المَبحَثُ الخامِسُ: الاعْتِمادُ في بابِ الصِّفاتِ على دَليلِ حُدوثِ الأجْسامِ
بَنى
الأشاعِرةُ مَذهَبَهم في صِفاتِ اللهِ تَعالى على مُقدِّماتٍ وأقْيِسةٍ عَقْليَّةٍ جَعَلوها أُصولًا لدينِهم، يُقدِّمونَها على كِتابِ اللهِ تَعالى وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن تلك الأُصولِ: دَليلُ حُدوثِ الأجْسامِ، وقد أطالوا البُحوثَ في مَسْألةِ حُدوثِ الأجْسامِ، وأطالوا في تَقْريرِ أنَّ حُدوثَ العالَمِ دَليلٌ على وُجودِ اللهِ
[750] يُنظر: ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدَّلائِل)) للباقلاني (ص: 38 - 45)، ((الشامل في أُصول الدين)) للجويني (ص: 190 - 205)، ((الاقتصاد في الاعْتِقاد)) للغزالي (ص: 25 - 33)، ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) للرازي (4/ 245 - 322)، ((أبكار الأفكار في أُصول الدين)) للآمدي (3/ 5 - 376)، ((شرح المقاصد في علم الكلام)) للتفتازاني (1/ 327 - 329)، ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 147 - 159). ، معَ أنَّ هذا لا يَحْتاجُ إلى تَطْويلٍ، فهو يُوافِقُ العُقولَ الصَّحيحةَ والفِطَرَ السَّويَّةَ.
قالَ الإيجيُّ في كِتابِه المَواقِفِ الَّذي هو أَشهَرُ كُتُبِ
الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ: (لنا في حُدوثِ الأجْسامِ مَسالِكُ:
المَسلَكُ الأوَّلُ وهو المَشْهورُ: الأجْسامُ لا تَخْلو عن الحَوادِثِ، وكلُّ ما لا يَخْلو عن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، وأمَّا المُقدِّمةُ الأُولى فلِوَجْهَينِ:
الأوَّلُ: إنَّ الأجْسامَ لا تَخْلو عن الأعْراضِ لِما مَرَّ، وإذ لا توجَدُ بدونِ التَّمايُزِ، وقدْ بَيَّنَّا أنَّ التَّمايُزَ بالأعْراضِ، ثُمَّ الأعْراضُ حادِثةٌ؛ لأنَّها لا تَبْقى زَمانَينِ، وقدْ مَرَّ بَيانُهما.
الثَّاني: الجِسْمُ لا يَخْلو عن الحَرَكةِ والسُّكونِ، وهُما حادِثانِ، إنَّما قُلْنا: إنَّ الجِسْمَ لا يَخْلو عنهما؛ لأنَّه لا يَخْلو عن الكَوْنِ في حَيِّزٍ، فإن كانَ مَسْبوقًا بالكَوْنِ في ذلك الحَيِّزِ فهو ساكِنٌ، وإلَّا فهو مُتَحرِّكٌ، لا يُقالُ: مَنْقوضٌ بالجِسْمِ في أوَّلِ حُدوثِه؛ لأنَّا نَقولُ: الكَلامُ في الجِسْمِ الباقي، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الحَرَكةَ حادِثةٌ لوُجوهٍ:
الأوَّلُ: ماهيَّةُ الحَرَكةِ هي المَسْبوقيَّةُ بالغِيَرِ، وماهيَّةُ الأزَليَّةِ عَدَمُ المَسْبوقيَّةُ بالغِيَرِ، وبَيْنَهما مُنافاةٌ بالذَّاتِ، فلا تكونُ الحَرَكةُ أزَليَّةً، وذلك مَعْنى الحادِثِ.
الثَّاني: الماهيَّةُ لا توجَدُ إلَّا في ضِمْنِ الجُزْئيَّاتِ، ولا شَكَّ أنَّ شَيئًا مِن جُزْئيَّاتِ الحَرَكةِ لا يوجَدُ في الأزَلِ، فلا توجَدُ ماهيَّتُها فيه.
الثَّالِثُ: كلُّ حَرَكةٍ مِن الحَرَكاتِ الجُزْئيَّةِ مَسْبوقةٌ بعَدَمٍ أزَليٍّ، فتَجْتمِعُ العَدَماتُ في الأزَلِ، وحينَئذٍ فلا يوجَدُ في الأزَلِ حَرَكةٌ، وإلَّا جامَعَتْ عَدَمَها، هذا خَلْفٌ، وقد يُذكَرُ هاهنا وُجوهٌ أُخَرُ مآلُها إلى ما ذَكَرْنا، وإنَّما تَخْتلِفُ العِبارةُ فتَرَكْناها.
الرَّابِعُ: طَريقةُ التَّطْبيقِ، وقد عَرَفْتَها، وتَقْريرُها هاهنا أن نَفرِضَ مِن حَرَكةٍ ما إلى ما لا بِدايةَ له جُمْلةً وحَرَكةً، قَبْلَها بمِقْدارٍ مُتَناهٍ جُمْلةٌ أخرى، ثُمَّ نَطبِّقُ الجُمْلتَينِ؛ الجُزْءُ الأوَّلُ بالأوَّلِ، والثَّاني بالثَّاني لا إلى نِهايتِه؛ فإن كانَ بإزاءِ كلٍّ مِن أجْزاءِ الجُمْلةِ الزَّائِدةِ جُزْءٌ مِن أجْزاءِ الجُمْلةِ النَّاقِصةِ كانَ الشَّيءُ معَ غَيْرِه كهُوَ لا معَ غَيْرِه، هذا خَلْفٌ، وإلَّا وُجِدَ في أجْزاءِ الزَّائِدةِ ما لا يوجَدُ بإزائِه مِن النَّاقِصةِ جُزءٌ، فتَنْقطِعُ النَّاقِصةُ ضَرورةً، فتكونُ مُتَناهيةً، والزَّائِدةُ إنَّما تَزيدُ عليها بمُتَناهٍ، والزَّائِدُ على المُتَناهي مُتَناهٍ، فتكونُ الزَّائِدةُ أيضًا مُتَناهيةً، فيَلزَمُ تَناهيهما، وهو خِلافُ المَفْروضِ، وقد عَرَفْتَ الكَلامَ عليه في إبْطالِ التَّسَلْسلِ سُؤالًا وجَوابًا فلا نُعيدُه.
الخامِسُ: طَريقةُ التَّضايُفِ، وتَقْريرُها هنا أنَّ الحَرَكاتِ تَتألَّفُ مِن أجْزاءٍ بعضُها سابِقٌ وبعضُها مَسْبوقٌ، ولْنَجعَلْها أيَّامًا مَثَلًا، فلو كانَت تلك الأيَّامُ غَيْرَ مُتَناهيةٍ أَمكَنَ لنا أن نَجعَلَ مِن يَوْمٍ ما، وهو اليَوْمُ الَّذي نحن فيه، جُزْءًا أخيرًا، فنَقولُ: هذا الجُزْءُ في هذه السِّلْسِلةِ مَسْبوقٌ وليس بسابِقٍ، وكلُّ جُزءٍ مِن أجْزائِها الأُخَرِ سابِقٌ ومَسْبوقٌ بحَسَبِ الفَرَضِ، فكلُّ سابِقٍ مَسْبوقٌ مِن غَيْرِ عَكْسٍ كُلِّيٍّ كالأخيرِ المَذْكورِ، فيكونُ عَدَدُ المَسْبوقِ أَزيَدَ مِن عَدَدِ السَّابِقِ بواحِدٍ، وأنَّه مُحالٌ؛ لأنَّهما مُتَضايِفانِ يَجِبُ تَكافُؤُهما في الوُجودِ، وتَساويهما في العَدَدِ، وأن يكونَ بإزاءِ كلِّ واحِدٍ واحِدٌ.
وإنَّما قُلْنا: السُّكونُ حادِثٌ لأنَّه لو كانَ قَديمًا لامْتَنَعَ زَوالُه، واللَّازِمُ باطِلٌ، أمَّا المُلازَمةُ فلأنَّه وُجوديٌّ لِما تَقدَّمَ، وكلُّ وُجوديٍّ قَديمٌ يَمْتنِعُ زَوالُه؛ لأنَّه إن كانَ واجِبًا فظاهِرٌ، وإن كانَ مُمْكِنًا كانَ مُسْتنِدًا إلى واجِبٍ لِما سيَأتي، ولا يكونُ ذلك الواجِبُ مُخْتارًا؛ لِما مَرَّ أنَّ القَديمَ لا يَسْتنِدُ إلى المُخْتارِ، بل موجبًا، فإن لم يَتَوَقَّفْ تَأثيرُه على شَرْطٍ أصْلًا لَزِمَ مِن عَدَمِه عَدَمُ الواجِبِ، وإن تَوقَّفَ فلا يكونُ ذلك الشَّرْطُ حادِثًا، وإلَّا لَكانَ القَديمُ المَشْروطُ به أَوْلى بالحُدوثِ، بل قَديمًا ويَعودُ الكَلامُ فيه، ويَلزَمُ الانْتِهاءُ إلى ما يَجِبُ صُدورُه عن الواجِبِ بغَيْرِ شَرْطٍ دَفْعًا للتَّسَلْسُلِ، فلو عُدِمَ عُدِمَ الواجِبُ، هذا خَلْفٌ، وأمَّا بُطْلانُ اللَّازِمِ فبالاتِّفاقِ والدَّليلِ، أمَّا الاتِّفاقُ فلأنَّ الأجْسامَ عنْدَ الحُكَماءِ مُنْحصِرةٌ في الفَلَكيَّاتِ وحَرَكاتُها واجِبةٌ، وفي العُنْصُريَّاتِ وحَرَكاتُها جائِزةٌ، فلا شيءَ مِن الأجْسامِ يَمْتنِعُ عليه الحَرَكةُ، وأمَّا الدَّليلُ فلأنَّ الأجْسامَ مُتَساوِيةٌ فيَصِحُّ على كلٍّ مِن الحَيِّزِ ما صَحَّ على الآخَرِ، وما ذلك إلَّا بخُروجِه مِن حَيِّزِه، أو نقولُ: الأجْسامُ إمَّا بَسيطةٌ، ويَجوزُ على كلِّ جُزءٍ مِنه ما يَصِحُّ على الآخَرِ، فيَصِحُّ أن يُماسَّ بيَسارِه ما يُماسُّه بيَمينِه وبالعَكْسِ، وما هو إلَّا بالحَرَكةِ، وإمَّا مُرَكَّبةٌ مِن البَسائِطِ فيَصِحُّ على بَسائِطِها أن يَماسَّها الآخَرُ، وما هو إلَّا بالحَرَكةِ.
وبالجُمْلةِ، فنَعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّ مَقولةَ الوَضْعِ غَيْرُ واجِبةٍ للبَسائِطِ، فكذا للمُرَكَّباتِ، وأنَّه ما مِن جِسْمٍ إلَّا ويُمكِنُ للقادِرِ المُخْتارِ أن يُغيِّرَ وَضْعَه فيَجعَلَ يَمينَه يَسارَه، وبالعَكْسِ، وإنْكارُه مُكابَرةٌ.
المَسلَكُ الثَّاني وهو لبعضِ المُتَأخِّرينَ كالاخْتِصارِ للمَسلَكِ الأوَّلِ: أنَّه لو وُجِدَ جِسْمٌ قَديمٌ لَزِمَ إمَّا كَوْنٌ قَديمٌ، وإمَّا أن يكونَ قَبْلَ كلِّ كَوْنٍ كَوْنٌ لا إلى نِهايةٍ، والتَّالي باطِلٌ بقِسْمَيه، أمَّا المُلازَمةُ فلأنَّه لا بُدَّ للجِسْمِ مِن كَوْنٍ، فإن وُجِدَ له كَوْنٌ غَيْرُ مَسْبوقٍ بآخَرَ لَزِمَ القِسْمُ الأوَّلُ، وإلَّا لَزِمَ القِسْمُ الثَّاني؛ إذ على ذلك التَّقْديرِ لو وُجِدَ كَوْنٌ لا كَوْنَ قَبْلَه لَزِمَ خُلُوُّ الجِسْمِ عن الكَوْنِ، وأمَّا بُطْلانُ التَّالي فأمَّا القِسْمُ الأوَّلُ فبمِثلِ ما بَيَّنَّا به حُدوثَ السُّكونِ، وأمَّا القِسْمُ الثَّاني فبالتَّطْبيقِ وطَريقةِ التَّضايُفِ وغَيْرِهما، ولا يَخْفى عليك أنَّ في هذا المَسلَكِ طَرْحًا لمُؤناتٍ كَثيرةٍ مِن بَيانِ كَوْنِ السُّكونِ وُجوديًّا، فإنَّ الكَوْنَ لا شَكَّ في أنَّه وُجوديٌّ، ومِن بَيانِ أنَّ الجِسْمَ لا يَخْلو عن الحَرَكةِ والسُّكونِ، فإنَّ لقائِلٍ أن يقولَ: هو في الأزَلِ لا مُتَحرِّكٌ ولا ساكِنٌ؛ لأنَّ كلًّا مِنهما يَقْتَضي المَسْبوقيَّةَ بالغِيَرِ، ومِن سُقوطِ قَوْلِهم السَّابقيَّةَ والمَسْبوقيَّةَ في الحَرَكةِ بالفَرْضِ؛ إذ لا أجْزاءَ لها إلَّا بالوَهْمِ، وفي الخارِجِ هو كَوْنٌ واحِدٌ مُسْتمِرٌّ.
المَسلَكُ الثَّالِثُ
للإمامِ الرَّازِيِّ، وهو أيضًا مَأخوذٌ مِن المَسلَكِ الأوَّلِ، والمُؤناتُ بحالِها، وتَقْريرُه: أنَّه لو وُجِدَ جِسْمٌ قَديمٌ لَكانَ في الأزَلِ إمَّا مُتَحرِّكًا أو ساكِنًا، والتَّالي باطِلٌ بقِسْمَيه، وأنت بمَعْرِفةِ بَيانِه بَعْدَما قَرَّرْناه في المَسلَكَينِ السَّابِقَينِ خَبيرٌ.
المَسلَكُ الرَّابِعُ له أيضًا: كلُّ جِسْمٍ مُمْكِنٌ لأنَّه مُرَكَّبٌ وكَثيرٌ، وسيَأتي أنَّ الواجِبَ واحِدٌ، وغَيْرُ مُرَكَّبٍ، وكلُّ مُمْكِنٍ هو موجِدٌ فله مُوجِدٌ، ولا يُتَصوَّرُ إلَّا عن عَدَمٍ، وهو مَبْنيُّ على ما ذَكَرْنا في مَباحِثِ القِدَمِ مِن أنَّه لا يَجوزُ اسْتِنادُ القَديمِ إلى السَّبَبِ الموجِبِ، ونَبَّهْناك على مَأخَذِه فتَذَكَّرْه.
المَسلَكُ الخامِسُ: الأجْسامُ فِعْلُ الفاعِلِ المُخْتارِ لِما سيَأتي في الصِّفاتِ، فتكونُ حادِثةً لِما بَيَّنَّا أنَّ القَديمَ لا يَستَنِدُ إلى المُخْتارِ، وهذان الوَجْهانِ يُثبِتانِ حُدوثَ العالَمِ مِن الأجْسامِ والمُجَرَّداتِ وصِفاتِهما بخِلافِ الأَوَّلَينِ؛ فإنَّهما لا يُعْطيانِ إلَّا حُدوثَ الأجْسامِ، ويُحْتاجُ في تَعْميمِها إلى نَفْيِ المُجَرَّداتِ.
المَسلَكُ السَّادِسُ: الجِسْمُ يَقومُ به الحادِثُ، وهو ضَروريٌّ لِما نُشاهِدُه مِن الحَرَكاتِ وتَجَدُّدِ الأعْراضِ، ولا شيءَ مِن القَديمِ كذلك لِما سنُبَرْهِنُ عليه في الإلَهيَّاتِ.
احْتَجَّ الخَصْمُ بشُبَهٍ: الأُولى: المادَّةَ قديمةٌ، وإلَّا احْتاجَتْ إلى مادَّةٍ أُخرى، وتَسَلْسُلٍ، وأنَّها لا تَخْلو عن الصُّورةِ لِما تَقدَّمَ، فيَلزَمُ قِدَمُ الجِسْمِ.
والجَوابُ: مَنْعُ تَرَكُّبِ الجِسْمِ مِن المادَّةِ والصُّورةِ، ولا نُسَلِّمُ كَوْنَ المادَّةِ قَديمةً، فإنَّه يَثبُتُ بوُجوبِ اخْتِلافِ الاسْتِعدادِ، وأنَّه فَرْعُ الإيجابِ بالذَّاتِ وسَنُبطِلُه، ولا نُسَلِّمُ أنَّها لا تَخْلو عن الصُّورةِ، وقد مَرَّ ضَعْفُ دَليلِه.
الثَّانيةُ: الزَّمانُ قَديمٌ، وإلَّا كانَ عَدَمُه قَبْلَ وُجودِه قَبْليَّةً لا يُجامِعُ فيها السَّابِقُ المَسْبوقَ، وهو الزَّمانيُّ، فيكونُ الزَّمانُ مَوْجودًا حينَما فُرِضَ مَعْدومًا، هذا خَلْفٌ، والجَوابُ: مَنْعُ أنَّ التَّقدُّمَ بالزَّمانِ، وإن سُلِّمَ فليس بالزَّمانِ، بل هو كتَقدُّمِ أجْزاءِ الزَّمانِ بعضِها على بعضٍ.
الثَّالِثةُ، وهي العُمْدةُ: فاعِليَّةُ الفاعِلِ للعالَمِ قَديمةٌ، ويَلزَمُ مِنه قِدَمُ العالَمِ، بَيانُه لو كانَتْ حادِثةً لتَوَقَّفَتْ على شَرْطٍ حادِثٍ، وإلَّا لَزِمَ التَّرْجيحُ بِلا مُرَجِّحٍ، والكَلامُ في ذلك الشَّرْطِ كما في الأوَّلِ، ويَلزَمُ التَّسَلْسل، وقد ذُكِرَ في الجَوابِ عنه وُجوهٌ: والَّذي يَصلُحُ للتَّعْويلِ عليه وَجْهانِ:
الأوَّلُ: النَّقْضُ بالحادِثِ اليَوْميِّ، لا يُقالُ: إنَّه يَسْتنِدُ إلى الحَوادِثِ الفَلَكيَّةِ، وكلٌّ مِنهما مَسْبوقٌ بآخَرَ لا إلى نِهايةٍ، لأنَّا نَقولُ: إبْداءُ الفارِقِ لا يَدفَعُ النَّقْضَ، وأيضًا فنَقولُ: فلِمَ لا يَجوزُ أن يكونَ حُدوثُ العالَمِ مَشْروطًا بشَرْطٍ مَسْبوقٍ بآخَرَ لا إلى نهِايةٍ؟
فإن قيلَ: ذلك إنَّما يُتَصوَّرُ فيما له مادَّةٌ، وما سِوى العالَمِ ليس له مادَّةٌ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ ذلك؛ إذ قد تكونُ تَصَوُّراتٌ مَتَعاقِبةً لأمْرٍ مُجَرَّدٍ، كلُّ سابِقٍ مِنها شَرْطٌ للَّاحِقِ إلى أن تَنْتَهيَ إلى ما هو شَرْطٌ لحُدوثِ العالَمِ، إلَّا أن يُقالَ: لكلِّ حادِثٍ مادَّةٌ، فيكونُ هذا رُجوعًا إلى الطَّريقةِ الأُولى، وقد أَجَبْنا عنها.
الثَّاني: أنَّ تَرْجيحَ الفاعِلِ المُخْتارِ عنْدَنا لأحَد مَقْدورَيه إنَّما هو بمُجَرَّدِ الإرادةِ، ولا حاجةَ فيه إلى مُرَجِّحٍ يَنضَمُّ إليه كما تَقدَّمَ تَحْقيقُه في مِثالِ طَريقَيِ الهارِب مِن السَّبُعِ، وقَدَحَيِ العَطشانِ.
الرَّابِعةُ: صِحَّةُ العالَمِ لا أوَّلَ لها، وإلَّا لَزِمَ الانْقِلابُ مِن الامْتِناعِ الذَّاتيِّ إلى الإمْكانِ الذَّاتيِّ، وأنَّه يَرفَعُ الأمانَ عن البَديهيَّاتِ، وكذلك صِحَّةُ تَأثيرِ الباري فيه، فيَجِبُ أن يَجزِمَ بإمْكانِ وُجودِ العالَمِ في الأزَلِ، وهو يُبطِلُ دَلائِلَهم، ثُمَّ نَقولُ: تَرْكُ الجودِ زَمانًا غَيْرَ مُتَناهٍ لا يَليقُ بالجَوادِ المُطلَقِ، والجَوابُ أنَّه
خِطابيٌّ، ثَمَّ إنَّه لا يَلزَمُ مِن أزَليَّةِ الصِّحةِ صِحَّةُ الأزَليَّةِ كَما في الحادِثِ بشَرْطِ كَوْنِه حادِثًا)
[751] ((المواقف مع شرح الجُرْجانيِ)) (2/ 609 - 614) وهذا التَّطويلُ إنَّما هو في المَتْنِ، وله شَرحٌ وحواشٍ طويلةٌ جِدًّا! واللهُ المستعانُ. .
قالَ
ابنُ تَيْميَّةَ عن هذه الطَّريقةِ الَّتي سَلَكَها أهْلُ الكَلامِ: (هي طَريقةٌ أَثبَتوا فيها الجَلِيَّ بالخَفِيِّ، وأرادوا بها إيضاحَ الواضِحِ، كمَن يُقرِّرُ القَضايا البَديهيَّةَ بقَضايا نَظَريَّةٍ، يسنِدُها إلى قَضايا أخرى بَديهيَّةٍ، وذلك العِلمُ بأنَّ المُحدَثَ لا بُدَّ له مِن مُحدِثٍ أَبيَنُ في العَقْلِ مِن العِلمِ بأنَّ ما جازَ حُدوثُه لم يكنْ بالحُدوثِ أَوْلى مِن ألَّا يَحدُثَ لولا شيءٌ اقْتَضى حُدوثَه، وبأنَّ ما وَجَبَ حُدوثُه وَجَبَ في كلِّ حالٍ، فإنَّ هذه القَضايا وإن كانَتْ حَقًّا، وهي ضَروريَّةٌ، فالعِلمُ بأنَّ المُحدَثَ لا بُدَّ له مِن مُحدِثٍ أَبيَنُ مِنها، والعَقْلُ يُضْطَرُّ إلى التَّصْديقِ بِهذه أَعظَمَ ممَّا يُضْطَرُّ إلى التَّصْديقِ بتلك، وتَصوُّرُ طَرَفي هذه القَضيَّةِ أَبْدَهُ في العَقْلِ مِن تَصوُّرِ تلك، ولا تُعْرَضُ هذه القَضيَّةُ وتلك على سَليمِ الفِطْرةِ إلَّا صَدَّقَ بِهذه قَبْلَ تلك!)
[752] ((درء تعارض العَقْل والنَّقْل)) (9/ 161). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (كانَ السَّلَفُ والأئِمَّةُ يَذُمُّونَ الكَلامَ المُبتَدَعَ، فإنَّ أصْحابَه يُخْطِئونَ إمَّا في مَسائِلِهم، وإمَّا في دَلائِلِهم؛ فكَثيرًا ما يُثبِتونَ دينَ المُسلِمينَ في الإيمانِ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، على أُصولٍ ضَعيفةٍ بل فاسِدةٍ يَلْتزِمونَ لِذلك لَوازِمَ يُخالِفونَ بِها السَّمْعَ الصَّحيحَ والعَقْلَ الصَّريحَ، وهذا حالُ
الجَهْميَّةِ مِن
المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم؛ حيثُ أَثبَتوا حُدوثَ العالَمِ بحُدوثِ الأجْسامِ، وأَثبَتوا ذلك بحُدوثِ صِفاتِها الَّتي هي الأعْراضُ، فاضْطُرَّهم ذلك إلى القَوْلِ بحُدوثِ كلِّ مَوْصوفٍ، فنَفَوا عن اللهِ الصِّفاتِ! وقالوا بأنَّ القُرْآنَ مَخْلوقٌ، وأنَّه لا يُرى في الآخِرةِ، وقالوا: إنَّه لا مُبايِنَ ولا مُحايِثَ، وأمْثالُ ذلك مِن مَقالاتِ النُّفاةِ الَّتي تَسْتلزِمُ
التَّعْطيلَ)
[753] ((شرح العَقيدة الأصفهانية)) (ص: 137). .
وقالَ أيضًا: (شُبْهةُ نُفاةِ الكَلامِ المَشْهورةُ أنَّهم اعْتَقَدوا أنَّ الكَلامَ صِفةٌ مِن الصِّفاتِ لا تكونُ إلَّا بفِعْلٍ مِن الأفْعالِ القائِمةِ بالمُتَكلِّمِ؛ فلو تَكلَّمَ الرَّبُّ لَقامَتْ به الصِّفاتُ والأفْعالُ، وزَعَموا أنَّ ذلك مُمْتنِعٌ، قالوا: لأنَّا إنَّما اسْتَدْلَلْنا على حُدوثِ العالَمِ بحُدوثِ الأجْسامِ، واسْتَدْلَلْنا على حُدوثِها بما قامَ بها مِن الأعْراضِ الَّتي هي الصِّفاتُ والأفْعالُ، فلو قامَ بالرَّبِّ الصِّفاتُ والأفْعالُ للَزِمَ أن يكونَ مُحدَثًا، وبَطَلَ الدَّليلُ الَّذي اسْتَدْلَلْنا به على حُدوثِ العالَمِ وإثْباتِ الصَّانِعِ، فقالَ لهم أهْلُ السُّنَّةِ والإثْباتِ: دَليلُكم هذا دَليلٌ مُبْتدَعٌ في الشَّرْعِ، لم يَسْتدِلَّ به أحَدٌ مِن سَلَفِ الأمَّةِ وأئِمَّتِها، بل قد ذَكَرَ
الأَشْعَرِيُّ في رِسالتِه إلى أهْلِ الثَّغْرِ أنَّه دَليلٌ مُحرَّمٌ في دينِ الرُّسُلِ، وأنَّه لا يَجوزُ بِناءُ دينِ المُسلِمينَ عليه، وذَكَرَ غَيْرُه: أنَّه باطِلٌ في العَقْلِ، كما هو مُحرَّمٌ في الشَّرْعِ، وأنَّ ذَمَّ السَّلَفِ والأئِمَّةِ لأهْلِ الكَلامِ و
الجَهْميَّةِ، وأهْلِ الخَوْضِ في الأعْراضِ والأجْسامِ- أَعظَمُ ما قَصَدوا به ذَمَّ مِثلِ هذا الدَّليلِ)
[754] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 519). .
وقالَ
ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (أوَّلُ ما أَوجَبَ اللهُ على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] لم يَقُلْ: انْظُرْ واسْتَدِلَّ حتَّى تَعرِفَ الخالِق، وكذلك هو أوَّلُ ما بَلَّغَ هذه السُّورةَ، فكانَ المُبلَّغونَ مُخاطَبينَ بِهذه الآيةِ قَبْلَ كلِّ شيءٍ، ولم يُؤمَروا فيها بالنَّظَرِ والاسْتِدْلالِ، وقد ذَهَبَ كَثيرٌ مِن أهْلِ الكَلامِ إلى أنَّ اعْتِرافَ النَّفْسِ بالخالِقِ وإثْباتَها له لا يَحصُلُ إلَّا بالنَّظَرِ، ثُمَّ كَثيرٌ مِنهم جَعَلوا ذلك نَظَرًا مَخْصوصًا، وهو النَّظَرُ في الأعْراضِ، وأنَّها لازِمةٌ للأجْسامِ، فيَمْتنِعُ وُجودُ الأجْسامِ بدونِها، قالوا: وما لا يَخْلو عن الحَوادِثِ أو ما لا يَسبِقُ الحَوادِثَ فهو حادِثٌ، ثُمَّ مِنهم مَن اعْتَقَدَ أنَّ هذه المُقدِّمةَ بَيِّنةٌ بنفْسِها بلْ ضَروريَّةٌ، ولم يُميِّزْ بَيْنَ الحادِثِ المُعيَّنِ والمَحْدودِ، وبَيْنَ الجِنْسِ المُتَّصِلِ شَيئًا بَعْدَ شيءٍ؛ إمَّا لظَنِّه أنَّ هذا مُمْتنِعٌ، أو لعَدَمِ خُطورِه بقَلْبِه، لكن وإن قيلَ: هو مُمْتنِعٌ فليس العِلمُ بِذلك بَديهيًّا، وإنَّما العِلمُ البَديهيُّ أنَّ الحادِثَ الَّذي له مَبدَأٌ مَحْدودٌ كالحادِثِ، والحَوادِثُ المُقَدَّرةُ مِن حينٍ مَحْدودٍ فتلك ما لا يَسبِقُها فهو حادِثٌ، وما لا يَخْلو مِنها لم يَسبِقْها فهو حادِثٌ، فإنَّه إذا لم يَسبِقْها كانَ معَها أو مُتَأخِّرًا عنها، وعلى التَّقْديرَينِ فهو حادِثٌ، وأمَّا إذا قُدِّرَ حَوادِثُ دائِمةٌ شَيئًا بَعْدَ شيءٍ فهذا إمَّا أن يُقالَ: هو مُمْكِنٌ، وإمَّا أن يُقالَ: هو مُمْتنِعٌ، لكنَّ العِلمَ بامْتِناعِه يَحْتاجُ إلى دَليلٍ، ولم تُعلَمْ طائِفةٌ مَعْروفةٌ مِن العُقَلاءِ قالوا: إنَّ العِلمَ بامْتِناعِ هذا بَديهيٌّ ضَروريٌّ، ولا يَفْتقِرُ إلى دَليلٍ)
[755] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 328). .
ونَختِمُ هذا المَبحَثَ بكَلامِ
الفَخْرِ الرَّازِيِّ الَّذي اعْتَرَفَ فيه بأنَّ أَفضَلَ الطُّرُقِ طُرُقُ القُرْآنِ الكَريمِ، وهذا نَصُّ كَلامِه: (ليس في شيءٍ مِن الكُتُبِ بَيانُ هذا النَّوْعِ مِن الدَّلائِلِ كما في القُرْآنِ؛ فإنَّه مَمْلوءٌ مِن هذا النَّوْعِ مِن البَيانِ. قالَ اللهُ تَعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] ، فهذه الآيةُ مُشْتمِلةٌ على ثَمانيةِ أنْواعٍ مِن الدَّلائِلِ؛ فالثَّلاثةُ الأُوَلُ مِن الدَّلائِلِ الفَلَكيَّةِ، وهي قَوْلُه تَعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، والخَمْسةُ الباقيةُ مِن الدَّلائِلِ، هي دَلائِلُ عالَمِ العَناصِرِ، وهي قَوْلُه تَعالى:
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَه دَلائِلَ النَّباتِ فقالَ:
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَه دَلائِلَ الحَيوانِ فقالَ:
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلائِلَ الآثارِ العُلويَّةِ، وذَكَرَ فيها نَوْعَينِ؛ الرِّياحَ والسَّحابَ، فقالَ:
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ولمَّا ذَكَرَ هذه الدَّلائِلَ الثَّمانيةَ قالَ:
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون، ونَختِمُ هذه الفُصولُ بخاتِمةٍ عَظيمةِ النَّفْعِ، وهي أنَّ الدَّلائِلَ الَّتي ذَكَرَها الحُكَماءُ والمُتَكلِّمونَ وإن كانَت كامِلةً قَويَّةً، فإنَّ هذه الطَّريقةَ المَذْكورةَ في القُرْآنِ عنْدي أنَّها أَقربُ إلى الحَقِّ والصَّوابِ، وذلك لأنَّ تلك الدَّلائِلَ دَقيقةٌ، وبسَبَبِ ما فيها مِن الدِّقَّةِ انْفَتَحَتْ أبْوابُ الشُّبُهاتِ، وكَثُرَتِ السُّؤالاتُ، وأمَّا الطَّريقُ الوارِدُ في القُرْآنِ فحاصِلُه راجِعٌ إلى طَريقٍ واحِدٍ، وهو المَنْعُ مِن التَّعمُّقِ، والاحْتِرازُ عن فَتْحِ بابِ القيلِ والقالِ، وحَمْلُ الفَهْمِ والعَقْلِ على الاسْتِكْثارِ مِن دَلائِلِ العالَمِ الأَعْلى والأَسفَلِ، ومَن تَرَكَ التَّعصُّبَ وجَرَّبَ مِثلَ تَجرِبتي عَلِمَ أنَّ الحَقَّ ما ذَكَرْتُه)
[756] ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) (1/ 235). .