المَطلبُ الرَّابعُ: مُخالفتُه الجِهادَ والمُجاهدينَ، ومُناصَرَتُه الاستِعمارَ والمُستَعمِرينَ
كان العَصرُ الذي وُجِدَ فيه البَريلَويُّ عَصرَ ابتِلاءٍ للمُسلمينَ في شِبهِ القارَّةِ الهنديَّةِ؛ لأنَّ الاستِعمارَ الإنجِليزيَّ الغاشِمَ طَوى بساطَ المُسلمينَ وحُكْمَهم عن هذه القارَّةِ، وتَسَلَّطَ عليها تَسَلُّطًا كامِلًا عام 1857م بَعدَ إراقةِ دِمائِهم وكَسرِ شَوكَتِهم وتَدميرِ قوَّتِهم وزُعَمائِهم، وطَردِهم عن وطَنِهم، وكان المُستَعمِرونَ يَرَونَ أنَّه لم يبقَ لهم قوَّةٌ رادِعةٌ تَردَعُهم عن مَطامِعِهم، وتمانِعُهم عن أغراضِهم ومَنافِعهم من بَسطِ النُّفوذِ والغَصبِ والنَّهبِ إلَّا شَرارةٌ في رمادِهم وشُعلةٌ في تُرابِهم، ولم يَكُنْ يَظُنُّونَ مَصدَرَها ومَولِدَها إلَّا المُسلمينَ عامَّةً ومَن يُسَمُّونَهم بالوهَّابيِّينَ خاصَّةً.
وكَم منَ الحاراتِ هُدِمَت بأسرِها على أهاليها وسُكَّانِها! وكَم منَ القُرى دُمِّرَت بما فيها منَ الأطفالِ والأشياخِ والنِّساءِ بتُهمةِ أنَّهم وهَّابيُّونَ يُريدونَ التَّمَرُّدَ على المُستَعمِرِ الغاصِبِ! وشُنِقَ كَثيرٌ منَ العُلماءِ الموحِّدينَ المُتَّبعينَ للسَّلفِ الصَّالحِ بتُهمةِ الوهَّابيَّةِ والطُّغيانِ!
وقد كَتَبَ هنتر في كِتابِه (مُسلمو الهند): (إنَّه لا خَطَرَ على الإنجِليزِ ولا على بَقائِهم في السُّلطةِ اللَّهمَّ إلَّا منَ الوهَّابيِّينَ؛ لأنَّهم هم يُثيرونَ القَلقَ والاضطِرابَ والفِتَنَ ضِدَّنا، وهمُ الذينَ يهيِّجونَ النَّاسَ ويُحَرِّضونَهم باسمِ الجِهادِ على خَلع رِبقةِ الطَّاعةِ والولاءِ لنا)
[1434] يُنظر: ((وهابي ترائيلز)) (ص: 32). .
ولمَّا رَأوا أنَّ الأمرَ لا يَسوغُ لهم، ولا يَستَريحونَ من اشتِعالِ ثائِرةِ المُسلمينَ عامَّةً والمُتَّبعينَ للسَّلفِ منهم خاصَّةً، قَرَّروا إشاعةَ الفِتَنِ بَينَ المُسلمينَ أنفُسِهم؛ كَي يَنشَغِلوا بها عنهم ويَتَقاتَلوا فيما بَينَهم، فاستَعمَلوا لهذه الأغراضِ والتَّفريقِ بَينَ المُسلمينَ أشخاصًا عَديدينَ منهم، واختاروهم لمُهمَّتِهم، فكان من هؤلاء غُلام أحمَد القادياني
[1435] يُنظر: ((القاديانية)) لظهير. ومنهمُ البَريلَويُّ، كما يَتَّهمُه المُخالفونَ
[1436] يُنظر: ((بريلوي فتوى))، ((تكفيري أفساني))، ((آئينة صداقت))، ((مقدمة الشهاب الثاقب))، مقدمة ((رسائل جاند بوري)) و((فاضل بريلوي)) لمسعود أحمد البريلوي. .
إنَّ الكَلمةَ الرَّائِجةَ عِندَ الاستِعمارِ والمَنقولةَ عنهم هي (فَرِّقْ تَسُدْ)، فحَمَّلوا لواءَ التَّفريقِ والتَّكفيرِ لأحمَد رِضا البَريلَويِّ، الذي حَمَله بالفِعلِ ورَفعَه فوقَ شِبهِ القارَّةِ كُلِّها، فلم يَجِدْ شَخصًا إلَّا وسَبَّه وشَتَمَه وفسَّقَه وكَفَّرَه، وخاصَّةً الذينَ نازَلوا الاستِعمارَ وقاتَلوا ضِدَّه، فاتَّهَمَهم بهَتكِ حُرُماتِ الصَّالحينَ وتَصغيرِ شَأنِ الأولياءِ وتَقليلِ مَرتَبةِ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ، وأمرَ النَّاسَ بالابتِعادِ عنهم وعن حَرَكاتِهمُ الثَّوريَّةِ، وعِندَما كان أولئِكَ المُجاهدونَ يَستَغِلُّونَ الوقائِعَ والحَوادِثَ لقَلبِ نِظامِ حُكمِ الإنجِليزِ في شِبهِ القارَّةِ الهنديَّةِ الباكِستانيَّةِ، كان البَريلَويُّ يَقِفُ في وجهِهم ويَسُدُّ طَريقَهم بتَأييدِ السُّذَّجِ منَ المُسلمينَ وعامَّتِهم الذينَ اغتَرُّوا بحُبِّ الأولياءِ والصَّالحينَ. وقد أفتى بتَحريمِ الجِهادِ في رُبوعِ تلك البلادِ مُستَدِلًّا بأنَّ الهندَ ليسَت دارَ حَربٍ، وكَتَبَ رِسالةً مُستَقِلَّةً باسمِ (إعلامُ الأعلامِ بأنَّ هندوستانَ دارُ الإسلامِ).
فخَصَّصَ في هذه الرِّسالةِ -التي تَشتَمِلُ على عِشرينَ صَفحةً منَ الحَجمِ الصَّغيرِ- قِسمًا لبَيانِ أنَّ الهندَ التي تَسَلَّطَ عليها الإنجِليزُ الكُفَّارُ ونَهَبوها وغَصَبوها هي دارُ الإسلامِ، كما أنَّ قِسمًا من هذه الرِّسالةِ خَصَّصَه لبَيانِ أنَّ الوهَّابيِّينَ مُرتَدُّونَ، ولا يَجوزُ أخذُ الجِزيةِ منهم ولا يُعطى لهمُ الأمانُ المُؤَبَّدُ، ويَجوزُ استِرقاقُ نِسائِهم، ولا تَحِلُّ مناكحتُهم ولا أكلُ ذَبائِحِهم ولا الصَّلاةُ على ميتَتِهم، ولا مُخالطَتُهم ولا مُجالسَتُهم ولا مُحادَثَتُهم ولا مُشارَكَتُهم في أمورِهم
[1437] يُنظر: ((إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام)) (ص: 19- 20). .
وأمَّا حَرَكةُ الخِلافةِ التي زَلزَلت أقدامَ الإنجِليزِ وزَحزَحَت عَرشَهم وأضعَفت شَوكَتَهم في الهندِ فهي الحَرَكةُ التي قامَت على أساسِ أنَّ المُستَعمِرينَ الإنجِليزَ وعَدوا الهنودَ عامَ 1917م بتَحريرِ وطَنِهم وأراضيهم بَعدَ انتِهاءِ الحَربِ العالميَّةِ الأولى، ولكِنَّهم عَقِبَ انتِصارِهم في تلك الحَربِ عام 1918م نَقَضوا عَهدَهم، وقد كَتَبَ عن تلك الأحوالِ أحَدُ البَريلَويِّين، فقال: (إنَّ الإنجِليزَ لمَّا انتَصَروا على ألمانيا وتُركيا والنِّمسا، وعاهَدوا الأتراكَ على شُروطِهمُ القاسيةِ، انحَرَفوا عن وعدِهمُ الذي وعَدوا به الهنديِّينَ من تَحريرِ الهندِ، فاضطَرَبَ من ذلك الغَدرِ الهنديُّونَ الأحرارُ وثاروا ضِدَّهم وأرادوا أن يَنتَقِموا منَ الإنجِليزِ بخيانَتِهم وغَدرِهم، فاستَغَلُّوا لذلك مَسألةَ الخِلافةِ في تُركيا، وحَرَّضوا النَّاس على أنَّ حِفظَ الخِلافةِ الإسلاميَّةِ وصيانَتَها منَ الفرائِضِ والواجِباتِ، ومُحارَبةَ مُخالفيها «أي الإنجِليزِ» فرضُ عَينٍ، فقامَت على هذا الأساسِ حَرَكةُ الخِلافة وأثارَت ضَجَّةً كُبرى في أوساطِ المُسلمينَ)
[1438] مقدمة ((دوام عيش)) لمسعود البريلوي. .
وفي عامِ 1919م استَغَلَّ قادةُ المُسلمينَ وزُعَماءُ حَرَكةِ تَحريرِ البلادِ تلك النُّعَرةَ ضِدَّ الاستِعمارِ الإنجِليزيِّ الغاشِمِ، وهَيَّجوا عَواطِفَ النَّاسِ وحَرَّضوهم على المُستَعمِرينَ كما صَرَّحَ بذلك أحَدُ أعلامِ هذه الحَرَكةِ، الذي لُقِّبَ بإمامِ الهندِ، وهو الشَّيخُ أبو الكَلام آزاد
[1439] يُنظر: مقدمة ((دوام عيش)) لمسعود البريلوي (ص: 17). .
فأدرَكَ البَريلَويُّ خَطَرَ هذه الحَرَكةِ وما تَشتَمِلُ عليه من دَعوةٍ للجِهادِ واستِخلاصٍ للوطَنِ، فبادَرَ بكِتابةِ رِسالةٍ أبطَل فيها دَعوى المُناصِرينَ للخِلافةِ التُّركيَّةِ مُستَدِلًّا بأنَّ الخَليفةَ لا يَكونُ إلَّا قُرَشيًّا، فما دامَ العُثمانيُّونَ الأتراكُ ليسوا من قُرَيشٍ فلا نُثبِتُ خِلافتَهم، وعلى ذلك ليس على مُسلمي الهندِ مُناصَرَتُها ومُساعَدَتُها ومُحارَبةُ الإنجِليزِ ومُقاتَلتُهم لأجلِها، وقد صَرَّحَ بأكثَرَ من ذلك فقال: (إنَّ حِمايةَ الأتراكِ خِداعٌ مَحضٌ، وإلَّا المَقصودُ الأصليُّ مِن ذِكرِ اسمِ الخِلافةِ تَحريرُ الأراضي الهنديَّةِ)
[1440] يُنظر: ((دوام عيش)) لمسعود البريلوي (ص: 63). .
وتلك الرِّسالةُ التي كَتَبَها لضَربِ حَرَكةِ تَحريرِ الهندِ وزَحزَحةِ أقدامِ المُسلمينَ فيها لم يَترُكْها خاليةً عنِ السِّبابِ والشَّتائِمِ لمَن يُسَمِّيهم بالوهَّابيِّينَ!
وأمَّا حَرَكةُ تَركِ الموالاةِ فإنَّها قامَت على أنقاضِ حَرَكةِ الخِلافةِ؛ ففي سَنةِ 1920م لما رَأى مُسلِمو الهندِ أنَّ الإنجِليزَ لا يُريدونَ تَلبيةَ طَلباتِهم والوفاءَ بالعُهودِ التي وعَدوا بها الهنودَ، ويُغادِروا بلادَهم، قاموا بعَمَلٍ آخَرَ، وهو تَركُ التَّعامُلِ مَعَ الإنجِليزِ المُستَعمِرينَ واجتنابُهم وإعلانُ تَركِ ولائِهم، ومُقاطَعةُ الحُكومةِ الإنجِليزيَّةِ مُقاطَعةً تامَّةً، لا يُطاوِعونَهم ولا يُشارِكونَهم في أمورِهم ولا يَشتَرِكونَ مَعَهم ولا يُقدِّمونَ لهمُ الجَمارِكُ والضَّرائِبُ، ولا يُحَكِّمونَهم فيما بَينَهم، ولا يَقبلونَ وظائِفَهم، فعاونَهم في ذلك طُلَّابُ الحُرِّيَّةِ منَ الهندوسِ أيضًا، وعلى رَأسِهم زَعيمُهم غاندي، فتَكَوَّنَت ثَورةٌ عَظيمةٌ ضِدَّ الاستِعمارِ، واشتَرَكَ فيها جَميعُ طَوائِفِ المُسلمينَ وزُعَماؤُهم وقادَتُهم وعُلماؤُهم غَيرَ البَريلَويِّين، فلم يُشارِكوا في هذه الحَرَكةِ الوطَنيَّةِ أيضًا كَدَأبِهم، بل بادَروا بإصدارِ فتاويهم ضِدَّ القائِمينَ بهذه الحَرَكاتِ؛ مُناصَرةً للاستِعمارِ ومُساعَدةً للمُستَعمِرينَ، رافِعينَ أصواتَهم بأنَّ تَركَ موالاةِ الاستِعمارِ الإنجِليزيِّ الغاشِمِ الكافِرِ حَرامٌ.
فقد كَتَبَ البَريلَويُّ كُتَيِّبًا مُستَقِلًّا في هذا الشَّأنِ، وقد أُدرِجَ فيما بَعدُ في فتاويه باسمِ (المَحَجَّة المُؤتَمَنة في آية المُمتَحنة)، وبَدَأ كُتَيِّبَه هذا بقَولِه: (إنَّ المُعامَلةَ الدُّنيَويَّةَ التي لا تُضَرُّ الدِّينَ ليست مَمنوعةً مَعَ أحَدٍ سِوى المُرتَدِّينَ، مِثلُ الوهَّابيَّةِ والدِّيوبِنْديَّةِ وأمثالِهم) ثمَّ بَعدَ ذلك كَتَب بألفاظٍ واضِحةٍ: (إنَّ المَقصودَ من هذه الحَرَكاتِ هو الحُصولُ على الحُرِّيَّةِ منَ الإنجِليزِ لا غَيرُ)
[1441] ((المحجة المؤتمنة)) (ص: 155). .
ثمَّ قال بألفاظِه الصَّريحةِ التي تُنبئُ بما في الصُّدورِ: (إنَّه لا جِهادَ علينا -مُسلِمي الهندِ- بنُصوصِ القُرآنِ العَظيمِ، ومَن يَقولُ بوُجوبِه فهو مُخالفٌ للمُسلمينَ ويُريدُ إضرارَهم)
[1442] ((المحجة المؤتمنة)) (ص: 208). .
ثمَّ رَدَّ على مَن يَستَدِلُّ على جِهادِه بجِهادِ الحُسَينِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما، فقال: (إنَّه لم يَكُنْ يُريدُ القِتالَ، بل سُلِّطَ عليه القِتالُ، وحَرامٌ على سُلطانِ الإسلامِ الذي يَجِبُ عليه إقامةُ الجِهادِ أن يَبدَأَ بقِتالِ الكُفَّارِ إذا لم يَكُنْ يُكافِئُهم، فكَيف ونَحنُ لا نَستَطيعُ مُكافَأةَ الإنجِليزِ ومُحارَبَتَهم؟)
[1443] ((المحجة المؤتمنة)) (ص: 210). .
ثمَّ نَصَحَ المُسلمينَ بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] محرِّفًا الكَلِمَ عن مواضِعِه
[1444] يُنظر: ((المحجة المؤتمنة)) (ص: 206). ، وخَتَمَ كِتابَه بتَكفيرِ كُلِّ مَن يُناضِلُ ضِدَّ المُستَعمِرينَ ويَدعو إلى تَركِ الموالاةِ لهم والمُعامَلةِ مَعَهم
[1445] يُنظر: ((المحجة المؤتمنة)) (ص: 211). !
فشُهِرَ بَينَ المُسلمينَ بعِمالةِ الاستِعمارِ والعَمَلِ على حِسابِهم، ولأجلِ ذلك اضطُرَّ أحَدُ مُريديه إلى القَولِ بأنَّ المُسلمينَ ظَنُّوا فيه ظَنَّ السَّوءِ
[1446] يُنظر: مقدمة ((دوام العيش)) لمسعود البريلوي (ص: 18). .
وكَتَب آخَرُ: (إنَّ أكثَرَ مُريديه ومُعتَقِديه انحَرَفوا عنه لاختِلافِه مَعَ حَرَكةِ الخِلافةِ)
[1447] يُنظر: ((كتابي دنيا)) مقال للنظامي (ص: 2)، نقلًا عن مقدمة ((دوام العيش)) (ص: 18). .
فهذه هي الأعمالُ التي قامَ بها في عَصرٍ كان مُسلِمو الهندِ فيه مُبتَلينَ بابتِلاءاتٍ شَديدةٍ. وكان وَزنُ البَريلَويِّ والبَريلَويَّةِ وثِقلُهم في كِفَّةِ المُستَعمِرِ الإنجِليزيِّ الغاصِبِ. وعلى ذلك كَتَبَ الإنجِليزيُّ المَشهورُ (فرانسس رابنسن): (إنَّ البَريلَويَّ كان عَمَلُه حِمايةَ الحُكومةِ الإنجِليزيَّةِ؛ فإنَّه أيَّدَ الحُكومةَ في الحَربِ العالميَّةِ الأولى، واستَمَرَّ في هذه الحِمايةِ والتَّأييدِ للحُكومةِ حتَّى أيَّامِ حَرَكةِ الخِلافةِ سَنةَ 1921م، وعَقد المُؤتَمَرَ في بَريلي وجَمع فيه العُلماءَ الذينَ كانوا يُخالفونَ تَركَ موالاةِ الحُكومةِ، والذينَ كان لهم أثَرٌ كَبيرٌ في نُفوسِ العامَّةِ المُتَعَلِّمينَ والدَّارِسينَ المُسلمينَ)
[1448] ((سيبترزم امنك اندين مسلمز)) (ص: 443). .