المَطلَبُ الأوَّلُ: توضيحُ رأيِ المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ
كي يتَّضِحَ رأيُ
المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ المُباشِرةِ لا بُدَّ مِن سِياقِ شيءٍ مِن أقوالِهم التي قالوها بهذا الصَّددِ، والتي تُؤكِّدُ صحَّةَ ما يُنسَبُ إليهم.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ وهو يتكلَّمُ عن خَلقِ الأفعالِ: (والغَرضُ به الكلامُ في أنَّ أفعالَ العِبادِ غَيرُ مخلوقةٍ فيهم، وأنَّهم المُحدِثونَ لها)
[862] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 323). .
وقال أيضًا: (اتَّفَق كُلُّ أهلِ العَدلِ على أنَّ أفعالَ العِبادِ مِن تصرُّفِهم وقيامِهم وقُعودِهم حادِثةٌ مِن جِهتِهم، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أقدَرهم على ذلك، ولا فاعِلَ لها ولا مُحدِثَ سِواهم، وأنَّ مَن قال: إنَّ اللهَ سُبحانَه خالِقُها ومُحدِثُها فقد عظُم خطؤُه، وأحالوا حُدوثَ فِعلٍ مِن فاعِلَينِ)
[863] ((المغني في أبواب العدل)) (8/3). .
مِن هذَينِ النَّصَّينِ يظهَرُ ما يلي:
أوَّلًا: اتِّفاقُ
المُعتَزِلةِ على أنَّ اللهَ غَيرُ خالِقٍ لأفعالِ العِبادِ، ما عدا ضِرارَ بنَ عَمرٍو، وحَفصًا الفَرْدَ؛ فقد وافَقا أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ في أنَّ أفعالَ العِبادِ مخلوقةٌ فيهم للهِ تعالى.
قال
ابنُ حَزمٍ: (ذهَب أهلُ السُّنَّةِ كُلُّهم إلى أنَّ جميعَ أفعالِ العِبادِ مخلوقةٌ، خلَقها اللهُ عزَّ وجلَّ في الفاعِلينَ لها، ووافَقهم على هذا مُوافَقةً صحيحةً مِن
المُعتَزِلةِ ضِرارُ بنُ عُمرٍو، وحفصٌ الفَردُ)
[864] ((الفصل)) (3/41). .
ثانيُا: اتِّفاقُ
المُعتَزِلةِ على أنَّ العِبادَ خالِقونَ لأفعالِهم، وأنَّ اللهَ أقدَرهم على ذلك، وشذَّ عن هذا الإجماعِ ضِرارُ بنُ عَمرٍو، وحَفصٌ الفَردُ، كما ذكَر
ابنُ حَزمٍ آنِفًا أنَّهما يُوافِقانِ أهلَ السُّنَّةِ في أنَّها مخلوقةٌ للهِ، كما شذَّ أيضًا مَعمَرٌ و
الجاحِظُ؛ فقد قالا: (إنَّ أفعالَ العِبادِ مِن فِعلِ الطَّبيعةِ، أي: اضطِراريَّةٌ؛ كفِعلِ النَّارِ للإحراقِ، والثَّلجِ للتَّبريدِ، وهي إنَّما نُسِبَت إلى فاعِليها مجازًا لظُهورِها منهم، وأنَّ العِبادَ ليس لهم إلَّا الإرادةُ)
[865] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/41). ويُنظر: ((المجموع المحيط)) لعبد الجبار (1/ 380). .
فإذا كان
المُعتَزِلةُ يُنكِرونَ أن يكونَ اللهُ تعالى خالِقَ أفعالِ العِبادِ، فهل يُنكِرونَ عِلمَه الأزليَّ بها؟ يقولُ الخيَّاطُ: (إنَّ
المُعتَزِلةَ لم يُنكِروا العِلمَ الأزليَّ؛ فاللهُ تعالى عندَهم لم يزَلْ عالِمًا بكُلِّ ما يكونُ مِن أفعالِ خَلقِه، لا تخفى عليه خافِيةٌ، ولم يزَلْ عالِمًا مَن يُؤمِنُ ومَن يكفُرُ أو يعصي)
[866] ((الانتصار)) (ص: 118). .
كذلك لم تُنكِرِ
المُعتَزِلةُ أنَّ القُدرةَ التي يعمَلُ بها الإنسانُ مِن اللهِ.
قال عبدُ الجبَّارِ: (وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أقدَرهم على ذلك)
[867] ((المغني في أبواب العدل)) (8/3). .
وقال
واصِلُ بنُ عطاءٍ: (العبدُ فاعِلٌ للخيرِ والشَّرِّ... والرَّبُّ تعالى أقدَره على ذلك كُلِّه)
[868] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/51). .
إذًا فأفعالُ العِبادِ المُباشِرةُ باتِّفاقِ
المُعتَزِلةِ مخلوقةٌ للعِبادِ بقُدرةٍ مِن اللهِ، ما عدا ضِرارَ بنَ عَمرٍو وحَفصًا الفَردَ؛ فقد وافَقا أهلَ السُّنَّةِ في أنَّها مِن فِعلِ اللهِ، وكذلك مَعمَرٌ و
الجاحِظُ اللَّذَانِ قالا: إنَّها مِن فِعلِ الطَّبيعةِ.
والآنَ وبَعدَ أن عرَفْنا رأيَ
المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ المُباشِرةِ، لِنَعرِفْ ما تمسَّكوا به مِن شُبُهاتٍ.