسلامي)) لرزوق (ص: 339). .
وممَّا يُلاحَظُ أنَّ بَيعةَ الخَتميَّةِ تَتَضَمَّنُ أمورًا مُنكَرةً لا أساسَ لها، كَإلزامِ المُريدِ وإقرارِه بأن يتَّخِذَ الشَّيخَ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيَّ وليًّا له في الدُّنيا والآخِرةِ.
وقد أشارَ ابنُ تيميَّةَ إلى أنَّ مِثلَ هذا القَولِ بدعةٌ مُنكَرةً من جِهةِ أنَّ المُريدَ جَعل نَفسَه لغَيرِ اللهِ تعالى، ومن جِهةِ أنَّ عِبارةَ (شَيخٌ لي في الدُّنيا والآخِرةِ) كَلامٌ لا حَقيقةَ له؛ فإنَّه إن أرادَ أن يَكونَ مَعَه في الجَنَّةِ فهذا إلى اللهِ لا إليه، وكَذا الشَّفاعةُ فهي بإذنِ اللهِ تعالى وحدَه، وليس بمُجَرَّدِ قَولِه: أنتَ شَيخي في الآخِرةِ، يَكونُ شافِعًا له. هذا إن كان الشَّيخُ مِمَّن له شَفاعةٌ؛ فسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يشفَعُ يَومَ القيامةِ حتَّى يَأذَنَ اللهُ تعالى له في الشَّفاعةِ
[1330] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/513). .
وقد حاول بَعضُ الخَتميَّةِ المُعاصِرينَ الدِّفاعَ عنِ اتِّخاذِ السَّيِّدِ مُحَمَّد عُثمان شَيخًا في الدُّنيا والآخِرةِ مُحتَجِّينَ بقَولِ اللهِ تعالى:
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء: 71] زاعِمينَ أنَّ المَولى سُبحانَه وتعالى يَدعو النَّاسَ بأئِمَّتِهم يَومَ القيامةِ؛ لأنَّ المَرءَ يُحشَرُ مَعَ مَن أحَبَّ
[1331] ((الختمية العقيدة والتاريخ والمنهج)) لمحمد خير (ص: 133). .
وهذا فهمٌ للآيةِ لا سَنَدَ له؛ إذ إنَّ الإمامَ في الآيةِ فُسِّرَ بأنَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما قال مُجاهِدٌ وقتادةٌ: بإمامِهم، أي: نَبيِّهم، وهذا كقَولِ اللهِ تعالى:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يونس: 47] ، وذَكَرَ بَعضُ السَّلفِ أنَّ في هذا أكبَرَ شَرَفٍ لأصحابِ الحَديثِ؛ لأنَّ إمامَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال ابنُ زَيدٍ: بكِتابهمُ الذي أنزِلَ على نَبيِّهم، واختارَه ابنُ جَريرٍ. ورويَ عن مُجاهدٍ أنَّه قال: بكُتُبِهم. فيُحتَمَلُ أن يَكونَ أرادَ ما رُويَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ في قَولِه:
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71] أي: بكتابِ أعمالِهم
[1332] ((مختصر تفسير ابن كثير)) للصابوني (2/389). .
وهكذا نَجِدُ الإمامَ في الآيةِ المُرادُ به الكِتابُ أوِ النَّبيُّ، ولم يَقُلْ أحَدٌ منَ السَّلفِ: إنَّ المُرادَ به الأئِمَّةُ والمشايخُ، اللَّهمَّ إلَّا إذا أريدَ به أئِمَّةُ أهلِ الكُفرِ، والعياذُ باللهِ.
ويُضافُ إلى ذلك أنَّ ما ورَدَ في صيغةِ البَيعةِ من كَلماتٍ أعجَميَّةٍ لا يُعرَفُ مَعناها أو طَلاسِمَ، لا أصلَ له في دينِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، بل هو منَ البدَعِ المُنكَرةِ.