المبحَثُ الأوَّلُ: مَذهَبُ الأشاعِرةِ في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ
تنازَع
المُعتَزِلةُ و
الأشاعِرةُ في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ، فقالت
المُعتَزِلةُ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العَقليَّينِ، وقرَّروا أنَّ اللهَ يُعذِّبُ النَّاسَ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ، وخالفوا قَولَ اللهِ سُبحانَه:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، ونفَت
الأشاعِرةُ حُسنَ الأشياءِ وقُبحَها بالعَقلِ، وقالوا: الأفعالُ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ سواءٌ في الحُسنِ والقُبحِ، وإنَّما يُعرَفُ حُسنُها وقُبحُها بالشَّرعِ وحدَه، وأجازوا أن يأمُرَ اللهُ سُبحانَه بالشِّركِ والظُّلمِ والزِّنا والفَواحِشِ، وإنَّما كانت هذه مُحرَّمةً لوُرودِ الشَّرعِ بالنَّهيِ عنها، فدَلَّ الشَّرعُ على قُبحِها، أمَّا العَقلُ وَحدَه فلا يدُلُّ على قُبحِها، وخالفوا قَولَ اللهِ سُبحانَه:
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف: 28] ، وقَولَه عزَّ وجلَّ:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ، وتكَلَّم
الأشاعِرةُ في جوازِ أن يُكلِّفَ اللهُ العِبادَ ما لا يُطيقونَ فِعلَه، وهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ لِما اختلفوا فيه من الحَقِّ بإذنِه، فأثبتوا أنَّ للأفعالِ حُسنًا وقُبحًا ذاتيَّينِ يمكِنُ إدراكُه بالعقلِ كما يُدرَكُ بالشَّرعِ، وقرَّروا أنَّ التَّكليفَ والعقابَ لا يكونُ إلَّا بَعدَ وُرودِ الشَّرعِ، فلا يترتَّبُ ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا بالأمرِ والنَّهيِ، فالفِعلُ القبيحُ كالشِّركِ والظُّلمِ والزِّنا هو قبيحٌ في نفسِه، ولا يمكِنُ أن يأمُرَ اللهُ به، وقَبلَ وُرودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ مُوجِبًا للعقابِ؛ فاللهُ لا يعاقِبُ النَّاسَ على فِعلِ القبائِحِ إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسُلِ.
أقوالُ الأشاعِرةِ في تقريرِ مَذهَبِهم في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ:1- قال
أبو الحسَنِ الأشعَريُّ: (أجمعوا على أنَّ القبيحَ من أفعالِ خَلقِه ما نهاهم عنه، وزجرَهم عن فِعلِه، وأنَّ الحَسَنَ ما أمرَهم به، أو ندَبهم إلى فِعلِه، أو أباحه لهم)
[925] ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 137). .
2- قال
الجُوَينيُّ: (العَقلُ لا يدُلُّ على حُسنِ شيءٍ ولا قُبحِه في حُكمِ التَّكليفِ، وإنَّما يُتلقَّى التَّحسينُ والتَّقبيحُ من مواردِ الشَّرعِ ومُوجِبِ السَّمعِ، وأصلُ القَولِ في ذلك أنَّ الشَّيءَ لا يَحسُنُ لنَفسِه وجِنسِه، وصفةٌ لازمةٌ له، وكذلك القَولُ فيما يَقبُحُ، وقد يَحسُنُ في الشَّرعِ ما يَقبُحُ مِثلُه المُساوي له في جملةِ أحكامِ صِفاتِ النَّفسِ، فإذا ثبت أنَّ الحُسنَ والقُبحَ عِندَ أهلِ الحَقِّ لا يرجِعانِ إلى جِنسٍ وصفةِ نَفسٍ، فالمعنى بالحَسَنِ ما ورد الشَّرعُ بالثَّناءِ على فاعِلِه، والمرادُ بالقبيحِ ما ورد الشَّرعُ بذَمِّ فاعِلِه، وذهبت
المُعتَزِلةُ إلى أنَّ التَّحسينَ والتَّقبيحَ من مَداركِ العُقولِ على الجُملةِ، ولا يتوقَّفُ إدراكُهما على السَّمعِ، وللحَسَنِ بكونِه حَسَنًا صِفةٌ، وكذلك القَولُ في القبيحِ عِندَهم، هذه قاعِدةُ مَذهَبِهم، وربَّما يتخبَّطون فيها، ويمتَنِعُ عليهم في مجاري المذهَبِ صَرفُ الحُسنِ والقُبحِ إلى صِفتَينِ للحَسَنِ والقبيحِ)
[926] ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 278). .
3- قال الشَّهرستانيُّ: (مذهَبُ أهلِ الحَقِّ: أنَّ العَقلَ لا يدلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وقُبحِه في حُكمِ التَّكليفِ من اللهِ شَرعًا، على معنى أنَّ أفعالَ العِبادِ ليست على صفاتٍ نفسيَّةٍ حُسنًا وقُبحًا، بحيث لو أقدَم عليها مُقدِمٌ أو أحجَم عنها مُحجِمٌ، استوجَب على اللهِ ثوابًا أو عقابًا، وقد يحسُنُ الشَّيءُ شَرعًا، ويَقبُحُ مِثلُه المُساوي له في جميعِ الصِّفاتِ النَّفسيَّةِ، فمعنى الحَسَنِ ما ورد الشَّرعُ بالثَّناءِ على فاعِلِه، ومعنى القبيحِ ما ورد الشَّرعُ بذمِّ فاعِلِه، وإذا ورد الشَّرعُ بحُسنٍ وقُبحٍ لم يقتَضِ قَولُه صِفةً للفِعلِ، وليس الفِعلُ على صِفةٍ يخبِرُ الشَّرعُ عنه بحُسنٍ وقُبحٍ، ولا إذا حكَم به ألبسَه صِفةً فيُوصَفُ به حقيقةً، وكما أنَّ العِلمَ لا يَكسِبُ المعلومَ صِفةً، ولا يكتَسِبُ عنه صفةً، كذلك القَولُ الشَّرعيُّ والأمرُ الحُكميُّ لا يَكسِبُه صفةً، ولا يكتَسِبُ عنه صفةً، وليس لمُتعلِّقِ القَولِ من القَولِ صِفةٌ، كما ليس لمُتعلِّقِ العِلمِ من العِلمِ صِفةٌ)
[927] ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 208). .
4- قال
الآمِديُّ: (مذهَبُ أهلِ الحَقِّ من
الأشاعِرةِ وغَيرِهم: أنَّ الحُسنَ والقُبحَ ليس وصفًا ذاتيًّا للحَسَنِ والقبيحِ، ولا أنَّ ذلك ممَّا يُدرَكُ بضرورةِ العَقلِ أو نَظَرِه، بل إطلاقُ لَفظِ الحَسَنِ والقبيحِ عِندَهم باعتباراتٍ غيرِ حقيقيَّةٍ، بل إضافيَّةٌ يمكِنُ تغيُّرُها وتبدُّلُها بالنَّظَرِ إلى الأشخاصِ والأزمانِ والأحوالِ)
[928] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (2/ 121). .
5- قال الإيجي: (تكليفُ ما لا يُطاقُ جائِزٌ عِندَنا لِما قدَّمنا آنفًا من أنَّه لا يجِبُ عليه شيءٌ، ولا يقبُحُ منه شيءٌ؛ إذ يفعَلُ ما يشاءُ، ويحكُمُ ما يريدُ، لا مُعقِّبَ لحُكمِه، ومنَعَه
المُعتَزِلةُ لقُبحِه عقلًا، فإنَّ من كلَّف الأعمى نَقْطَ المصاحِفِ، والزَّمِنَ المشيَ إلى أقاصي البلادِ، وعبْدَه الطَّيرانَ إلى السَّماءِ؛ عُدَّ سفيهًا، وقَبُح ذلك في بَدائِه العقولِ، وكان كأمرِ الجمادِ، واعلَمْ أنَّ ما لا يُطاقُ على مراتبَ؛ أدناها: أن يمتنِعَ الفِعلُ لعلمِ اللهِ بعَدَمِ وُقوعِه أو إرادتِه أو إخبارِه، فإنَّ مِثلَه لا تتعلَّقُ به القُدرةُ الحادثةُ؛ لأنَّ القُدرةَ مع الفِعلِ، ولا تتعلَّقُ بالضِّدَّينِ، والتَّكليفُ بهذا جائزٌ بل واقعٌ إجماعًا، وإلَّا لم يكُنِ العاصي بكُفرِه وفِسقِه مُكَلَّفًا، وأقصاها أن يمتَنعَ لنَفسِ مفهومِه كجَمعِ الضِّدَّينِ، وقَلبِ الحقائِقِ، وجوازُ التَّكليفِ به فرعُ تصوُّرِه، فمنَّا من قال: لو لم يُتصوَّرُ لامتنَع الحُكمُ بامتناعِ تصوُّرِه وطلَبِه، ومنهم من قال: طلَبُه يتوقَّفُ على تصوُّرِه واقعًا، وهو مُنتَفٍ هاهنا؛ فإنَّه إنما يُتصوَّرُ إمَّا منفيًّا بمعنى أنَّه ليس لنا شيءٌ موهومٌ أو محقَّقٌ هو اجتِماعُ الضِّدَّينِ، أو بالتشبيهِ بمعنى أن يُتصوَّرَ اجتماعُ المتخالِفَينِ كالسَّوادِ والحلاوةِ، ثم يحكُمُ بأنَّ مِثلَه لا يكونُ بَينَ الضِّدَّينِ، وذلك غيرُ تصَوُّرِ وقوعِه، ولا مُستلزِمٌ له، صرَّح
ابنُ سينا به، ولعلَّه معنى قولِ أبي هاشمٍ: العِلمُ بالمُستحيلِ عِلمٌ لا معلومَ له، ومرادُ من قال: المُستحيلُ لا يعلَمُ المرتبةَ الوُسطى ألَّا يتعلَّقَ به القُدرةُ الحادثةُ عادةً، سواءٌ امتَنع تعلُّقُها به لا لنَفسِ مفهومِه، كخَلقِ الأجسامِ أم لا، كحَملِ الجبَلِ والطَّيرانِ إلى السَّماءِ، فهذا نُجَوِّزُه، وإن لم يقَعْ بالاستقراءِ)
[929] ((المواقف)) (3/ 290). .
6- قال الجُرجانيُّ: (القبيحُ عِندَنا ما نُهيَ عنه شرعًا نَهْيَ تحريمٍ أو تنزيهٍ، والحَسَنُ بخلافِه، أي ما لم يُنهَ عنه شرعًا، كالواجِبِ والمندوبِ والمباحِ... ولا حُكمَ للعَقلِ في حُسنِ الأشياءِ وقُبحِها، وليس ذلك -أي: حُسنُ الأشياءِ وقُبحُها- عائدًا إلى أمرٍ حقيقيٍّ حاصلٍ في الفعلِ قَبلَ الشَّرعِ يكشِفُ عنه الشَّرعُ كما تزعمُه
المُعتَزِلةُ، بل الشَّرعُ هو المُثبِتُ له والمُبيِّن، فلا حُسنَ ولا قُبحَ للأفعالِ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ، ولو عَكَس الشَّارعُ القضيَّةَ فحَسَّن ما قبَّحه، وقبَّح ما حَسَّنه، لم يكُنْ ممتَنِعًا، وانقَلَب الأمرُ فصار القبيحُ حَسَنًا، والحَسَنُ قبيحًا، كما في النَّسْخِ من الحُرمةِ إلى الوُجوبِ ومن الوُجوبِ إلى الحُرمةِ)
[930] ((المواقف مع شرج الجرجاني)) (3/ 268). .