الفصلُ الثَّاني: مُناقَشةُ المُعتَزِلةِ في مسائِلِ النُّبوَّاتِ
بالنَّظرِ إلى آراءِ
المُعتَزِلةِ حولَ النُّبوَّاتِ نجِدُ أنَّها مُتعدِّدةٌ ومُتشعِّبةٌ؛ فأمَّا قولُهم بإيجابِ إرسالِ الرُّسلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ، فهذا مردودٌ عليهم؛ فقولُهم بالإيجابِ مبنيٌّ على رأيِهم في التَّحسينِ والتَّقبيحِ العقليَّينِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (نحن نقولُ: لا يجِبُ على اللهِ شيءٌ، ويحسُنُ منه كُلُّ شيءٍ، وإنَّما ننفي ما ننفيه بالخبرِ السَّمعيِّ، ونوجِبُ وُقوعَ ما يقعُ بالخبرِ السَّمعيِّ أيضًا)
[1521] ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 325). .
وأمَّا قولُهم: بأنَّ النَّبوَّةَ (جزاءُ عَملٍ سابِقٍ): فهذا بناءً على أصلِهم في التَّعديلِ والتَّجويرِ، وأنَّ اللهَ لا يُفضِّلُ شخصًا على شخصٍ إلَّا بعَملِه؛ لذا هم يقولونَ: إنَّ النَّبيَّ فعَل مِن الأعمالِ الصَّالِحةِ ما استحقَّ به أن يجزيَه اللهُ عنه بالنُّبوَّةِ
[1522] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 326). .
فالنُّبوَّةُ ليست جزاءً على عَملٍ سابِقٍ كما يزعُمونَ، وإنَّما هي اجتِباءٌ واصطِفاءٌ، وفَضلٌ مِن اللهِ؛ فاللهُ يصطفي مِن الملائِكةِ رُسلًا ومِن النَّاسِ، واللهُ أعلَمُ حيثُ يجعَلُ رسالتَه.
وأوضَح
ابنُ تيميَّةَ أنَّ النَّبيَّ يختصُّ بصفاتٍ ميَّزه اللهُ بها على غَيرِه في عقلِه ودينِه، واستعدَّ لأن يخُصَّه اللهُ بفَضلِه ورحمتِه، واستدلَّ بقولِ اللهِ تعالى:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ* أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ* نَحْنُ قَسَمْنَا مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 31- 32] [1523] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 327- 328). .
وأمَّا قولُهم بأنَّ المُعجِزاتِ هي الطَّريقُ لإثباتِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ، فيُقالُ: أمَّا كونُ المُعجِزةِ دليلًا صحيحًا لذلك، فهذا لا إشكالَ فيه، وأمَّا كونُها الطَّريقَ الوحيدَ فهذا ليس بصوابٍ، (بل معرفتُها بغَيرِ المُعجِزاتِ مُمكِنةٌ؛ فإنَّ المقصودَ إنَّما هو معرفةُ صِدقِ مُدَّعي النُّبوَّةِ أو كِذبِه؛ فإنَّه إذا قال: إنِّي رسولُ اللهِ، فهذا كلامٌ إمَّا أن يكونَ صِدقًا وإمَّا أن يكونَ كَذِبًا، والتَّمييزُ بَينَ الصَّادِقِ والكاذِبِ له طُرقٌ كثيرةٌ فيما هو دونَ دَعوى النُّبوَّةِ، فكيف بدَعوى النُّبوَّةِ؟
ومعلومٌ أنَّ مُدَّعي الرِّسالةِ إمَّا أن يكونَ مِن أفضَلِ الخَلقِ وأكمَلِهم، وإمَّا أن يكونَ مِن أنقَصِ الخَلقِ وأرذَلِهم؛ ولهذا قال أحدُ أكابِرِ ثَقيفٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بلَّغهم الرِّسالةَ، ودعاهم إلى الإسلامِ: واللهِ لا أقولُ لك كَلِمةً واحِدةً؛ إن كنْتَ صادِقًا فأنت أجَلُّ في عيني مِن أن أرُدَّ عليك، وإن كنْتَ كاذِبًا فأنت أحقَرُ مِن أن أرُدَّ عليك.
فكيف يَشتبِهُ أفضَلُ الخَلقِ وأكمَلُهم بأنقَصِ الخَلقِ وأرذَلِهم؟... وما مِن أحدٍ ادَّعى النُّبوَّةَ مِن الكذَّابينَ إلَّا وقد ظهَر عليه مِن الجهلِ والكَذِبِ والفُجورِ واستِحواذِ الشَّياطينِ عليه ما ظهَر لمَن له أدنى تمييزٍ.
وما مِن أحدٍ ادَّعى النُّبوَّةَ مِن الصَّادِقينَ إلَّا وقد ظهَر عليه مِن العِلمِ والصِّدقِ والبِرِّ وأنواعِ الخيراتِ ما ظهَر لمَن له أدنى تمييزٍ؛ فإنَّ الرَّسولَ لا بُدَّ أن يُخبِرَ النَّاسَ بأمورٍ ويأمُرَهم بأمورٍ، ولا بُدَّ أن يفعَلَ أمورًا...، والنَّاسُ يُميِّزونَ بَينَ الصَّادِقِ والكاذِبِ بأنواعٍ مِن الأدِلَّةِ حتَّى في المُدَّعينَ للصِّناعاتِ والمقالاتِ، كالفِلاحةِ، والنِّساجةِ وغَيرِها)
[1524] ((شرح الأصفهانية)) لابن تَيميَّة (ص: 89- 91). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (النُّبوَّةُ في الآدميِّينَ هي مِن عهدِ آدَمَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه كان نبيًّا، وكان بَنوه يعلَمونَ نُبوَّتَه وأحوالَه بالاضطِرارِ.
وقد عُلِم جنسُ ما يدعو إليه الرُّسلُ، وجِنسُ أحوالِهم؛ فالمُدَّعي للرِّسالةِ في زمنِ الإمكانِ إذا أتى بما ظهَر به مُخالَفتُه للرُّسلِ عُلِم أنَّه ليس منهم، وإذا أتى بما هو مِن خصائِصِ الرُّسلِ عُلِم أنَّه منهم؛ لا سيَّما إذا عُلِم أنَّه لا بُدَّ مِن رسولٍ مُنتظَرٍ، وعُلِم أنَّ لذلك الرَّسولِ صفاتٍ مُتعدِّدةً تُميِّزُه عمَّن سِواه، فهذا قد يبلُغُ بصاحِبِه إلى العِلمِ الضَّروريِّ بأنَّ هذا هو الرَّسولُ المُنتظَرُ؛ ولهذا قال تعالى:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] .
والمَسلَكُ الأوَّلُ: النَّوعيُّ، هو ممَّا استدلَّ به النَّجاشيُّ على نُبوَّتِهفإنَّه لمَّا استخبَرهم عمَّا يُخبَرُ به، واستقرَأهم القرآنَ، فقرؤوه عليه؛ قال: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحِدةٍ
[1525] أخرجه أحمد (1740) واللَّفظُ له، وأبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/115)، والبيهقي في ((شُعَب الإيمان)) (82) من حديثِ أمِّ سلمةَ رَضِيَ اللهُ عنها. حسَّنه الوادعيُّ في ((الصحيح المُسنَد مما ليس في الصحيحين)) (1651)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/180)، والألباني في ((فقه السيرة)) (115). .
وكذلك قَبلَه وَرَقةُ بنُ نَوفَلٍ لمَّا أخبَره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما رآه (وكان امرَأً تنصَّر في الجاهليَّةِ، وكان يكتُبُ الكتابَ العِبرانيَّ، فيكتُبُ مِن الإنجيلِ بالعِبرانيَّةِ ما شاء اللهُ أن يكتُبَ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِي، فقالت له
خديجةُ: يا بنَ عمِّ، اسمَعْ مِن ابنِ أخيك، فقال له وَرَقةُ: يا بنَ أخي، ماذا ترى؟ أخبَره رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خبرَ ما رأى، فقال له وَرَقةُ: هذا النَّاموسُ الذي نزَّل اللهُ على موسى، يا ليتَني فيها جَذَعًا، ليتَني أكونُ حيًّا إذ يُخرِجُك قومُك. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَمخرِجيَّ هم؟! قال: نعَم، لم يأتِ رجُلٌ قطُّ بمِثلِ ما جئْتَ به إلَّا عودِيَ، وإن يُدرِكْني يومُك أنصُرْك نَصرًا مُؤزَّرًا، ثُمَّ لم يَنشَبْ وَرَقةُ أن تُوفِّي، وفَتَر الوَحيُ)
[1526] أخرجه البُخاريُّ (3) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (160) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
المَسلَكُ الثَّاني: الشَّخصيُّ، وهو ما استدلَّ به هِرَقلُ ملِكُ الرُّومِفإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا كتَب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلامِ طلَب هِرَقلُ مَن كان عِندَه مِن العربِ، وكان أبو سُفيانَ قد قدِم في طائِفةٍ مِن قُرَيشٍ في تِجارةٍ إلى غزَّةَ، فطلَبهم وسألهم عن أحوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأل أبا سُفيانَ وأمَر الباقينَ إن كذَب أن يُكذِّبوه، فصار يجِدُهم مُوافِقينَ له في الإخبارِ، فسألهم: هل كان في آبائِه مَن ملَك؟ قالوا: لا، وهل قال هذا القولَ أحدٌ قَبلَه؟ قالوا: لا. وسألهم: أهو ذو نَسَبٍ فيكم؟ قالوا: نعَم، وسألهم: هل كنْتُم تتَّهِمونَه بالكذِبِ قَبلَ أن يقولَ ما قال؟ فقالوا: لا، ما جرَّبْنا عليه كذِبًا، وسألهم: هل اتَّبَعه ضُعفاءُ النَّاسِ أم أشرافُهم؟ فذكَروا أنَّ الضُّعَفاءَ اتَّبَعوه، وسألهم: هل يزيدونَ أم يَنقُصونَ؟ فذكَروا أنَّهم يزيدونَ، وسألهم: هل يرجِعُ أحدٌ منهم عن دينِه سُخطةً له بَعدَ أن يدخُلَ فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتَلْتُموه؟ قالوا: نعَم، وسألهم عن الحربِ بَينَهم وبَينَه؟ فقالوا: يُدالُ علينا المرَّةَ ونُدالُ عليه الأخرى، وسألهم: هل يَغدِرُ؟ فذكَروا أنَّه لا يَغدِرُ، وسألهم: بماذا يأمُرُكم؟ فقالوا: يأمرُنا أن نعبُدَ اللهَ وحدَه ولا نُشرِكَ به شيئًا، وينهانا عمَّا كان يعبُدُ آباؤُنا، ويأمُرُنا بالصَّلاةِ والصِّدقِ والعَفافِ والصِّلةِ؛ فهذه أكثَرُ مِن عَشرِ مسائِلَ.
ثُمَّ تبيَّن لهم ما في هذه المسائِلِ مِن الدَّلالةِ، وأنَّه سألهم عن أسبابِ الكذِبِ وعلاماتِه، فرآها مُنتفيةً، وسألهم عن علاماتِ الصِّدقِ، فوجَدها ثابِتةً، فسألهم: هل كان في آبائِه مَن ملَك؟ فقالوا: لا، قال: قُلْتُ: فلو كان في آبائِه ملِكٌ لقُلْتُ: رجُلٌ يطلُبُ مُلكَ أبيه، وسألتْك: هل قال هذا القولَ فيكم أحدٌ قَبلَه؟ فقلْتَ: لا، فقُلْتُ: لو قال هذا القولَ أحدٌ قَبلَه لقُلْتُ: رجُلٌ ائتمَّ بقولٍ قيل قَبلَه، ولا ريبَ أنَّ اتِّباعَ الرَّجلِ لعادةِ آبائِه، واقتِداءَه بمن كان قَبلَه كثيرًا ما يكونُ في الآدَميِّينَ، بخِلافِ الابتِداءِ بقولٍ لم يُعرَفْ في تلك الأمَّةِ قَبلَه، وطَلبِ أمرٍ لا يُناسِبُ حالَ أهلِ بَيتِه؛ فإنَّ هذا قليلٌ في العادةِ، لكنَّه قد يقَعُ.
ولهذا أردَفه بقولِه: فهل كنْتُم تتَّهمونَه بالكذِبِ قَبلَ أن يقولَ ما قال؟ فقالوا: لا، قال: فقد علِمْتُ أنَّه لم يكنْ لِيدَعَ الكذِبَ على النَّاسِ ثُمَّ يذهَبَ فيكذِبَ على اللهِ، وذلك أنَّ مِثلَ هذا يكونُ كذِبًا محضًا يكذِبُه لغَيرِ عادةٍ جرَت، وهذا لا يفعَلُه إلَّا مَن يكونُ مِن شأنِه أن يكذِبَ، فإذا لم يكنْ مِن خُلقِه الكذِبُ قطُّ، بل لم يُعرَفْ منه إلَّا الصِّدقُ، وهو يتورَّعُ أن يكذِبَ على النَّاسِ؛ كان تورُّعُه عن أن يكذِبَ على اللهِ أَولى وأحَقَّ، والإنسانُ قد يخرُجُ عن عادتِه في نَفسِه إلى عادةِ بني جِنسِه؛ فإذا انتفى هذا وهذا كان هذا أبعَدَ عن الكذِبِ وأقرَبَ إلى الصِّدقِ.
ثُمَّ أردَف ذلك بالسُّؤالِ عن علاماتِ الصِّدقِ، فقال: وسألْتُكم أضُعفاءُ النَّاسِ يتَّبِعونَه أم أشرافُهم؟ فقُلْتُم: ضُعفاؤُهم، وهُم أتباعُ الرُّسلِ، وقال: فهذه علاماتٌ مِن علاماتِ الرُّسلِ، وهو اتِّباعُ الضُّعفاءِ له ابتِداءً
[1527] حديثُ هِرَقلَ: أخرجه البُخاريُّ (7)، ومُسلمٌ (1773) بلفظٍ مُقارِبٍ. [1528] ((شرح الأصفهانية)) لابن تَيميَّة (ص: 93- 99). .
أمَّا عن موقِفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ مِن عِصمةِ الأنبياءِ: فيُقِرُّ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ بأنَّ الأنبياءَ معصومونَ فيما يُبلِّغونَه عن اللهِ تعالى، وهذا هو مقصودُ الرِّسالةِ؛ فإنَّ الرَّسولَ هو الذي يُبلِّغُ عن اللهِ أمرَه ونَهيَه، وغَيرَه، وهُم معصومونَ في تبليغِ الرِّسالةِ باتِّفاقِ المُسلِمينَ؛ بحيثُ لا يجوزُ أن يستقِرَّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأِ
[1529] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (1/ 330- 331). .
كما أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ مُتَّفِقونَ على أنَّ الرُّسلَ لا يُقَرُّونَ على خطأٍ في الدِّينِ أصلًا، ولا على فِسقٍ ولا كذِبٍ، وفي الجُملةِ فكُلُّ ما يقدَحُ في نُبوَّتِهم وتبليغِهم عن اللهِ فهُم مُتَّفِقونَ على تنزيهِهم عنه، وعامَّةُ الجُمهورِ يُجوِّزونَ عليهم الصَّغائِرَ، يقولونَ: إنَّهم معصومونَ مِن الإقرارِ عليها، فلا يَصدُرُ منهم ما يَضُرُّهم
[1530] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (1/ 331- 332). .