المَبحَثُ الثَّاني: حدُّ الكبيرةِ والصَّغيرةِ عندَ المُعتَزِلةِ
المُعتَزِلةُ كغَيرِهم مِن الطَّوائِفِ الإسلاميَّةِ يرَونَ أنَّ المعاصيَ تنقسِمُ إلى ما هو صغيرةٌ، وإلى ما هو كبيرةٌ، نظرًا لِما ورَد في بيانِ ذلك مِن نُصوصٍ شرعيَّةٍ؛ فقد وردَت آياتٌ كريماتٌ مُشتمِلةٌ على ذِكرِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، كقولِه تعالى:
مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف: 49] ، وقولِه سُبحانَه:
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] وقال:
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] ، فرتَّب المعاصيَ هذا التَّرتيبَ؛ حيثُ بدأ بالكُفرِ الذي هو أعظَمُ الذُّنوبِ، وثنَّاه بالفِسقِ، وختَم بالعِصيانِ، فلا بُدَّ مِن أن يكونَ قد أراد به الصَّغائِرَ، وقد صرَّح بذِكرِ الكُفرِ والفِسقِ قَبلَه، إلى غَيرِ ذلك مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على هذا المعنى، وهذا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عليه بَينَ الفِرَقِ، ما عدا
الخوارِجَ، أمَّا تحديدُ معنى كُلٍّ مِن الصَّغيرةِ والكبيرةِ عندَ
المُعتَزِلةِ فقد وقَع بَينَهم خِلافٌ فيها.
ذهَب القاضي عبدُ الجبَّارِ إلى أنَّ الكبيرةَ في عُرفِ الشَّرعِ: ما يكونُ عِقابُ فاعِلِه أكثَرَ مِن ثوابِه؛ إمَّا مُحقَّقًا وإمَّا مُقدَّرًا.
وأمَّا الصَّغيرةُ فما يكونُ ثوابُ فاعِلِه أكثَرَ مِن عِقابِه؛ إمَّا مُحقَّقًا وإمَّا مُقدَّرًا، ثُمَّ قال: (احترَزْنا في الموضِعَينِ بقولِنا: إمَّا مُحقَّقًا وإمَّا مُقدَّرًا عن الكُفَّارِ ومَن لم يُطِعِ البتَّةَ؛ فإنَّه قد وقَع في أفعالِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ؛ على معنى أنَّه لو كان له ثوابٌ لكان يكونُ مُحبَطًا بما ارتكَبه مِن المعصيةِ، أو يكونُ عِقابُ ما أتى به مِن الصَّغيرةِ مُكفَّرًا في جَنبِ ما يَستحِقُّه مِن الثَّوابِ)
[1081] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 632). .
ومِن تعريفاتِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ عندَ
المُعتَزِلةِ ما ذكَره
الأشعَريُّ عن جَعفَرِ بنِ حربٍ، وذكَره القاضي عبدُ الجبَّارِ على سبيلِ النَّقدِ؛ فقد ذكَر عنه قولَه: (إنَّ كُلَّ عَمدٍ كبيرةٌ)، وقال بَعدَ ذلك: (وأظُنُّ أنَّ ذلك مذهَبٌ لبعضِ السَّلفِ مِن أصحابِنا)
[1082] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 634). .
فجَعفَرُ بنُ حربٍ يرى أنَّ الكبيرةَ هي القبيحُ الذي يقترِنُ بعَمدِ الإنسانِ وإصرارِه، أي: إنَّه يميلُ إلى وَصفِ الجريمةِ بحالِ الفاعِلِ لا بموضوعِ القبيحِ.
وأنكَر القاضي ذلك مِن وَجهَينِ:الأوَّلُ: أنَّ العَمدَ لا تأثيرَ له في كونِ الفِعلِ كبيرًا أو صغيرًا؛ لأنَّ للقبيحِ موضوعًا، أو بمعنًى آخَرَ: إنَّ للجريمةِ صفةً موضوعيَّةً إذا ما وقعَت مِن أيِّ إنسانٍ كانت كبيرةً أو صغيرةً.
الثَّاني: أنَّ الطَّريقَ إلى تحديدِ الكبائِرِ وتعيينِها هو الدَّلالةُ الشَّرعيَّةُ، وقد حدَّد الشَّرعُ أنَّ القَتلَ والزِّنا والقَذفَ وغَيرَهما كبائِرُ، وهذا لا يتَّفِقُ مع القولِ بالعَمدِ
[1083] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 634). .
ولا خِلافَ بَينَ
المُعتَزِلةِ في وُجودِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ بَينَ القبائِحِ، إلَّا أنَّ الخِلافَ بَينَهم كان حَولَ طريقِ الدَّلالةِ على ذلك؛ فذهَب البعضُ -وهُم الأكثَرُ- إلى أنَّ الشَّرعَ هو الذي يُعرِّفُنا باشتِمالِ المعاصي على صغيرٍ وكبيرٍ، ولو تُرِك للعقلِ لحكَم بأنَّ جميعَ المعاصي كبائِرُ؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ أقَلَّ القليلِ منها يستحِقُّ جُزءًا مِن العِقابِ، كما أنَّ أقَلَّ القليلِ مِن الطَّاعاتِ يستحِقُّ جُزءًا مِن الثَّوابِ، ومِن هؤلاء أبو عليٍّ، والقاضي عبدُ الجبَّارُ، وغَيرُهما، وقد استدلُّوا بما تقدَّم مِن أدلَّةٍ شرعيَّةٍ.
أمَّا الآخَرونَ فذهَبوا إلى أنَّ العَقلَ بمُفرَدِه يستطيعُ أن يُميِّزَ بَينَ الصَّغيرةِ والكبيرةِ؛ فسرِقةُ دِرهَمٍ ليست كسرِقةِ عَشرةِ دراهِمَ، وإلى هذا الرَّأيِ كان يذهَبُ أبو هاشِمٍ، ومال إليه جَعفَرُ بنُ حربٍ كما هو واضِحٌ مِن رأيِه المُتقدِّمِ في تحديدِ الفرقِ بَينَ الصَّغيرةِ والكبيرةِ.
وقد تختلِفُ آراءُ
المُعتَزِلةِ في تحديدِ معنى الصَّغيرةِ والكبيرةِ، وتتَّسِعُ مسافةُ الخِلافِ بَينَهم، لكن ما تبنَّوه مِن آراءٍ هو موضِعُ نَظرِنا؛ إذ إنَّها لا تُحدِّدُ لنا تحديدًا واضِحًا الفَرقَ بَينَ الأمرَينِ، لا سيَّما ما ذهَب إليه القاضي عبدُ الجبَّارِ –وإن كان هو الأكثَرَ انسِجامًا معَ مذهَبِ القومِ–؛ لأنَّ الثَّوابَ والعِقابَ ممَّا لا يعلَمُ مِقدارَه إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالى، فاختِلافُه قِلَّةً وكثرةً مِن شخصٍ لآخَرَ أمرٌ خفِيٌّ لا يُمكِنُنا إدراكُه، على أنَّ الضَّابِطَ الذي ذكَره القاضي عبدُ الجبَّارِ على أنَّه تحقيقٌ للمذهَبِ: مُناقِضٌ لِما هو مشهورٌ مِن مذهَبِ
المُعتَزِلةِ الذي سيأتي بَعدُ مِن أنَّ ثوابَ الطَّاعاتِ مُحبَطٌ لا وَزنَ له معَ ارتِكابِ الإنسانِ للكبيرةِ؛ لأنَّ صاحِبَها مُخلَّدٌ في النَّارِ، فأين الثَّوابُ الذي يُمكِنُ أن يُقاسَ معَ العِقابِ، ويُحدَّدَ بموجِبِه كُلٌّ مِن الصَّغيرةِ والكبيرةِ؟
و
المُعتَزِلةُ اختلَفوا في حُكمِ كُلٍّ مِن الصَّغائِرِ والكبائِرِ عندَهم.
أمَّا الصَّغائِرُ فقد ذكَر
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ أنَّهم لم يتَّفِقوا على قولٍ واحِدٍ بشأنِها، بل دار بَينَهم الخِلافُ في ذلك على أقوالٍ ثلاثةٍ:
1- أنَّ اللهَ سُبحانَه يغفِرُ الصَّغائِرَ إذا اجتُنِبَت الكبائِرُ تفضُّلًا.
2- أنَّ اللهَ يغفِرُ الصَّغائِرَ إذا اجتُنِبَت الكبائِرُ باستِحقاقٍ.
3- أنَّ اللهَ لا يغفِرُ الصَّغائِرَ إلَّا بالتَّوبةِ
[1084] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/332). .
فهذه أقوالٌ ثلاثةٌ عندَ
المُعتَزِلةِ، اثنانِ منها قالت بالغُفرانِ، والخِلافُ بَينَهما في الاستِحقاقِ والتَّفضُّلِ، والاستِحقاقُ كما هو واضِحٌ فيه تحكُّمٌ على اللهِ سُبحانَه، وذلك غَيرُ لائِقٍ بحالٍ.
ولكنَّ مِن مبادِئِ
المُعتَزِلةِ المشهورةِ عنهم قَولَهم بوُجوبِ الصَّلاحِ والأصلَحِ، ولا يخفى ما في هذا المبدَأِ مِن جَسارةٍ وعَدمِ تأدُّبٍ معَ اللهِ سُبحانَه وتعالى، أمَّا القولُ الثَّالثُ فإنَّه يجعَلُ الصَّغيرةَ بمنزِلةِ الكبيرةِ في عَدمِ الغُفرانِ إلَّا بالتَّوبةِ، وهذا لم يقُلْ به أحدٌ، ومُخالِفٌ أيضًا لِما عليه
المُعتَزِلةُ أنفُسُهم مِن الفَرقِ بَينَ الصَّغيرةِ والكبيرةِ مِن حيثُ المعنى والاعتِبارُ.