الفصلُ الأوَّلُ: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: الجَهلُ
قال اللهُ تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11] .
قال
الشَّوكانيُّ: (
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ في الدُّنيا والآخِرةِ بتوفيرِ نصيبِهم فيهما،
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ أي: ويرفَعِ الذين أوتوا العِلمَ منكم درجاتٍ عاليةً في الكرامةِ في الدُّنيا والثَّوابِ في الآخِرةِ، ومعنى الآيةِ: أنَّه يرفَعُ الذين آمَنوا على مَن لم يُؤمِنْ درَجاتٍ، ويرفَعُ الذين أوتوا العِلمَ على الذين آمَنوا درجاتٍ، فمَن جمع بَينَ الإيمانِ والعِلمِ رفَعه اللهُ بإيمانِه درجاتٍ، ثُمَّ رفَعه بعِلمِه درجاتٍ، وفي هذه الآيةِ فضيلةٌ عظيمةٌ للعِلمِ وأهلِه)
[155] ((تفسير الشوكاني)) (5/ 226). .
ويُعتبَرُ ظُهورُ الجَهلِ وانتِشارُه مِن علاماتِ قُربِ وُقوعِ السَّاعةِ؛ فعن
ابنِ مسعودٍ وأبي موسى الأشعَريِّ رضِي اللهُ عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ بَينَ يدَي السَّاعةِ لأيَّامًا ينزِلُ فيها الجَهلُ، ويُرفَعُ فيها العِلمُ، ويكثُرُ فيها الهَرْجُ، والهَرجُ: القَتلُ)) [156] رواه البخاري (7062، 7063) واللَّفظُ له، ومسلم (2672). .
وعن
أنسٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَثبُتَ الجَهلُ، ويُشرَبَ الخَمرُ، ويظهَرَ الزِّنا )) [157] رواه البخاري (80) واللَّفظُ له، ومسلم (2671). .
فرتَّب عليه السَّلامُ على قِلَّةِ العِلمِ ورَفعِه وظُهورِ الجَهلِ وكثرتِه، كثرةَ وُقوعِ المُحرَّماتِ وانتِهاكِها، ومِن أعظَمِها القَتلُ؛ وهو الهَرْجُ، وهذا القَتلُ الذي يقعُ هو: بَينَ المُسلِمينَ، وهذا الجَهلُ الذي أخبَر عنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سيقعُ في الأمَّةِ، وأنَّه سيكونُ مِن أسبابِ تفرُّقِها هو جَهلٌ بأمرَينِ: الجَهلُ بعُلومِ الشَّريعةِ، والجَهلُ باللُّغةِ العربيَّةِ.
أوَّلًا: الجَهلُ بعُلومِ الشَّريعةِ لمَّا علِم الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم خُطورةَ الجَهلِ على مُستوى الفردِ وعلى الجماعةِ؛ حرَصوا على تعليمِ النَّاسِ أمورَ دينِهم، وعلى تلقينِ أبنائِهم أصولَ الاعتِقادِ، وتوصيتِهم بالتَّمسُّكِ بالسُّنَّةِ.
فكان
عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه يوصي النَّاسَ بتعلُّمِ العِلمِ، فيقولُ: (عليك بالعِلمِ قَبلَ أن يُقبَضَ، وقَبضُه أن يذهَبَ أهلُه)
[158] رواه اللَّالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة)) (1/ 87)، وابن بطة في ((الإبانة)) (1/333)، وابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (25)، والمروزي في ((السُّنَّة)) (24-25). .
ولقد أخبَرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوُقوعِ هذا الأمرِ، وحذَّرَنا مِن ذلك؛ فعن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رضِي اللهُ عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا ينتزِعُه مِن العِبادِ، ولكن يقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلَماءِ، حتَّى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخَذ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغَيرِ عِلمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا )) [159] رواه البخاري (100) واللَّفظُ له، ومسلم (2673). .
قال
الشَّاطِبيُّ وهو يذكُرُ أنَّ الاختِلافَ المُؤدِّيَ للفُرقةِ والذي يُلقي العداوةَ بَينَ المُسلِمينَ إنَّما يقعُ حينَما: (يعتقِدُ الإنسانُ في نَفسِه، أو يُعتقَدُ فيه أنَّه مِن أهلِ العِلمِ والاجتِهادِ في الدِّينِ -ولم يبلُغْ تلك الدَّرجةَ- فيعمَلُ على ذلك، ويَعُدُّ رأيَه رأيًا وخلافَه خلافًا، ولكن تارةً يكونُ ذلك في جُزئيٍّ وفَرعٍ مِن الفُروعِ، وتارةً يكونُ في كُلِّيٍّ وأصلِ مِن أصولِ الدِّينِ -كان مِن الأصولِ الاعتِقاديَّةِ أو مِن الأصولِ العِمليَّةِ-، فتراه آخِذًا ببعضِ جُزئيَّاتِ الشَّريعةِ في هَدمٍ لكِيانِها حتَّى يصيرَ منها ما ظهَر له بادِئَ رأيِه مِن غَيرِ إحاطةٍ بمعانيها، ولا رُسوخٍ في فَهمِ مقاصِدِها، وهذا هو المُبتدِعُ)
[160] ((الاعتصام)) (ص: 445). .
والنَّاظِرُ لأحوالِ أهلِ البِدَعِ ورُؤسائِهم المُفرِّقينَ للأمَّةِ شِيَعًا يجِدُهم بعيدينَ عن استيعابِ عُلومِ الشَّريعةِ، جاهِلينَ بفَهمِ معانيها، ومعرفةِ قواعِدِها ومقاصِدِها، مُعرِضينَ عن تتبُّعِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسُنَّةِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، وهذا ما أوقَعهم في الاختِلافِ والفُرقةِ
[161] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 76). .
ثانيًا: الجَهلُ باللُّغةِ العربيَّةِفالقرآنُ نزَل باللُّغةِ العربيَّةِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُخاطِبُ أصحابَه بهذه اللُّغةِ الفصيحةِ، ومِن الجَهلِ الذي يُؤدِّي إلى سوءِ فَهمِ نُصوصِ الشَّريعةِ، ومِن ثَمَّ تعدُّدِ الآراءِ وتفرُّقِها: الجَهلُ باللُّغةِ العربيَّةِ؛ لذا عُدَّ تعلُّمُ اللُّغةِ العربيَّةِ مِن العُلومِ الواجِبِ على المُجتهِدِ معرِفتُها
[162] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 4849). .
قال
الشَّافِعيُّ: (إنَّ القرآنَ نزَل بلِسانِ العربِ دونَ غَيرِه؛ لأنَّه لا يَعلَمُ مِن إيضاحِ جُمَلِ عِلمِ الكتابِ أحدٌ جَهِل سَعةَ لِسانِ العربِ، وكثرةَ وُجوهِه، وجِماعَ معانيه، وتُفرُّقَها، ومَن عَلمِه انتفَت عنه الشُّبَهُ التي دخلَت على مَن جَهِل لِسانَها)
[163] ((الرسالة)) (ص: 50). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (ممَّا يُستعانُ به على فَهمِ الحديثِ ما ذكَرْناه مِن العَونِ على كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهو العِلمُ بلِسانِ العربِ ومواقِعِ كلامِها وسَعةِ لُغتِها...، وكان عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه يكتُبُ إلى الآفاقِ أن يتعلَّموا السُّنَّةَ والفرائِضَ واللَّحْنَ -يعني النَّحوَ- كما يُتعلَّمُ القرآنُ)
[164] ((جامع بيان العلم)) (2/ 1132). .
وكم مِن شُبهةٍ دخلَت على أهلِ الفُرقةِ والبِدعةِ لجَهلِهم بلِسانِ العربِ!
قال
الشَّاطِبيُّ: (إذا استقرَيتَ أهلَ البِدَعِ المُتكلِّمينَ أو أكثَرَهم وجدْتَهم مِن أبناءِ سبايا الأمَمِ، ومَن ليس له أصالةٌ باللِّسانِ العربيِّ، فعمَّا قريبٍ يُفهَمُ كتابُ اللهِ على غَيرِ وَجهِه!)
[165] ((الاعتصام)) (ص: 447). .
إنَّ جَهلَ أصحابِ البِدَعِ باللُّغةِ العربيَّةِ جعَلهم يقولونَ بأصولِهم الاعتِقاديَّةِ البِدعيَّةِ التي يُفارِقونَ بها جماعةَ المُسلِمينَ، ويُفرِّقونَ الأمَّةَ، ويُخالِفونَ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وليس لهم مُستنَدٌ إلَّا الجَهلُ والرَّأيُ والظَّنُّ
[166] يُنظر: قَولُ المُعتَزِلةِ في إنفاذِ الوعيدِ، والقولِ بالمنزلةِ بين المنزلتَينِ في: ((الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (611، 615). .