تمهيد: حدودُ استخدامِ العقل في الإسلامِ
إنَّ الموقِفَ الاعتِزاليَّ من العقلِ مبنيٌّ على تقديسِ هذا العقلِ والانطِلاقِ من مُقَرَّراتِه، وتقديمِها على النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وهو وإن كان قد مضى ذِكرُه عَرَضًا في سياقاتٍ سابقةٍ، إلَّا أنَّه يتطَلَّبُ إبرازَ الموقِفِ منه، ومحاوَلةَ ذِكرِ الأسبابِ التي دعَت إلى سُلوكِهم هذا المَسلَكَ، وغيرَ ذلك ممَّا يتعلَّقُ بهذا الموضوعِ
[1485] يُنظر لهذا الباب: ((منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير)) للرومي (ص: 38- 40). ((موقف المُعتزِلة من السنة النبوية)) لأبي لبابة (ص: 151) وما بعدها. بتصرُّفٍ يَسير. وللاستزادة يُنظر: ((مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات)) للقاضي (ص: 473- 479)، ((نقض أصول العقلانيين)) للخراشي (منشور إلكترونياً)، ((الرسل والرسالات)) للأشقر (ص: 35- 39). .
والصَّحيحُ أن الإسلامَ قد حدَّدَ للعقلِ مجالاتِه التي يخوضُ فيها حتَّى لا يَضِلَّ، وفي هذا تكريمٌ له أيضًا؛ لأنَّه محدودُ الطَّاقاتِ والمَلَكاتِ؛ فلا يستطيعُ أن يُدرِكَ كُلَّ الحقائِقِ مهما أوتي مِن قُدرةٍ وطاقةٍ على الاستيعابِ والإدراكِ؛ لذا فإنَّه سيظلُّ بعيدًا عن مُتناوَلِ كثيرٍ مِن الحقائِقِ، وإذا ما حاوَل الخوضَ فيها التبسَت عليه الأمورُ، وتخبَّط في الظُّلماتِ، وفي هذا مَدعاةٌ لوُقوعِه في كثيرٍ مِن الأخطاءِ، ورُكوبِه متنَ العديدِ مِن الأخطارِ.
فأمَر الإسلامُ العقلَ بالاستِسلامِ والامتِثالِ للأمرِ الشَّرعيِّ الصَّريحِ حتَّى ولو لم يدرِكِ الحِكمةَ والسَّببَ في ذلك، وقد كانت أوَّلُ معصيةٍ للهِ ارتُكِبَت بسببِ عَدمِ هذا الامتِثالِ؛ فحينَما أمَر اللهُ سُبحانَه وتعالى
إبليسَ بالسُّجودِ لآدَمَ عليه السَّلامُ استكبَر وعصى واستبدَّ برأيِه؛ فقارَن بَينَ خَلقِه وخَلقِ آدَمَ عليه السَّلامُ:
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] ؛ فلم يمتثِلْ للأمرِ طلبًا للسَّببِ الذي يسجُدُ لأجلِه الفاضِلُ للمفضولِ حسَبَ رأيِه، فلمَّا لم يُدرِكْ عقلُه السَّببَ رفَض الامتِثالَ؛ فكانت المعصيةُ، وكانت العُقوبةُ.
لذا منَع الإسلامُ العقلَ مِن الخوضِ فيما لا يُدرِكُه ولا يكونُ في مُتناوَلِ إدراكِه؛ كالذَّاتِ الإلهيَّةِ، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((لا يزالُ النَّاسُ يتساءَلونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَق اللهُ الخَلْقَ، فمَن خلَق اللهَ؟ فمَن وجَد مِن ذلك شيئًا فليقُلْ: آمَنْتُ باللهِ )) [1486] أخرجه البُخاريُّ (3276) بنحوه، ومُسلمٌ (134) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعلى هذا مضى المُسلِمونَ في العَصرِ الأوَّلِ مِن الإسلامِ؛ إذ عرَفوا ما للعقلِ فدرَسوه وحفِظوه، وما ليس له فاجتنَبوه، بل اجتنَبوا مَن عُرِف بالأهواءِ والسُّؤالِ عن المُتشابِهِ.
فهذا صَبيغُ بنُ عِسْلٍ جعَل يسألُ عن مُتشابِهِ القرآنِ في أجنادِ المُسلِمينَ حتَّى قدِم مِصرَ، فبعَث به
عَمرُو بنُ العاصِ إلى عُمرَ بنِ الخطَّابِ، رضِي اللهُ عنهما، فلمَّا أتاه الرَّسولُ بالكتابِ، فقرأه قال: أين الرَّجلُ؟ أبصِرْ لا يكونُ ذهَب فتصيبَك منِّي العُقوبةُ الوَجيعةُ، فأتى به، فضرَبه، وأعاده إلى أرضِه، وكتَب إلى أبي موسى الأشعَريِّ ألَّا يُجالِسَه أحدٌ مِن المُسلِمينَ. قال أبو عُثمانَ النَّهديُّ: فلو جاءنا ونحن مائةٌ لتفرَّقْنا عنه
[1487] يُنظر: ((تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر)) لابن بدران (6/385). !
ولا يعني هذا أنَّ العَصرَ الإسلاميَّ كان خاليًا كُلَّ الخُلوِّ مِن الآراءِ الشَّاذَّةِ، بل وُجِد شيءٌ من ذلك في وَقتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولكن كان لوُجودِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُزولِ الوَحيِ حينَئذٍ القضاءُ على تلك الآراءِ في مَهدِها؛ فالمُنافِقونَ قالوا يومَ أحُدٍ عن إخوانِهم:
لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران: 156] ، فهل هذا إلَّا تصريحٌ بإنكارِ القَدَرِ
[1488] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/22). ؟!
وقالت طائِفةٌ مِن المُشرِكينَ:
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 35] ، فهل هذا إلَّا تصريحٌ بالجَبرِ
[1489] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/22). ؟!
بل إنَّ منهم مَن جادَل في ذاتِ الله:
وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: 13] .
ولكنَّ هذه الآراءَ لم يتبنَّها أصحابُها، ويَدْعوا إليها، ويُؤلِّفوا عنها، ويَنشُروها بَينَ النَّاسِ ويَنسُبوها إلى الإسلامِ.