المبحَثُ الثَّاني: أبرَزُ كُتُبِ المُعتَزِلةِ
من أبرَزِ الكُتُبِ المعتَمَدةِ عندَ المُعتَزِلةِ:1- (الانتصارُ والرَّدُّ على ابنِ الرَّاوَنديِّ المُلحِدِ: ما قَصَد به من الكَذِبِ والطَّعنِ على المُسلِمين). لأبي الحُسينِ عبدِ الرحيمِ بنِ محمَّدٍ الخيَّاطِ المعتَزِليِّ (ت 311ه).الكتابُ يُعَدُّ من المراجعِ الهامَّةِ لمعرفةِ آراءِ
المعتزلةِ، وقد جاء في صورةِ نَقضٍ لكتابِ (فضيحة
المعتزلة) لابنِ الرَّاوَنديِّ، الذي كان معتزليًّا ثمَّ تشيَّع ثمَّ تزندقَ على حدِّ قولِ الخيَّاطِ.
وطريقتُه في الكتابِ هي عرضُ فقراتٍ من أقوالِ ابنِ الرَّاوَنديِّ، ثمَّ التعرُّضُ لها بالنَّقدِ والتحليلِ، ومحاولةُ تبرئةِ ساحةِ الاعتزالِ من التناقُضاتِ وغيرِها؛ حيثُ قال: (أمَّا جملةُ قولِ
المعتزِلةِ الذي يشتَمِلُ على جماعتِها، فليس يمكنُك عيبُه ولا الطَّعنُ فيه ما كنتَ مُظهِرًا لدينِ الإسلامِ؛ لأنَّ الأمَّةَ بأسرِها تُصَدِّقُ
المعتزلةَ في أصولِها التي تعتقدُها وتدينُ بها)
(الانتصار)) (ص: 5). .
وهو في ذلك ينقُلُ عن جملةٍ من أكابرِ
المعتزلةِ؛ أمثالِ: أبي الهُذَيلِ، والنَّظَّامِ، ومَعمَرٍ، وعليٍّ الأسواريِّ، و
الجاحِظِ، وثُمامةَ بنِ الأشرَسِ، وأبي عيسى المُردارِ، وغيرِهم؛ فالكتابُ يحمِلُ قيمةً كبيرةً لِما يحويه من جملةِ آراءِ الاعتزالِ
يُنظر: ((قراءة في المصادر الأولى لفرقتي المعتزلة والأشاعرة)) لرامي (ص: 86- 87). (UMDE Dini Tetkikler Dergisi) Journal of Religious Inquires 2/1 (July 2019) (77-100) .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ عنه: (وهو من أحفَظِ النَّاسِ باختلافِ
المعتزلةِ في الكلامِ وأعرَفِهم بأقاويلِهم)
((فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة)) (ص: 297). .
2- (المقالاتُ ومعه عيونُ المسائِلِ والجواباتِ) لأبي القاسِمِ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ البَلخيِّ (ت: 319 هـ).جمَع البلخيُّ في هذا الكتابِ أبرَزَ الاختلافاتِ التي دارت بين أهلِ القبلةِ؛ إذ أراد منه أن يكونَ جامعًا للفِرَقِ والمقالاتِ العَقَديَّةِ، وهو يُعَدُّ أيضًا مرجِعًا مهِمًّا في نقلِ آراءِ شيخِه أبي الحُسَينِ الخيَّاطِ المُعتزليِّ؛ فقد نقل عنه مشافهةً ومراسلةً.
قال الماتُريديُّ: (البلخيُّ يُعرَفُ عند
المعتزلةِ بإمامِ أهلِ الأرضِ في ذلك الزَّمانِ)
((التوحيد))، (ص: 78). وللاستزادةِ يُنظر: مقدمة ((المقالات للبلخي)) لخانصو وزملائه (ص: 5- 9). .
وقد حَرَص البلخيُّ على نقلِ الأقوالِ الاعتزاليَّةِ وأهلِ الفِرَقِ كما هي، ولو كانت قبيحةً في نظَرِه، فكان كما وصَف ابنُ المرتضى هذا الكتابَ بأنَّه: مجرَّدٌ عن الحُجَجِ وبيانِ الصَّحيحِ والفاسِدِ من المقالاتِ التي تناوَلها
((المنية والأمل)) (ص: 44). .
وهذا الكتابُ يُوَضِّحُ أيضًا نظرةَ
المعتزلةِ لأهلِ الحديثِ وللأخبارِ بوَجهٍ عامٍّ، كما وضَّح شروطَ قَبولِ الخبَرِ عندَ
المُعتزلةِ في مُقَدِّمةِ الكتابِ
يُنظر: ((قراءة في المصادر الأولى لفرقتي المعتزلة والأشاعرة)) لرامي (ص: 88). (UMDE Dini Tetkikler Dergisi) Journal of Religious Inquires 2/1 (July 2019) (77-100) .
3- (المُغني في أبوابِ التوحيدِ والعَدلِ) للقاضي عبدِ الجبَّارِ بنِ أحمدَ الهَمدانيِّ (ت 415ه).للقاضي عبدِ الجبَّارِ محَلٌّ كبيرٌ في علمِ الكلامِ، واطِّلاعٌ واسعٌ بمذهَبِ
المعتَزِلةِ، وغيرِهم من الفِرَقِ الكلاميَّةِ.
قال عنه الحاكِمُ الجُشَميُّ: (إليه انتهت الرِّئاسةُ في
المُعتَزِلةِ، حتَّى صار شيخَها وعالِمَها غيرَ مُدافَعٍ، وصار الاعتمادُ على كتُبِه، ومسائِلُه نَسَخت كتُبَ من تقَدَّمه من المشايخِ)
((المنية والأمل)) (ص: 3- 4). .
كما أنَّه (لا يستطيعُ أيُّ باحثٍ في علمِ الكلامِ عامَّةً وفي
المعتزلةِ خاصَّةً أن يستغنيَ عن موسوعةِ القاضي عبدِ الجبَّارِ الوافيةِ الشَّاملةِ، المُسمَّاةِ بـ "المُغني في أبوابِ العدلِ والتوحيدِ"، وكُتُبِه الأخرى)
((قراءة في المصادر الأولى لفرقتي المعتزلة والأشاعرة)) لرامي (ص: 88). (UMDE Dini Tetkikler Dergisi) Journal of Religious Inquires 2/1 (July 2019) (77-100) .
وقد قدَّم في هذا الكتابِ صورةً جَدَليَّةً دقيقةً وشاملةً لآراءِ
المعتَزِلةِ بوجهٍ عامٍّ، ولآراءِ المدرسةِ
الجُبَّائيَّةِ بصورةٍ خاصَّةٍ، حتى غدا القاضي لسانَ هذه المدرسةِ وقَلَمَها، وأبرَزَ أشياعِها على الإطلاقِ
((الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير)) لزرزور (ص: 452- 453). .
4- (شَرحُ الأصولِ الخمسةِ) للقاضي عبد الجبَّارِ بنِ أحمدَ الهَمدانيِّ (ت 415هـ).يُعنى هذا الكتابُ بتسليطِ الضَّوءِ على أصولِ
المُعتَزِلةِ الخمسةِ، وهي التوحيدُ، والعدلُ، والمنزلةُ بينَ المَنزِلتينِ، والوعدُ والوعيدُ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ. وهي الأصولُ التي اتَّفق عليها
المُعتَزلةُ.
وقد ورد ذِكرُ هذا الكتابِ في أماكِنَ مختلفةٍ من كتُبِ
المعتزلةِ وغيرِهم، وبأسماءٍ متعدِّدةٍ؛ ذكَره الحاكِمُ أبو السَّعدِ وابنُ المرتضى باسمِ: شرحُ الأصولِ، وشرحُ الأصولِ الخَمسةِ، والأصولُ. إلَّا أنَّ عُنوانَ "الأصولُ" أو "شرحُ الأصولِ" -على ما يظهَرُ- كان شائعًا، ونجِدُ عددًا من كِبارِ
المعتَزِلةِ نُسِبَت إليهم كتُبٌ بهذا الاسمِ؛ كالقاسمِ بنِ إبراهيمَ الرَّسيِّ، وأبي الهُذَيلِ العَلَّافِ.
وكتابُ "شرحُ الأصولِ الخمسةِ" أملاه عبدُ الجبَّارِ بعدَ بَدئِه في المغني، وكتبه عددٌ من تلاميذِه، وتمتازُ عبارتُه فيه بالوضوحِ والسُّهولةِ، على عكسِ عبارتِه في المُغني. وكان يُلقيه في دروسٍ يحضُرُها العامَّةُ والخاصَّةُ، فأراد أن يُبَسِّطَ قواعِدَ الاعتزالِ ويُيَسِّرَ تناوُلَها ونشرَها.
وتبدو قيمةُ هذا الشَّرحِ في إحاطتِه بأغلَبِ المسائِلِ الاعتقاديَّةِ التي كانت مدارَ البحثِ بين الكلاميِّين على اختلافِ مَشاربِهم من معتَزلةٍ وأشعريَّةٍ وكرَّاميَّةٍ ومُجبرةٍ وغيرِهم، وهو يُنصِفُ خُصومَه حينما يَعرِضُ آراءَهم بكُلِّ دِقَّةٍ ووضوحٍ، ثمَّ يبدأُ بالرَّدِّ عليهم
يُنظر: مقدمة ((شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار)) لعثمان (ص: 5- 34)، ((الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير)) لزرزور (ص: 452- 453). باختصارٍ وتصرفٍ يسيرٍ. .
5- (المجموعُ في المحيطِ بالتَّكليفِ) للقاضي عبدِ الجَبَّارِ بنِ أحمَدَ الهَمدانيِّ (ت 415ه)، وجمَعَه تلميذُه ابنُ مَتُّويَة.تأتي قيمةُ هذا الكتابِ في كونِه من أهمِّ النُّصوصِ الاعتِزاليَّةِ التي تتناوَلُ أصولَ الاعتزالِ بقَلَمٍ مُعتَزِليٍّ متمَكِّنٍ، وهو القاضي عبدُ الجبَّارِ، وهو (شيخُ
المعتزلةِ في عصرِه، وهم يُلَقِّبونه قاضي القضاةِ، ولا يُطلِقون هذا اللَّقَبَ على غيرِه)
((الأعلام)) للزركلي (3/ 273). .
وقد تناوَل في المحيطِ بالتَّكليفِ المواضيعَ الكبرى في الفِكرِ الاعتزاليِّ؛ كالكلامِ في التَّوحيدِ، والصِّفاتِ، والعَدلِ، والأفعالِ، والإرادةِ، والقُرآنِ، والتولُّدِ، وغيرِها
يُنظر: مقدمة ((المجموع في المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار)) لليسوعي (ص: د- و). .
وقد سجَّل تلميذُه ابنُ مَتُّويَة عليه بعضَ المراجَعاتِ؛ فقد كتب شرحًا تحليليًّا مُستقِلًّا لم يخلُ مِن نقدٍ أحيانًا، لكتابِ عبدِ الجبَّارِ "المحيطِ بالتَّكليفِ"، وسمَّاه "المجموعَ في المحيطِ بالتَّكليفِ"
يُنظر: ((المرجع في تاريخ علم الكلام)) لشفيع (ص: 316) بتصرفٍ يسيرٍ. .
وقد ذكَر
ابنُ العَرَبيِّ المالكيُّ أنَّ كتابَ المحيطِ أحدُ الكُتُبِ التي اعتنى بها مِن كُتُبِ مخالفيه
المعتزلةِ، فقال: (وأكثَرُ ما قرأتُ للمُخالفين كتابُ عبدِ الجبَّارِ الهَمدانيِّ الذي سمَّاه بـ "المحيط" مئةُ مجلَّدٍ)
((قانون التأويل)) (ص: 456). .
فهو يُعَدُّ أحَدَ أبرَزِ مؤلَّفاتِ القاضي عبدِ الجبَّارِ، وقد تلقَّى عنايةً فائقةً من المُستَشرِقين والمؤسَّساتِ البحثيَّةِ الغربيَّةِ؛ مما يدُلُّ على المكانةِ الخاصَّةِ التي احتَلَّها بين مصادِرِ العقيدةِ الاعتزاليَّةِ
يُنظر: ((المستشرقون ومصادر علم الكلام الإسلامي: بين التحقيق والنشر والترجمة)) للتميمي (ص: 121)، ((سردية النص الكلامي: قراءة سيميائية في كتاب المجموع المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار المعتزلي)) للمرهج، ورقة علمية في المؤتمر السادس للغة العربية، دبي - الإمارات العربية المتحدة، 7/ 5/ 2016م (ص: 160- 167). .
6- (تحكيمُ العقولِ في تصحيحِ الأصولِ) للقاضي أبي سعدٍ الحاكِمِ الجُشَميِّ (ت: 494 هـ).الحاكِمُ الجُشَميُّ مُؤَلِّفُ "تحكيمُ العقولِ" أحدُ كِبارِ
المعتَزِلةِ، ويعتَبَرُ أهمَّ أفرادِ مَدرَسةِ القاضي عبدِ الجبَّارِ في وقتِه، كما يظهَرُ من مؤلَّفاتِه في علمِ الكلامِ، بل تعدَّى تأثيرُه لسائرِ العُلومِ الإسلاميَّةِ من فقهٍ، وأصولِ فقهٍ، وتفسيرٍ، وحديثٍ، وهو شيخُ
الزَّمخشَريِّ يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (5/289)، ومقدمة ((عيون المسائل في الأصول للجشمي)) ليلدرم (ص: 32). .
وتكمُنُ أهميَّةُ كتابِه في نَقلِه مواقِفَ
المعتزلةِ وآراءَ عُلَمائِها السَّابقين عليه، وكذلك في تأثيرِه القَويِّ على اللَّاحقين له من أفرادِ
المعتَزِلةِ؛ لحِرصِه الشديدِ على الدِّفاعِ عن مذهَبِه الاعتزاليِّ، ونَقد مذاهِبِ الآخرين، وبذلك حَفِظ كثيرًا من آراءِ السَّابقين عليه ممَّا قد لا نجِدُه في مصادِرَ أُخرى، خاصَّةً مع ضياعِ أغلَبِ كُتُبِ
المعتَزِلةِ، وقد أطلَقَ عليه كثيرٌ من الزَّيديَّةِ (إمامَ
المعتزلةِ والذَّابَّ عن عقيدتِهم)
مقدمة ((عيون المسائل في الأصول للجشمي)) ليلدرم (ص: 33). .
فيُعتَبَرُ كتابُ "تحكيمُ العقولِ" من أهَمِّ كُتُبِ الجُشَميِّ الكلاميَّةِ، وهو مُقَسَّمٌ إلى خمسةِ أقسامٍ، تحدَّث فيها عن التوحيدِ والعدلِ والنبُوَّةِ، وما يتعلَّقُ بمسائِلِ الوعدِ والشَّفاعةِ، والمنزلةِ بين المَنزِلَتين، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وغيرِ ذلك. وهو ينقُدُ الآراءَ الأخرى ويَعرِضُ لرأيِه واعتقادِه.