المَبحَثُ السَّادِسُ: الخَلوةُ عِندَ الخَتميَّةِ
من وسائِلِ الصُّوفيَّةِ في طَريقِ السَّيرِ إلى اللهِ تعالى دُخولُ الخَلوةِ والاعتِزالُ عنِ النَّاسِ لفترةٍ مُعَيَّنةٍ يَشتَغِلونَ فيها بالعِبادةِ والذِّكرِ، والخَتميَّةُ شَأنُهم شَأنُ غَيرِهم منَ الصُّوفيَّةِ؛ اهتَمُّوا بالخَلوةِ وبَيَّنوا كَيفيَّةَ دُخولِها وما يَشتَغِلونَ به فيها من أعمالٍ.
ففي الفَصلِ الأوَّلِ الذي عَقدَه مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ عن (كَيفيَّةِ الخَلوةِ) قال: (الحَمدُ للَّهِ الذي جَعَل الخَلوةَ فيها أسرارُ الجَلوةِ)
[1333] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 63). ، بمَعنى أنَّ الخَلوةَ فيها لوائِحُ الفَتحِ ومَحَلُّ التَّمكينِ، ومنها اللَّوامِعُ تُزهِرُ وإليها الكَمالاتُ تَظهَرُ، ويَفتَخِرُ الميرغَنيُّ بأنَّ خَلوتَهم من أعظَمِ الخَلَواتِ؛ إذ قَلَّ أن يَدخُلَها إنسانٌ إلَّا وتَبدو له فيها سَواطِعُ الفُتوحاتِ
[1334] يُنظر: ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 64). .
والخَلوةُ بهذه الصُّورةِ الصُّوفيَّةِ ليست منَ المَسائِلِ التي شَرَعَها الإسلامُ؛ فاللهُ تعالى شَرع منَ العِباداتِ الإسلاميَّةِ الاعتِكافَ وَفقًا لآدابِه الشَّرعيَّةِ المَعروفةِ، كما أنَّ الإنسانَ يُمكِنُ أن يَعتَزِلَ النَّاسَ في فُضولِ المُباحاتِ ويَعتَزِلَ ما لا يَنفعُ، وذلك بالزُّهدِ فيه؛ فهو مُستَحَبٌّ، وقد قال طاووسٌ: نِعمَ صَومَعةُ الرَّجُلِ بَيتُه، يَكُفُّ فيه بَصَرَه وسَمعَه! كما يُمكِنُ للإنسانِ أن يَختَليَ في بَعضِ الأماكِنِ إذا أرادَ اكتِسابَ عِلمٍ أو عَمَلٍ بشَرطِ أن لا يَتَخَلَّفَ عنِ الجُمعةِ والجَماعةِ
[1335] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (10/405). ، وَفقًا لِما ورَدَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مِن خَيرِ مَعاشِ النَّاسِ لهم رَجُلٌ مُمسِكٌ عِنانَ فَرَسِه في سبيلِ اللَّهِ، يطيرُ على مَتْنِه، كلَّما سَمِعَ هَيْعَةً أو فَزعةً طار عليه، يبتغي القَتْلَ والموتَ مَظانَّه، أو رَجُلٌ في غُنَيمةٍ في رأسِ شَعَفَةٍ من هذه الشَّعَفِ، أو بَطنِ وادٍ مِن هذه الأوديةِ، يقيمُ الصَّلاةَ، ويُؤتي الزَّكاةَ، ويَعبُدُ ربَّه حتَّى يأتيَه اليقينُ، ليس من النَّاسِ إلَّا في خيرٍ)) [1336] أخرجه مسلم (1889) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد حاول الصُّوفيَّةُ أن يَلتَمِسوا سَنَدًا شَرعيًّا لخَلوتِهم هذه، وزَعَموا أنَّ لهم أُسوةً في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ كان يَختَلي في غارِ حِراءٍ، وقد أشارَ إلى ذلك مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ في قَولِه: (الحَمدُ للَّهِ الذي جَعل الخَلوةَ فيها أسرارُ الجِلوةِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَنِ اختَلى في غارِ حِراءٍ فجاءَه الفتحُ منَ الوحيِ بلا امتِراءٍ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ القائِلُ:
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ ليَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران: 41] ، وأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدٌ المُنَزَّلُ عليه
اقرَأْ وذلك من سِرِّ اختِلائِه، وصارَ لنا كَنزًا)
[1337] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 63). .
وهذا الاحتِجاجُ غَيرُ صَحيحٍ؛ لأنَّ اختِلاءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغارِ كان قَبلَ النُّبوَّةِ والبَعثةِ، ولَسْنا مَأمورينَ بأن نَتَأسَّى إلَّا بما جاءَ به الشَّرعُ بَعدَ النُّبوَّةِ، إضافةً إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ مَجيءِ الوَحيِ إليه لم يَعتَزِلْ في ذلك الغارِ، ولم يَفعَلْ ذلك أحَدٌ من أصحابِه أوِ التَّابِعينَ، مَعَ أنَّه أقامَ في مَكَّةَ قَبلَ الهجرةِ بضعَ عَشرةَ سَنةً، ودَخل مَكَّةَ في عُمرةِ القَضاءِ، وعامَ الفتحِ، فأقامَ بها قَريبًا من عِشرينَ ليلةً، وأتاها في حَجَّةِ الوداعِ وأقامَ بها أربَعَ ليالٍ.
وقد ذَكَرَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ هذا كان ممَّا يَأتيه النَّاسُ في الجاهليَّةِ، ويُقالُ: إنَّ عَبدَ المُطَّلِبِ هو الذي سَنَّ لهم إتيانَه؛ لأنَّه لم تَكُنْ لهم هذه العِباداتُ الشَّرعيَّةُ التي جاءَ بها الإسلامُ، كالصَّلاةِ والاعتِكافِ في المَساجِدِ، فهذه تُغني عن إتيانِ حِراءٍ، بخِلافٍ ما كانوا عليه قَبلَ نُزولِ الوَحيِ
[1338] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/394). .
وبالإضافةِ إلى ذلك، فإنَّ خَلوةَ الخَتميَّةِ لها طُقوسٌ خاصَّةٌ لا سَنَدَ لها منَ الشَّرعِ، كما أنَّها تَحتَوي على أورادٍ مُبتَدَعةٍ وأذكارٍ مُنكَرةٍ لم يَرِدْ بها أثَرٌ؛ إذِ اشتَرَطوا على داخِل الخَلوةِ إذا جاءَ داخِلًا فيها أن يُقدِّمَ رِجلَه اليُمنى ويَقولَ عِندَ تَقديمِها: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، على مِلَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى طَريقةِ سَيِّدي مُحَمَّد عُثمان: رَبِّ أدخِلْني مُدخَلَ صِدقٍ وأخرِجْني مُخرَجَ صِدقٍ واجعَلْ لي من لدُنْك سُلطانًا نَصيرًا، رَبِّ أدخِلْني مُدخَلَ صِدقٍ إلى حَضرَتِك وأخرِجْني مُخرَجَ صِدقٍ لإهداءِ «الهدايةِ» خَلْقَك، واجعَلْ لي من لدُنْك سُلطانًا نَصيرًا يَنصُرُني على غَفَلاتي، ويُؤَيِّدُ لي حَقيقةَ حَقائِقي المُنتجةَ من خَيالاتي، وحَقِّقْني يا حَقُّ بالكَمالاتِ)، وبَعدَ دُخولِه يَقولُ: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ الحَمدُ للَّهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، اللَّهمَّ أمِدَّني برَسولِ اللهِ، وبسَيِّدي جِبريلَ، وأمِدَّني بسَيِّدي أحمَدَ بنِ إدريسَ، وأمِدَّني بسَيِّدي عُثمانَ شَيخِنا صاحِبِ الإيقانِ في خَلَواتي وجَلَواتي ودُنيايَ وآخِرَتي)، ثمَّ يَقرَأُ الاستِغفارَ الكَبيرَ ثَلاثًا وسَبعينَ مَرَّةً، ثمَّ يَقولُ: أستَغفِرُ اللهَ العَظيمَ الذي لا إلهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ وأتوبُ إليه ثَلاثَمِائةٍ وثَلاثَ عَشرةَ، ثمَّ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ اثنَي عَشَرَ ألفًا، ثمَّ الاسمُ الفَردُ (اللَّهُ) سِتًّا وسِتِّينَ ألفًا، ثمَّ هو هو أحَدَ عَشَرَ ألفًا، ثمَّ حَيٌّ قَيُّومٌ سَبعةَ آلافٍ وأربَعَمِائةٍ وأربَعينَ مَرَّةً، كُلُّ ذلك نِصفٌ باللِّسانِ ونِصفٌ بالقَلبِ ما عدَا الاستغفارَينِ، ثمَّ (الصَّلاةُ الذَّاتيَّةُ) ثَلاثَمِائةٍ وثَلاثًا وسِتِّينَ مَرَّةً، (اللَّهُ) بألِفِ الابتِداءِ ثَلاثًا وسِتِّينَ، ثمَّ (الفَواتِحُ الثَّلاثةُ)، وكُلُّ ذلك مَعَ تَغميضِ العَينَينِ وتَخَيُّلِ ذاتِ شَيخِه مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيِّ. قالوا: (فإذا ظَهَرَت لك روحانيَّتُه فتَخَيَّلْ من جِهةِ قَلبِه نورًا، فإذا ظَهَرَ لك النُّورُ فتَأمَّلْ فيه الصُّورَ حتَّى تَظهَرَ لك روحانيَّةُ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وترى ما ترى من أنبياءَ وأولياءَ وروحانيَّتِهم، وهناكَ مَبادِئُ الفتحِ، ومن ثَمَّ يَتَّسِعُ الإمدادُ، ولا تَغفُلْ عن شَيخِك مُحَمَّد عُثمان ولو بلغْتَ مَقامَ القُطبيَّةِ، ولا تَدخُلْ إلَّا بإذنِه أو بإذنِ مُتَكَمِّلٍ من تَلامِذَتِه وصارَ مُرَبِّيًا)
[1339] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 64). .
ثمَّ يُحَدِّدونَ أنواعًا مُعَيَّنةً منَ الأكلِ، فيَقولونَ: (ليَكُنْ أكلُك خُبزًا على دُهنِ سِمسِمٍ، وإن كان خُبزَ شَعيرٍ فأحسَنُ، وسُكَّرًا وما أشبَهَ ذلك، ولا تَأكُلْ كُلَّ ما خَرَجَ من ذي رُوحٍ إلى أن تَخرُجَ من خَلوتِك)
[1340] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 66). .
وهكذا نَجِدُ أنَّ الخَلوةَ عِند الخَتميَّةِ تَتَضَمَّنُ ما يَأتي:
1- أنَّ هَدَفَها الأساسيَّ هو الوُصولُ إلى الحَضرةِ الإلهيةِ، وحُدوثُ التَّجَلِّياتِ والكَشفُ للعابدِ.
2- فيها يَطلُبُ العابدُ المَدَدَ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجِبريلَ ومَشايِخِ الطَّريقةِ، وهذا أيضًا منَ الأمورِ المُنكَرةِ؛ فلا يُطلَبُ المَدَدُ والعَونُ إلَّا منَ اللهِ تعالى.
3- أنَّها تَطلُبُ منَ المُريدِ استِحضارَ صورةِ السَّيِّدِ مُحَمَّد عُثمان حتَّى تَظهَرَ له روحانيَّتُه، ثمَّ يَظهَرُ نورٌ من جِهةِ القَلبِ، ويَظَلُّ الحالُ هكذا حتَّى تَظهَرَ له روحانيَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا كُلُّه منَ الأمورِ المُبتَدَعةِ التي لا أساسَ لها منَ الشَّرعِ، ولا تُمَثِّلُ أثَرًا من آثارِ العِبادةِ الشَّرعيَّةِ، كما أنَّ في ذلك صَرفًا للعابدِ عنِ اللهِ تعالى وتَوجيهَ فِكرِه وخَيالِه إلى بَعضٍ من خَلقِه كشَيخِه، وفي هذا ما فيه من أنواعِ التَّعلُّقِ بغَيرِ اللهِ تعالى؛ إذ إنَّ العِبادةَ يَنبَغي أن تَكونَ خالصةً للَّهِ تعالى لا شَرِكةَ لأحَدٍ فيها لا بتَوسُّطٍ ولا طَلَبٍ ولا دُعاءٍ.
4- أنَّها تَتَضَمَّنُ أورادًا مُعَيَّنةً وأذكارًا مُحَدَّدةً بأعدادٍ مَحصورةٍ، وكُلُّ ذلك من غَيرِ سَنَدٍ شَرعيٍّ.
وإذا كانت هذه الوسائِلُ جَميعُها غَيرُ مَشروعةٍ ولا تتَّفِقُ مَعَ الشَّرعِ، فلا عَجَبَ أن يَرى صاحِبُ الخَلوةِ بَعضَ الخَيالاتِ أوِ الصُّوَرِ أوِ الرُّوحانيَّاتِ التي قد تَكونُ في غالِبِها منَ الشَّياطينِ الذينَ كَثيرًا ما يَتَصَوَّرونَ بصورةِ الإنسِ في اليَقَظةِ والمَنامِ، وقد تَأتي لمَن لا يَعرِفُ فيَقولُ: أنا الشَّيخُ فُلانٌ أوِ العالمُ فُلانٌ، ورُبَّما قالت: أنا أبو بكرٍ وعُمَرُ، ورُبَّما يَأتي في اليَقَظةِ دونَ المَنامِ، وقال: أنا المَسيحُ، أنا موسى، أنا مُحَمَّدٌ، وهذا كُلُّه من تَلبيسِ الشَّياطينِ على النَّاسِ؛ لأنَّهمُ اتَّخَذوا غَيرَ طَريقِ المُؤمنينَ واستَبدَلوا بنَهجِ الشَّرعِ مَناهِجَ وأساليبَ ما أنزَل اللهُ تعالى بها من سُلطانٍ.
والإسلامُ قد شَرَعَ الاعتِكافَ في المَساجِدِ، وسَنَّ الاعتِكافَ في المَساجِدِ في رَمَضانَ طَلبًا لليلةِ القَدرِ، وفي الإسلامِ يَجوزُ الاعتِزالُ إذا ساءَت أحوالُ النَّاسِ وخاف المُسلمُ الفِتنةَ في دينِه، فله أن يَعتَزِلَ النَّاسَ فيَبقى في مَنزِلِه أو مَزرَعَتِه أو باديَتِه يَرعى غَنَمَه، كما جاءَ ذلك في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يوشِكُ أن يَكونَ خَيرَ مالِ المُسلمِ غَنَمٌ يَتبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطرِ، يَفِرُّ بدينِه منَ الفِتَنِ)) [1341] أخرجه البخاري (19) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
أمَّا الخَلوةُ بذلك المَفهومِ الذي يَقولُ به الخَتميَّةُ، وما فيها من طُقوسٍ مُختَلفةٍ، وأذكارٍ مُبتَدَعةٍ، فلا أساسَ لها منَ الشَّرعِ، ولا سَنَدَ لها منَ الدِّينِ.