المَطلَبُ الرَّابعُ: المُعتَزِلةُ في عصرِ البُوَيهيِّينَ
قامَت دولةُ بني بُوَيهِ في عامِ 334هـ في بلادِ فارِسَ، وكان مُؤسِّسَها عليُّ بنُ بُوَيهِ وأخواه مِن الدَّيلَمِ سُكَّانِ جَنوبِ غَربِ بحرِ قزوينَ، وقد انتشَر الإسلامُ بَينَهم على يدِ داعيةٍ شيعيٍّ اسمُه الحَسنُ بنُ عليٍّ الأُطْروشُ، فنَشؤوا نشأةَ الرَّافِضةِ، وتبنَّوا فِكرَهم في إبَّانِ دولتِهم، فكانت دولةً رافِضيَّةً وإن أبقَت على علاقتِها الظَّاهِرةِ بخُلفاءِ العبَّاسيِّينَ لأغراضٍ سياسيَّةٍ.
وقد ظهرَت العَلاقةُ قويَّةً بَينَ الرَّافِضةِ و
المُعتَزِلةِ في ظِلِّ هذه الدَّولةِ، إلَّا أنَّ تلك العلاقةَ كانت لها إرهاصاتٌ سابِقةٌ؛ فأبو
عليٍّ الجُبَّائيُّ الذي عدَّه ابنُ المُرتضى في الطَّبقةِ الثَّامنةِ للمُعتَزِلةِ
[412] يُنظر: ((طبقات المُعتزِلة)) (ص: 80). قد ردَّ على كتابِ عبَّادٍ في تفضيلِ
أبي بكرٍ رضِي اللهُ عنه، بَينَما سكَت عن كتابِ الإسْكافيِّ المُسمَّى (المعيارَ والمُوازَنةَ) في تفضيلِ عليٍّ على
أبي بكرٍ رضِي اللهُ عنهما
[413] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 12)، ((نشأة الأشعرية وتطورها)) لجلال موسى (ص: 121). ، والإسْكافيُّ مِن رُؤوسِ
المُعتَزِلةِ، وهو واضِعُ ذلك الكتابِ قَبلَ
الجُبَّائيِّ بزَمنٍ.
و
المأمونُ كان فيه تشيُّعٌ وقد أوعَز إليه ثُمامةُ بنُ أشرَسَ بلَعنِ
مُعاوِيةَ رضِي اللهُ عنه على المنابِرِ، بل إنَّ مصادِرَ الشِّيعةِ و
المُعتَزِلةِ تذكُرُ أنَّ
واصِلًا و
عَمرَو بنَ عُبَيدٍ قد أخَذا عن عبدِ اللهِ بنِ مُحمَّدٍ، وعبدُ اللهِ أخَذ عن
مُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ [414] يُنظر: ((طبقات المُعتزِلة)) لابن المرتضى (ص: 18). ، وروايةُ نِسبةِ الاعتِزالِ إلى
مُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ غَيرُ صحيحةٍ، ولكنَّها قد تبقى شاهِدةً على وُجودِ أثرٍ ما مُتبادَلٍ بَينَ الفِكرِ الشِّيعيِّ والاعتِزالِ، كما تقدَّم في
((نشأةِ المُعتَزِلةِ)).
وقد روى الشَّهْرَسْتانيُّ ما يُؤكِّدُ هذا الأثرَ عندَما ذكَر أنَّ زيدَ بنَ عليِّ بنِ الحُسَينِ قد تتلمَذ ل
واصِلِ بنِ عطاءٍ الغَزَّالِ رأسِ
المُعتَزِلةِ ورئيسِهم، فاقتبَس منه الاعتِزالَ، وصار أصحابُه كُلُّهم مُعتَزِلةً، وكان مِن مذهَبِه جوازُ إمامةِ المفضولِ معَ قيامِ الأفضَلِ، فقال: (كان عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه أفضَلَ الصَّحابةِ، إلَّا أنَّ الخلافةَ فُوِّضَت إلى
أبي بكرٍ لمصلحةٍ رأَوها وقاعِدةٍ دينيَّةٍ راعَوها مِن تسكينِ ثائِرةِ الفِتنةِ، وتطييبِ قُلوبِ العامَّةِ)
[415] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/155). .
ومِن أظهَرِ ما يدُلُّ على العَلاقةِ بَينَ الرَّافِضةِ و
المُعتَزِلةِ تعيينُ القاضي عبدِ الجبَّارِ الهَمَذانيِّ رأسِ
المُعتَزِلةِ في عَصرِه قاضيًا لقُضاةِ الرَّيِّ عامَ 360هـ، والذي ولَّاه هو
الصَّاحِبُ بنُ عبَّادٍ وَزيرُ مُؤيَّدِ الدَّولةِ البُوَيهيِّ، قال ابنُ المُرتضى عن الهَمَذانيِّ: (إليه انتهَت الرِّياسةُ في
المُعتَزِلةِ حتَّى صار شَيخَها وعالِمَها غَيرَ مُدافَعٍ)
[416] ((المُنْية والأمل)) (ص: 94). .
وكان
الصَّاحِبُ بنُ عبَّادٍ يقولُ فيه: (إنَّه أفضَلُ أهلِ الأرضِ)
[417] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 94). .
و
الصاحِبُ كان مِن الرَّوافِضِ
المُعتَزِلةِ، قال فيه
الذَّهبيُّ: (كان شيعيًّا مُعتَزِليًّا مُبتدِعًا)
[418] ((سير أعلام النبلاء)) (16/512). .
وذكَر
المَقريزيُّ أنَّه في ظلِّ الدَّولةِ البُوَيهيَّةِ قد (كثُرَت ببغدادَ الفِتنُ بَينَ الشِّيعةِ والسُّنَّةِ، وجهَر الشِّيعةُ في الأذانِ بــ"حيَّ على خيرِ العَمل"ِ في الكَرْخِ، وفشا مذهَبُ الاعتِزالِ بالعراقِ وخُراسانَ وما وراءَ النَّهرِ)
[419] ((المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)) (4/ 191). .
وقد عدَّد ابنُ المُرتضى في طَبقاتِ
المُعتَزِلةِ العديدَ مِن الرَّافِضةِ
المُعتَزِلةِ في ذلك العهدِ؛ منهم الشَّريفُ المُرتضى الذي عدَّه في الطَّبقةِ الثَّانيةَ عَشرةَ
[420] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) (ص: 116- 119). .
وقد قال عنه
الذَّهبيُّ: (كان مِن الأذكياءِ الأولياءِ المُتبحِّرينَ في الكلامِ والاعتِزالِ والأدَبِ والشِّعرِ، لكنَّه إماميٌّ جَلْدٌ)
[421] ((سير أعلام النبلاء)) (17/589). .
كذلك عدَّ ابنُ المُرتضى مِن الطَّبقةِ الحاديةَ عَشرةَ أبا عبدِ اللهِ الدَّاعيَ، ويحيى بنَ مُحمَّدٍ العَلويَّ وقال عنه: (كان إماميًّا)
[422] ((المُنْية والأمل)) (ص: 114). .
وبهذا ارتفَع شأنُ الاعتِزالِ مرَّةً أخرى على أيدي الرَّاوفِضِ وفي ظلِّ الدَّولةِ الرَّافِضيَّةِ البُوَيهيَّةِ.