المَطلَبُ الثَّاني: المُعتَزِلةُ في العَصرِ العبَّاسيِّ
يُعتبَرُ العصرُ العبَّاسيُّ الأوَّلُ عَصرَ ازدِهارٍ للمُعتَزِلةِ؛ إذ عاش فيه مُعظَمُ شُيوخِ مَدرَسةِ البَصرةِ وبغدادَ المُعتَزِليَّتَينِ.
وقد عاصَر
عَمرُو بنُ عُبَيدٍ أبا جَعفَرٍ المنصورَ العبَّاسيَّ، وقيل بوُجودِ صِلةٍ بَينَهما، وقد رُوِي أنَّه لمَّا خرَج مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحَسنِ المُلقَّبُ بالنَّفسِ الزَّكيَّةِ على
أبي جَعفَرٍ المنصورِ، استوثَق
المنصورُ بنَفسِه مِن عَدمِ مُسانَدةِ
عَمرِو بنِ عُبَيدٍ للنَّفسِ الزَّكيَّةِ في حَركتِه ضِدَّه
[400] يُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قُتَيبة (1/ 308)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (5/ 343). .
أمَّا في عهدِ
الرَّشيدِ فقد لَقِي
المُعتَزِلةُ متاعِبَ جمَّةً؛ نظرًا لكراهيَةِ
الرَّشيدِ لمبادِئِهم؛ فقد نهى عن الكلامِ، وأمَر بحبسِ المُتكلِّمينَ، وحبَس العتَّابيَّ الشَّاعِرَ وثُمامةَ بنَ أشرَسَ المُعتَزِليَّ، ثُمَّ اتَّخَذه بَعدَ ذلك نديمًا له، وإن لم يتأثَّرْ بمذهَبِه، كما توعَّد
بِشرًا المِرِّيسيَّ؛ فظلَّ مُختفيًا طَوالَ خلافةِ
الرَّشيدِ [401] يُنظر: ((ضحى الإسلام)) لأمين (2/162). ويُنظر أيضًا: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 236)، ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي (ص: 210). ، وكان يقتُلُ مَن يقولُ بخَلقِ القرآنِ جِهارًا
[402] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/215). .
ولمَّا انتهى الأمرُ إلى
المأمونِ العبَّاسيِّ زيَّن له
بِشرٌ المِرِّيسيُّ الاعتِزالَ فاعتنَقه
[403] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/275). ، كما قرَّب منه ثُمامةَ بنَ أشرَسَ حتَّى أصبَح لا يُبرِمُ أمرًا دونَه، بل إنَّه أصبَح يُرشِّحُ له وُزراءَه، فرشَّح له أحمَدَ بنَ أبي خالِدٍ، ثُمَّ مِن بعدِه يحيى بنَ أكثَمَ، وعن طريقِه تعرَّف
المأمونُ ب
أحمَدَ بنِ أبي دُؤادَ أحدِ رُؤوسِ بِدعةِ الاعتِزالِ في عَصرِه، وقد صار أحمَدُ هذا رأسًا في فِتنةِ خَلقِ القرآنِ، وقاضيًا للقُضاةِ في عهدِ المُعتصِمِ
[404] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/249). .
وكان
المأمونُ في أوَّلِ أمرِه بَينَ اتِّجاهَينِ: أوَّلُهما: إظهارُ الاعتِزالِ علنًا، وكان يُشجِّعُه على ذلك ثُمامةُ و
أحمَدُ بنُ أبي دُؤادَ، حتَّى إنَّه كاد أن يأمرَ بلَعنِ
مُعاوِيةَ على المنابِرِ، إلَّا أنَّ يحيى بنَ أكثَمَ قاضِيَه ويزيدَ بنَ هارونَ وزيرَه كانا يمنعانِه مِن هذا حتَّى مات يزيدُ بنُ هارونَ، وعُزِل يحيى بنُ أكثَمَ عن منصِبِه، فخلا الجوُّ لثُمامةَ و
أحمَدَ بنِ أبي دُؤادَ، فأظهَر
المأمونُ بِدعةَ الاعتِزالِ، وحمَل النَّاسَ عليها، فكانت المِحنةُ التي أُطلِق عليها مِحنةُ خَلقِ القرآنِ.
ويظهَرُ أنَّ
المأمونَ كان سريعَ التَّقلُّبِ والتَّغيُّرِ في آرائِه؛ فهو قد نادى قَبلَ ذلك بتفضيلِ عليٍّ على
أبي بكرٍ وعُمرَ، بل بايَع مِن بعدِه لإمامِ أهلِ البَيتِ في عصرِه، وهو
عليٌّ الرِّضا بنُ موسى الكاظِمِ بنِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ، وخلَع السَّوادَ شِعارَ العبَّاسيِّينَ، ولبِس الخُضرةَ لِباسَ العَلَويِّينَ، وذلك في عامِ 201هـ، ثُمَّ لمَّا مات عليٌّ الرِّضا رجَع عن البَيعةِ لآلِ البيتِ
[405] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/273). .
قال
ابنُ كثيرٍ عنه: (كان فيه تشيُّعٌ واعتِزالٌ وجَهلٌ بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ)
[406] ((البداية والنهاية)) (10/273). .
والصِّلةُ بَينَ التَّشيُّعِ والاعتِزالِ وثيقةٌ كما سيتبيَّنُ بَعدُ، وقد سار على منهَجِ الاعتِزالِ بَعدَ
المأمونِ المُعتصِمُ، ثُمَّ الواثِقُ مِن بعدِه.
فِتنةُ خَلقِ القرآنِ:بدأت فِتنةُ خَلقِ القرآنِ في عهدِ
المأمونِ عامَ 218هـ حينَ قرَّر في تلك السَّنةِ الإعلانَ عن عقيدتِه في خَلقِ القرآنِ، وحمَل النَّاسَ على القولِ بذلك، وبدأ في امتِحانِ الفُقهاءِ والقُضاةِ والعُلماءِ بشأنِها، ومُحاوَلةِ حَملِهم على التَّصريحِ باعتِقادِها، فأمَر نائِبَه على بغدادَ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ أن يمتحِنَ مَن عندَه، فمَن أقرَّ تَركَه في منصِبِه، ومَن خالَف عزَله وقطَع عنه راتِبَه مِن بَيتِ المالِ، وقد امتنَع إمامُ أهلِ السُّنَّةِ
أحمَدُ بنُ حَنبلٍ مِن الخُضوعِ لهذا التَّهديدِ، وآثَر حَملَ أمانةِ الحقِّ والاستِعلاءَ بها.
وكان
المأمونُ قد طلَب إحضارَ مَن امتنَع مِن عُلماءِ بغدادَ مِن الإقرارِ ببِدعتِه، فأُحضِر
أحمَدُ بنُ حَنبلٍ، ومُحمَّدُ بنُ نوحٍ، والحَسنُ بنُ حمَّادٍ، وعُبَيدُ اللهِ بنُ عَمرٍو القَواريريُّ.
وقد استجاب للتَّهديدِ بَعدَ ذلك الحَسنُ بنُ حمَّادٍ، وعُبَيدُ اللهِ بنُ عَمرٍو، ولم يصمُدْ إلَّا
أحمَدُ بنُ حَنبلٍ ومُحمَّدُ بنُ نوحٍ، وفي أثناءِ ذلك مات
المأمونُ، وتولَّى المُعتصِمُ مِن بعدِه، فعادوا إلى بغدادَ، وفي الطَّريقِ مات مُحمَّدُ بنُ نوحٍ، ثُمَّ أُودِعَ
أحمَدُ بنُ حَنبلٍ السِّجنَ عندَ بُلوغِه بغدادَ، وبقِي فيه مُدَّةَ عامَينِ ونِصفٍ.
وما زال
أحمَدُ بنُ أبي دُؤادَ يُؤلِّبُ المُعتصِمَ عليه حتَّى أمَر بإحضارِه إليه، وناظَره
أحمَدُ بنُ أبي دُؤادَ فأفحَمه
أحمَدُ بنُ حَنبلٍ، ولكنَّ الهوى والبِدعةَ تغلَّبا بالباطِلِ، فالتجؤوا إلى إغراءِ الخليفةِ بأنَّ مركَزَه سيتزعزَعُ أمامَ العامَّةِ إن عُرِف أنَّ
أحمَدَ بنَ حَنبلٍ هزَم خليفتَينِ، وعندَها أمَر المُعتصِمُ بضَربِه ثمانينَ سوطًا، ثُمَّ أعيد إلى منزِلِه حيثُ أقام فيه ولم يُفارِقْه طَوالَ خلافةِ المُعتصِمِ، ثُمَّ ابنِه الواثِقِ حتَّى انتقلَت الخلافةُ إلى المُتوكِّلِ ابنِ المُعتصِمِ.
وممَّن ابتُلِي وقُتِل في عهدِ الواثِقِ أحمَدُ بنُ نصرٍ، وكان مِن رجالِ العِلمِ والدِّينِ وذَوي المروءةِ والأخلاقِ، وكان على السُّنَّةِ في القولِ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غَيرُ مخلوقٍ، فامتحَنه الواثِقُ بَعدَ أن دبَّر أحمَدُ بنُ نصرٍ الثَّورةَ عليه بسببِ بِدعتِه وضلالتِه، ولكنَّه فشِل وأخَذوه إلى الواثِقِ؛ حيثُ قتَله بيدِه عامَ 231هـ
[407] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/335). .