المَبحَثُ الثَّاني: زيادةُ الإيمانِ ونقصانُه عِندَ الماتُريديَّةِ
النَّاظِرُ في كُتُبِ
الماتُريديَّةِ يجِدُ أنَّهم ينفونَ زيادةَ الإيمانِ ونُقصانَه، ومنهم من أثبت الزِّيادةَ والنُّقصانَ في الإيمانِ، كما هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أتباعِ السَّلَفِ الصَّالحِ، ومنهم من فصَّل في المسألةِ.
نقولاتٌ للماتُريديَّةِ حولَ زيادةِ الإيمانِ ونقصانِه عِندَهم:1- قال
أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (قال أصحابُنا في تأويلِ قَولِه:
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] وفي كُلِّ ما ذُكِرَتْ فيه الزِّيادةُ: إنَّه على الثَّباتِ والدَّوامِ عليه، لا أنَّه يزيدُ ويَنقُصُ)
[219] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 397). ويُنظر فيه أيضًا: (2/ 534) و(6/ 573). .
2- قال أبو اليسرِ البَزْدَويُّ: (الإيمانُ لا يزيدُ ولا ينقُصُ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وقال أصحابُ الحديثِ و
الشَّافعيِّ: إنَّه يزيدُ وينقُصُ، وقال الحُسَينُ النَّجَّارُ: إنَّه يزيدُ ولا ينقُصُ، وهذا الاختلافُ في الذَّاتِ، أمَّا في الصِّفاتِ فإنَّه يزيدُ وينقُصُ، فإنَّ إيمانَ البعضِ أكمَلُ وَصفًا من البعضِ)
[220] ((أصول الدين)) (ص: 156). .
3- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إذ ثبت أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، وهو لا يتزايدُ في نَفسِه، دَلَّ أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقُصُ، فلا زيادةَ له بانضمامِ الطَّاعاتِ إليه، ولا نقصانَ بارتكابِ المعاصي، إذ التَّصديقُ في الحالينِ على ما كان قبلَهما)
[221] ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 149). .
4- قال الغَزْنَويُّ: (الإيمانُ لا يزيدُ بانضمامِ الطَّاعاتِ إليه، ولا ينتَقِصُ بارتكابِ المعاصي؛ لأنَّ الإيمانَ عبارةٌ عن التَّصديقِ والإقرارِ، وأمَّا تأويلُ ما ورد من الزِّيادةِ في القُرآنِ فمن وجوهٍ:
أحدُها: أنَّهم آمنوا وصَدَّقوا في الجملةِ، ثمَّ يزدادُ فَرضٌ بعدَ فَرضٍ فيؤمنون بكُلِّ فَرضٍ خاصٍّ؛ فيزدادُ إيمانُهم من حيث التَّفصيلُ مع إيمانِهم بالجملةِ.
والثَّاني: الثَّباتُ والدَّوامُ عليه زيادةٌ عليه في كُلِّ ساعةٍ.
الثالث: زيادتُهم إيمانًا أي يقينًا وإخلاصًا في كُلِّ ساعةٍ غيرَ شَكٍّ من حيثُ إنَّهم إذا رأوا معجزةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد معجزةٍ، ونُصرةً بعد نُصرةٍ، ودخل النَّاسُ في دينِ الإسلامِ، ازداد يقينُهم وإخلاصُهم في صِدقِ نبوَّتِه ورسالتِه وحقيقةِ دينِ الإسلامِ، مثالُه: إذا كان وليًّا وله مريدٌ كلَّما رأى منه الكراماتِ وزيادةَ العباداتِ، ازداد للمُريدِ يقينُه وإخلاصُه واعتقادُه فيه، وكذا هذه)
[222] ((أصول الدين)) (ص: 254 - 258) بتصَرُّف يسير. .
5- قال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (إذا ثبت أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ العبدِ، وهو لا يتزايدُ في نفسِه، دلَّ أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ بانضمامِ الطَّاعاتِ إليه، ولا يَنقُصُ بارتكابِ المعاصي؛ إذ التَّصديقُ في الحالينِ على ما كان قبلها)
[223] ((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 380). .
6- قال التَّفْتازانيُّ: (قال بعضُ المحَقِّقينَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ حقيقةَ التَّصديقِ لا يقبَلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، بل تتفاوتُ قُوَّةً وضَعفًا للقَطعِ بأنَّ تصديقَ آحادِ الأمَّةِ ليس كتصديقِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ؛ ولهذا قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ:
وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] )
[224] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 81). .
وقد بَيَّنَ أهلُ العِلمِ الصَّوابَ في هذه المسألةِ، وهو أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ حقيقةً.1- قال
ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى:
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] : (هذه الآيةُ مِن أكبَرِ الدَّلائِلِ على أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ، كما هو مذهَبُ أكثَرِ السَّلَفِ والخَلَفِ من أئمَّةِ العُلَماءِ، بل قد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحِدٍ)
[225] ((تفسير ابن كثير)) (4/239). .
2- قال
ابنُ رَجَبٍ: (زيادةُ الإيمانِ ونُقصانُه قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ. وقد رُوِيَ هذا الكلامُ عن طائفةٍ من الصَّحابةِ؛ كأبي الدَّرداءِ، وأبي هُرَيرةَ، و
ابنِ عَبَّاسٍ، وغَيرِهم من الصَّحابةِ. ورُوِيَ معناه عن عليٍّ، و
ابنِ مَسعودٍ أيضًا، وعن مجاهِدٍ، وغيرِه من التَّابعين. وتوقَّف بعضُهم في نَقْصِه، فقال: يزيدُ، ولا يقالُ: يَنقُصُ، ورُوِيَ ذلك عن
مالكٍ، والمشهورُ عنه كقَولِ الجماعةِ. وعن
ابنِ المبارَكِ قال: الإيمانُ يتفاضَلُ، وهو معنى الزِّيادةِ والنَّقصِ. وقد تلا
البخاريُّ الآياتِ التي ذكَرَ فيها زيادةَ الإيمانِ، وقد استدَلَّ بها على زيادةِ الإيمانِ أئِمَّةُ السَّلَفِ قديمًا؛ منهم: عَطاءُ بنُ أبي رباحٍ فمَن بَعْدَه. وتلا
البخاريُّ أيضًا الآياتِ التي ذُكِر فيها زيادةُ الهدى؛ فإنَّ المرادَ بالهدى هنا: فِعلُ الطَّاعاتِ، كما قال تعالى بعد وَصْفِ المتَّقين بالإيمانِ بالغَيبِ، وإقامِ الصَّلاةِ، والإنفاقِ مِمَّا رزَقَهم، وبالإيمانِ بما أُنزِلَ إلى محمَّدٍ وإلى من قَبْلَه باليَقينِ بالآخِرةِ، ثمَّ قال:
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] ، فسَمَّى ذلك كُلَّه هُدًى، فمن زادت طاعتُه فقد زاد هُداه.
ولَمَّا كان الإيمانُ يدخُلُ فيه المعرفةُ بالقَلْبِ، والقَولُ والعَمَلُ كُلُّه، كانت زيادتُه بزيادةِ الأعمالِ، ونُقصانُه بنُقصانِها. وقد صَرَّح بذلك كثيرٌ من السَّلَفِ، فقالوا: يزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمعصيةِ)
[226] ((فتح الباري)) (1/7-8). .