هو رُسْتُم فرخزاد قائدُ الجيشِ الفارسيِّ في عَهدِ آخر مُلوكِ الدَّولةِ السَّاسانيَّةِ يزدجرد الثَّالث أصلُه مِن أَرْمِينيَة، وكان يَخدُم مَلِكَ الفُرْسِ بإخلاصٍ، أرسل يزدجرد الثَّالث القائدَ رُستمَ مُجبِرًا إيَّاه قِيادةَ الجيش الفارسيِّ لِيواجِهَ جُيوشَ المسلمين التي كانت تَخْترِق العِراقَ تَمهيدًا لفتحِ بِلاد فارس، واجَه رُستم المسلمين في القادِسيَّة وفي رابعِ أيَّام القادسيَّة هَبَّتْ رِيحٌ شديدةٌ فرفعَتْ خِيامَ الفُرْس عن أماكنِها, وألْقَت سَريرَ رُستم الذي هو مَنصوب له، وتَقدَّم القَعقاعُ ومَن معه حتَّى عَثروا على سَريرِ رُستم وهُم لا يَرَوْنه مِن الغُبارِ، وكان رُستم قد ترَكه واسْتَظلَّ بِبَغْلٍ, فوقع على رُستم وهو لا يَشعُر به, فأزال مِن ظَهرِه فَقارًا، وهرَب رُستم نحو نهرِ العتيق لِينجوَ بِنفسه, ولكنَّ هِلالَ بن عَلقمةَ التَّميميَّ أدرَكهُ, فأَمْسكَ بِرِجلِه وسَحبَهُ ثمَّ قتَلَه، وصعَد السَّريرَ ثمَّ نادى: قَتلتُ رُستمَ ورَبِّ الكعبةِ، إليَّ، فأطافوا به, وما يرون السرير, وكبَّروا وتَنادوا.
سار عَمرُو بن العاصِ إلى أَجْنادِينَ وهي تقعُ قريبًا مِن الفالوجَةِ ومكانِ عُبورِ فِلَسْطين مِن الجَنوبِ، إذ رابَط فيها الأَرْطَبُون، وكانت قُوَّةٌ للرُّوم في الرَّمْلَة وأخرى في بيتِ المَقدِس، وطال تَأَخُّرُ فَتحِها، وكانت مُراسلات بين الطَّرفينِ حتَّى ذهَب عَمرٌو بنفسه إلى الأرطبون، وكادوا يَقتُلونه ولكنَّه فَطَنَ لهم وخادَعهُم ورجَع سالمًا، ثمَّ حدَث قِتالٌ عظيمٌ يُشْبِهُ يومَ اليَرموكِ حتَّى دخَل المسلمون أَجنادِينَ، ثمَّ تَقدَّموا إلى بيتِ المَقدِس.
أرسل أبو عُبيدةَ عامرُ بن الجَرَّاح خالدَ بنَ الوَليد إلى قِنَّسْرِينَ، فلمَّا نزَل الحاضرَ زحَف إليهم الرُّومُ وعليهم مِيناسُ، وكان مِن أعظمِ الرُّومِ بعدَ هِرقل، فاقتتلوا فقُتِلَ مِيناسُ ومَن معه مَقتلةً عظيمةً لم يُقتلوا مِثْلَها، فماتوا على دمٍ واحدٍ، وسار خالدٌ حتَّى نزَل على قِنَّسْرين فتَحصَّنوا منه، فقالوا: لو كنتم في السَّحابِ لحَمَلَنا الله إليكم، أو لأَنْزَلَكُم إلينا، فنَظروا في أَمرِهم ورأوا ما لَقِيَ أهلُ حِمْصَ، فصالَحوهُم على صُلْحِ حِمْصَ، فأبى خالدٌ إلَّا على إخرابِ المدينةِ فأَخرَبها، فعند ذلك دخَل هِرقلُ القُسْطَنْطِينِيَّةَ؛ وسببُه: أنَّ خالدًا وعِياضًا أَدْرَبا إلى هِرقل مِن الشَّام، وأَدْرَب عَمرُو بن مالكٍ مِن الكوفةِ، فخرَج مِن ناحيةِ قَرْقِيسِيا، وأَدْرَبَ عبدُ الله بن المُعْتَمِّ مِن ناحيةِ المَوْصِل ثمَّ رجعوا، فعندها دخَل هِرقلُ القُسطنطينيَّة، وكانت هذه أوَّلَ مَدْرَبَةٍ في الإسلامِ سنةَ خمسَ عشرةَ، وقِيلَ: ستَّ عشرةَ. -أَدْرَبَ في الغَزْوِ أي جاوَز الدَّرْبَ إلى العَدُوِّ-.
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
بعدَ أن كتَب الله النَّصرَ للمسلمين وفتحوا إيليا بيتَ المَقدِس طلَب أهلُه أنَّ يُصالَحوا على صُلحِ أهلِ مُدُنِ الشَّام، وأن يكونَ المُتولِّي للعَقدِ عُمَر بن الخطَّاب، أَبَى بَطْرِيقُها أن يُسَلِّمَ مَفاتيحَ القُدسِ إلَّا للخليفةِ عُمَر بن الخطَّاب، فحضَر عُمَر رضِي الله عنه والقِصَّةُ في دُخولِه مَشهورةً، حيث كان يَتَناوَب على بَعيرٍ مع خادِمِه، فكانت نَوْبَةُ عُمَر المَشْيَ حين وُصولِهم إلى القُدْس، ولم يَرْضَ عُمَر أن يَركبَ بدلًا عن خادِمه مع طَلَبِ الخادِم ذلك، ولم يَأْبَه لتلك الوَجاهات المُزَيَّفَةِ فدَخَلها ماشِيًا، فكان ذلك مِن العَلامات التي زعَم البَطْريقُ أنَّها تكون فيمَن يَسْتَلِم المفاتيحَ، فأخَذها عُمَرُ وصلَّى في بيتِ المَقدِس واتَّخذَهُ مَسجدًا كما كان، ولم يُصَلِّ بالقُرْبِ مِن الصَّخرةِ رغمَ مَشورةِ بعضِهم له بذلك، ثمَّ عقَد الصُّلْحَ مع أهلِها وكتَب بذلك الشُّروطَ المَشهورَةَ بالشُّروطِ العُمَرِيَّةِ.
كان أبو بكرٍ قد كتَب إلى خالدٍ أن يَلحقَ بالشَّام لِمُساندةِ أَجنادِ المسلمين، وأَمَدَّ هِرقلُ الرُّومَ بباهان، فطلَع عليهم وقد قَدَّمَ الشَّمامِسَةَ والرُّهْبانَ والقِسِّيسينَ يَحُضُّونهم على القِتالِ، ولمَّا قَدِمَ خالدٌ الشَّامَ أشار على الأُمراءِ أن يَجتمِعوا تحت قِيادةٍ واحدةٍ، فقال لهم: إنَّ تَأْمِيرَ بعضِكم لا يُنْقِصُكم عند الله ولا عند خَليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهَلُمُّوا فَلْنَتَعاوَر الإمارةَ، فليَكُنْ عليها بَعضُنا اليومَ، والآخرُ غدًا، حتَّى يتَأَمَّرَ كُلُّكُم، ودَعوني أَتَوَلَّى أَمْرَكم اليومَ, فأَمَّرُوه. خرَجت الرُّومُ في تَعْبِئَةٍ لم يَرَ الرَّاءون مِثلَها قَطُّ، مِائتي ألفٍ وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا مُقَيَّدٌ بالسَّلاسِل. وخرَج خالدٌ في تَعْبِئَةٍ لم تُعَبِّئْها العَربُ قبلَ ذلك، وكان المسلمون سِتَّة وثلاثين ألفًا. وقِيلَ سِتَّة وأربعين ألفًا, جعلهم خالدٌ في سِتَّة وثلاثين كُرْدُوسا إلى الأربعين كُرْدُوس، شَهِدَ اليَرموك ألفٌ مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيهم نحوٌ مِن مِائةٍ مِن أهلِ بدرٍ, وكان أبو سُفيانَ يَسيرُ فيَقِفُ على الكَراديس فيقول: الله الله، إنَّكم ذَادَةُ العَربِ، وأنصارُ الإسلامِ، وإنَّهم ذَادَةُ الرُّومِ وأنصارُ الشِرْكِ! اللَّهمَّ إنَّ هذا يومٌ مِن أيَّامِك، اللَّهمَّ أَنزِلْ نَصرَك على عِبادِك. قال رجلٌ لخالدٍ: ما أكثرَ الرُّومَ وأَقَلَّ المسلمين! فقال خالدٌ: ما أَقَلَّ الرُّومَ وأكثرَ المسلمين! إنَّما تَكْثُرُ الجُنودُ بالنَّصرِ وتَقِلُّ بالخُذلانِ، لا بعددِ الرِّجالِ، والله لوَدِدْتُ أنَّ الأشقرَ -يعني فَرَسَهُ- بَرَأَ مِن تَوَجُّعِه وأنَّهم أَضْعَفُوا في العَدَدِ. خرَج جَرَجَةُ أحدُ قادةِ الرُّومِ حتَّى كان بين الصَّفَّيْنِ، ونادى: لِيَخرُج إليَّ خالدٌ، فخرَج إليه خالدٌ، فوافَقَهُ بين الصَّفَّيْنِ، حتَّى اختلفت أَعناقُ دابَّتَيْهِما، فحاوَرهُ خالدٌ حتَّى دخَل في الإسلامِ وكانت وَهْنًا على الرُّومِ. أَمَّرَ خالدٌ عِكرِمةَ والقَعقاعَ، والْتَحَم النَّاسُ، وتَطارَد الفِرْسانُ وهُم على ذلك إذ قَدِم البَريدُ مِن المدينةِ، بموتِ أبي بكرٍ وتَأْميرِ أبي عُبيدةَ، فأسرَّ خالدٌ الخَبَرَ حتَّى لا يُوهِنَ الجيشَ، وحَمِيَ الوَطيسُ، واشْتَدَّ القِتالُ, وقام عِكرمةُ بن أبي جهلٍ يُنادي: مَن يُبايِع على الموتِ؟ فبايَعَهُ أربعمائة مِن وجوه المسلمين، فقاتلوا حتَّى أُثْبِتُوا جميعًا, فهزَم الله الرُّومَ مع اللَّيلِ، وصعَد المسلمون العَقبةَ، وأصابوا ما في العَسكرِ، وقتَل الله صناديدَهُم ورءوسَهُم وفِرسانَهُم، وقتَل الله أخا هِرقل، وأُخِذَ التَّذارِقُ، وقاتَل جَرَجَةُ قِتالًا شديدًا مع المسلمين، إلى أن قُتِلَ عند آخرِ النَّهارِ، وصلَّى النَّاسُ الأوُلى والعصرَ إيماءً، وتَضَعْضَع الرُّومُ، ونهد خالد بالقلبِ حتَّى كان بين خَيْلِهِم ورَجْلِهم، فانهزم الفِرْسان وتركوا الرَّجَّالةَ. ولمَّا رَأي المسلمون خيلَ الرُّومِ قد تَوجَّهَت للمَهْرَبِ أَفرَجوا لها، فتَفرَّقَت وقُتِلَ الرَّجَّالةُ، واقتحموا في خَندقِهم فاقْتَحَمه عليهم، فعَمِدوا إلى الوَاقُوصَةِ حتَّى هوى فيها المُقتَرِنون وغيرُهم، ثمانون ألفًا مِن المُقْتَرِنين، ودخَل خالدٌ الخَندقَ ونزَل في رِواقِ تَذارِق، وانتهت الهَزيمةُ إلى هِرقل وهو دون مَدينةِ حِمْصَ، فارْتَحَلَ.
نَدَبَ عُمَرُ بن الخطَّاب سُراقةَ بن عَمرٍو، وعبدَ الرَّحمن بن رَبيعةَ للمَسيرِ إلى بِلادِ البابِ، وهي بِلادُ التُّرْكِ خلفَ بابِ الأبوابِ المعروف بالدَّرْبَنْد، وأَمَدَّهُ عُمَرُ بن الخطَّاب بحَبيبِ بن مَسلمةَ، ولكنَّ شَهْرَيراز مَلِكَ تلك البِلادِ طلَب مِن عبدِ الرَّحمن أن يُمْهِلَهُ ففعَل، كما عَبَّرَ له عن كُرْهِهِ للأَرْمَن والقَبْج الذين يُقيمون حول بِلادِه، وأَعرَب عن نَواياهُ الطَّيِّبَة للمسلمين، وطلَب أن يُعْفوهُ مِن الجِزيَة مُقابل أن يُساعِدَهم في حُروبِهم على الأَرْمَن ومَن حولَهم، فقَبِلَ ذلك سُراقةُ، وأَقَرَّهُ عُمَر على ذلك، فَوَجَّه سُراقةُ أربعةَ جُيوشٍ إلى البِلادِ المُحيطَةِ بأَرْمِينِيَة وفَتَحَها.
هي مارِيا القِبطيَّة، أهداها المُقَوْقِسُ القِبطيُّ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، تَسَرَّى بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ووَلدَت له إبراهيمَ، فقال: (أَعْتَقَها وَلَدُها)، فلا تُعَدُّ مِن زَوجاتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالتَّالي لَيست مِن أُمَّهات المؤمنين، أَنفَق عليها أبو بكرٍ وعُمَر إلى أن تُوفِّيَت في خِلافَتِه وصلَّى عليها بِنفسِه.
كان انتِصارُ المسلمين في القادِسيَّة دافعًا لهم للاستمرار في زَحْفِهم نحو المدائنِ عاصِمَةِ الفُرْسِ، وسار سعدٌ بجُنودِه حتَّى وصَل إلى بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" وكانت إحدى حواضِر فارِسَ، فنزَل سعدٌ قريبًا منها، وأرسَل مجموعةً مِن جُنودِه لاستِطلاعِ المَوقِف، وعاد الجُنودُ وهُم يَسوقون أَمامَهم آلافَ الفَلَّاحين، مِن أهلِ تلك المدينةِ. وحينما عَلِمَ شيرزارُ دَهْقانُ -أمير- ساباط بالأَمْرِ أرسَل إلى سعدِ يَطلُب منه إطلاقَ سَراحِ هؤلاء الفَلَّاحين، ويُخبِره أنَّهم ليسوا مُقاتِلين، وإنَّما هُم مُجرَّد مُزارِعين أُجَراء، وأنَّهم لم يُقاتلوا جُنودَه؛ فكتب سعدٌ إلى عُمَر يَعرِض عليه المَوقِف ويَسألُه المَشورةَ: إِنَّا وَرَدْنا بَهُرَسِيرَ بعدَ الذي لَقِينا فيما بين القادِسيَّة وبَهُرَسِيرَ، فلم يأتِ أحدٌ لِقِتالٍ، فبَثَثْتُ الخُيولَ، فجمعتُ الفَلَّاحين مِن القُرى والآجامِ. فأجابه عُمَر: إنَّ مَن أتاكُم مِن الفَلَّاحين إذا كانوا مُقيمين لم يُعينوا عليكم فهو أَمانُهم، ومَن هرَب فأَدركْتُموهُ فشَأنُكم به. فلمَّا جاءهُ خِطابُ عُمَر خَلَّى سعدٌ سَبيلَهُم. وأرسَل سعدٌ إلى الدَّهاقين - رُؤساء المُدُن والأقاليم- يَدعوهُم إلى الإسلامِ، على أن يكونَ لهم ما هُم عليه مِن الإمارةِ والحُكْمِ، أو الجِزْيَة ولهم الذِّمَّةُ والمَنَعَةُ، فدخَل كثيرٌ منهم الإسلامَ لِما وَجدوه مِن سَماحةِ المسلمين وعَدْلِهم مع ما هُم عليه مِن بأسٍ وقُوَّةٍ، ولكنَّ بَهُرَسِيرَ امتنَعَت عنه، وظَنَّ أهلُها أنَّ حُصونَها تَحولُ دون فَتحِ المسلمين لها، فحاصَرها سعدٌ بِجُنودِه طُوالَ شَهرينِ يَرمونَها بالمجانيق، ويَدُكُّونها بالدَّباباتِ التي صنعوها مِن الجُلودِ والأخشابِ، ولكنَّ المدينةَ كانت مُحَصَّنةً فنصَب سعدٌ حولَها عِشرين مَنْجَنيقًا في أماكنَ مُتفرِّقةٍ لِيَشْغَلَهُم ويُصرِفَهم عن مُلاحظَةِ تَقَدُّمِ فِرْسانِه نحو المدينةِ لاقتِحامِها، وأَحَسَّ الفُرْسُ بمُحاولَةِ المسلمين اقْتِحامَ المدينة؛ فخرَج إليهم عددٌ كبيرٌ مِن الجُنودِ الفُرْس لِيُقاتِلوهم ويمنعوهم مِن دُخولِ المدينةِ، وضرَب المسلمون أَرْوَعَ الأمثلةِ في البُطولةِ والفِداءِ، وقُوَّةِ التَّحَمُّلِ والحِرصِ على الشَّهادةِ، وكان القائدُ زُهْرَةُ بن الجويّة واحدًا مِن أولئك الأبطالِ الشُّجْعانِ، استطاع أن يَصِلَ إلى قائدِ الفُرْسِ شهْربَرَاز، فضرَبه بِسَيفِه فقتَله، وما إن رأى جُنودُ الفُرْسِ قائِدَهم يَسقُط على الأرضِ مُضْرَجًا في دِمائِه حتَّى تَمَلَّكَهُم الهَلَعُ والذُّعْرُ، وتَفرَّق جمعُهم، وتتَشتَّت فِرْسانُهم، وظَلَّ المسلمون يُحاصِرون بَهُرَسِيرَ بعدَ أن فَرَّ الجُنودُ والْتَحَقوا بالفَيافِي والجِبالِ، واشْتَدَّ حِصارُ المسلمين على المدينةِ؛ حتَّى اضْطَرَّ أهلُها إلى أكلِ الكِلابِ والقِطَطِ، فأرسَل مَلِكُهم إلى المسلمين يَعرِض الصُّلْحَ على أن يكونَ للمسلمين ما فَتحوهُ إلى دِجْلَة، ولكنَّ المسلمين رَفَضوا وظَلُّوا يُحاصِرون المدينةَ، ويَضرِبونَها بالمجانيق، واسْتَمرَّ الحالُ على ذلك فَترةً مِن الوقتِ، وبَدَتْ المدينةُ هادِئةً يُخَيِّمُ عليها الصَّمتُ والسُّكونُ، وكأنَّهُ لا أثَرَ للحياةِ فيها، فحمَل المسلمون عليها ليلًا، وتَسَلَّقوا أَسوارَها وفَتحوها، ولكنَّ أحدًا لم يَعتَرِضْهُم مِن الجُنودِ، ودخَل المسلمون بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلًا.
عزَم سعدُ بن أبي وَقَّاص أن يَعْبُرَ جَيشُه دِجلَة بالخيلِ، فجمَع النَّاس فحمِد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ عَدُوَّكُم قد اعْتصَم منكم بهذا البحرِ، فلا تَخْلُصون إليه معه ويَخْلُصون إليكم إذا شاءوا في سُفُنِهم فَيُناوِشُونَكُم، وليس وَراءَكُم شيءٌ تخافون أن تُؤْتَوْا منه، قد كَفاكُم أهلُ الأيَّام وعَطَّلُوا ثُغورَهُم، وقد رأيتُ مِن الرَّأي أن تُجاهِدوا العَدُوَّ قبلَ أن تَحْصُدَكُم الدّنيا، ألا إِنِّي قد عَزمتُ على قَطْعِ هذا البحرِ إليهم. فقالوا جميعًا: عزَم الله لنا ولك على الرُّشْدِ، فافْعَلْ. فندَب النَّاسَ إلى العُبورِ وقال: مَن يَبدأُ ويَحْمي لنا الفِراضَ حتَّى تَتلاحَقَ به النَّاسُ لِكَيْلا يَمنَعوهُم مِن العُبورِ؟ فانْتَدَبَ عاصمُ بن عَمرٍو ذو البَأْسِ، في سِتِّمائةٍ مِن أهلِ النَّجدات لِيَحموا لهم الشَّاطئَ مِن الفُرْسِ حتَّى تَتَلاحقَ الجُنْدُ، ولمَّا رَأى سعدٌ عاصِمًا على الفِراضِ قد مَنَعَها، أَذِنَ للنَّاسِ في الاقتحامِ وقال: قولوا: نَستَعينُ بالله، ونَتوَكَّلُ عليه، حَسبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ، والله ليَنْصُرَنَّ الله وَلِيَّهُ، وليُظْهِرَنَّ دِينَهُ، وليَهْزِمَنَّ عَدُوَّهُ، لا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله العَلِيِّ العظيمِ. وتَلاحَقَ النَّاسُ في دِجْلة وإنَّهم يَتَحدَّثون كما يَتَحدَّثون في البَرِّ، وطَبَّقوا دِجْلة حتَّى ما يُرى مِن الشَّاطئ شيءٌ. فلمَّا رَأى الفُرْسَ ذلك، وأَتاهُم أَمْرٌ لم يكنْ في حِسابِهم خرَجوا هاربين نحو حُلْوان، وتَركوا في الخَزائنِ مِن الثِّيابِ والمَتاعِ والآنِيَةِ والفُصوصِ والألطافِ ما لا يُدْرَى قِيمتُه، وخَلَّفُوا ما كانوا أَعَدُّوا للحِصارِ مِن البَقر والغَنَم والأطعِمَة، وكان في بيتِ المالِ ثلاثةُ آلافِ ألف ألف ألف، ثلاث مرَّات، وكان أوَّلَ مَن دخَل المدائنَ كَتيبةَ الأهوالِ، وهي كَتيبةُ عاصمِ بن عَمرٍو، ثمَّ كَتيبةُ الخَرْساء، وهي كَتيبةُ القَعقاعِ بن عَمرٍو، فأخذوا في سِكَكِها لا يَلْقون فيها أحدًا يَخْشَوْنَهُ إلَّا مَن كان في القَصرِ الأبيضِ، فأحاطوا بهم ودَعوهم فاستَجابوا على تَأدِيَةِ الجِزيَةِ والذِّمَّةِ، فتَراجَع إليهم أهلُ المدائنِ على مِثلِ عَهدِهم، ليس في ذلك ما كان لآلِ كِسرى، ونزَل سعدٌ القَصرَ الأبيضَ، واتَّخَذ سعدٌ إيوانَ كِسرى مُصَلَّى، ولمَّا دخَل سعدٌ الإيوانَ قرَأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25]...الآيةَ، وصلَّى فيه صَلاةَ الفَتحِ ثماني رَكعاتٍ، ثمَّ جمَع ما في القَصرِ والإيوانِ والدُّورِ مِن الغنائمِ، وكان أهلُ المدائنِ قد نَهبوها عند الهَزيمةِ، وهَربوا في كُلِّ وَجهٍ، فما أَفْلَتَ أحدٌ منهم بشيءٍ إلَّا أَدْرَكَهُم الطَّلَبُ، فأخذوا ما معهم، ورَأَوْا بالمدائنِ قِبابًا تُرْكِيَّةً مَمْلُؤةً سِلالًا مَختومَةً بِرَصاصٍ فحَسَبوها طعامًا، فإذا فيها آنِيَةُ الذَّهبِ والفِضَّةِ.
لمَّا دخَل المسلمون المدائنَ وفتحوها واتَّخذَ سعدُ بن أبي وَقَّاص قَصرَها مَسكنًا جعَل إيوانَها المشهورَ مَسجدًا ومُصَلَّى وتَلَا قولَه تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] ثمَّ صلَّى الجُمُعَةَ في الإيوانِ.
كتَب أبو موسى الأَشعريُّ إلى عُمَر: إنَّه يأتينا منك كُتُبٌ ليس لها تاريخٌ، فجمَع عُمَرُ النَّاسَ للمَشُورَةِ، فقال بعضُهم: أَرِّخْ لِمَبْعَثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال بعضُهم: لمُهاجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فقال عُمَرُ: بل نُؤَرِّخُ لمُهاجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنَّ مُهاجَرتَه فَرْقٌ بين الحَقِّ والباطلِ. قاله الشَّعْبِيُّ، وقال مَيمونُ بن مِهْرانَ: وقِيلَ: رُفِعَ إلى عُمَرَ صَكٌّ مَحِلُّهُ شَعبان، فقال: أَيُّ شَعبان؟ أَشَعبان الذي هو آتٍ، أم شَعبان الذي نحن فيه؟ ثمَّ قال لأصحابِ رسولِ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم: ضَعوا للنَّاسِ شيئًا يَعرِفونه. فقال بعضُهم: اكْتُبوا على تاريخ الرُّومِ، فإنَّهم يُؤَرِّخون مِن عَهدِ ذي القَرْنينِ. فقال: هذا يَطُول. فقال: اكْتُبوا على تاريخ الفُرْسِ. فقِيلَ: إنَّ الفُرْسَ كُلمَّا قام مَلِكٌ طَرَحَ تاريخَ مَن كان قَبلَهُ. فاجتمع رَأيُهم على أن يَنظروا كم أقام رسولُ الله بالمدينةِ، فوَجدوه عشرَ سِنين، فكتبوا التَّاريخَ مِن هِجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال محمَّدُ بن سِيرينَ: قام رجلٌ إلى عُمَر فقال: أَرِّخُوا. فقال عُمَرُ: ما أَرِّخُوا؟ فقال: شيءٌ تَفعلُه الأعاجمُ في شهرِ كذا مِن سَنَةِ كذا. فقال عُمَرُ: حَسَنٌ، فأَرِّخُوا. فاتَّفَقوا على الهِجرَةِ، ثمَّ قالوا: مِن أيِّ الشُّهورِ؟ فقالوا: مِن رَمضان. ثمَّ قالوا: فالمُحَرَّمُ هو مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِن حَجِّهِم، وهو شهرٌ حرامٌ. فأَجْمَعوا عليه.
لمَّا افْتَتَح سعدُ بن أبي وَقَّاص المدائنَ بَلغَه أنَّ أهلَ المَوْصِل قد اجْتَمعوا بِتَكْريت على رَجُلٍ يُقال له: الأنطاق, فكتَب إلى عُمَر بن الخطَّاب بأَمْرِ جَلُولاء، واجْتِماع الفُرْسِ بها, وبأَمْرِ أهلِ المَوْصِل, فكتَب عُمَر في قَضِيَّةِ أهلِ المَوْصِل أن يُعَيِّنَ جيشًا لِحَرْبِهم, ويُؤَمِّرَ عليه عبدَ الله بن المُعْتَمِّ, ففَصَلَ عبدُ الله بن المُعْتَمِّ في خمسةِ آلافٍ مِن المدائنِ, فسار في أربعٍ حتَّى نزَل بِتَكْريت على الأنطاقِ، وقد اجْتَمع إليه جماعةٌ مِن الرُّومِ, ومِن نَصارى العَربِ, مِن إيادٍ, وتَغْلِبَ, والنَّمِرِ, وقد أَحْدَقوا بِتَكْريت, فحاصَرهُم عبدُ الله بن المُعْتَمِّ أربعين يومًا, وزاحَفوهُ في هذه المُدَّةِ أربعةً وعشرين مَرَّةً, ما مِن مَرَّةٍ إلَّا ويَنْتَصِرُ عليهم, وراسَل عبدُ الله بن المُعْتَمِّ مَن هنالك مِن الأَعرابِ, فدَعاهُم إلى الدُّخولِ معه في النُّصْرَةِ, وفَلَّ جُموعَهم, فضَعُفَ جانِبُهُم, وعزَمَت الرُّومُ على الذِّهابِ في السُّفُنِ بأَموالِهم إلى أهلِ البلدِ, فجاءت القُصَّادُ إليه عنهم بالإجابةِ إلى ذلك, فأرسَل إليهم: إن كنتم صادِقين فيما قُلتُم فاشْهَدوا أنَّ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله, وأَقِرُّوا بما جاء مِن عند الله. فرجعت القُصَّادُ إليه بأَنَّهم قد أسلموا, فبعَث إليهم: إن كنتم صادِقين، فإذا كَبَّرْنا وحَمَلْنا على البلدِ اللَّيلةَ فأَمْسِكوا علينا أبوابَ السُّفُنِ, وامْنَعوهُم أن يَركَبوا فيها, واقْتُلوا منهم مَن قَدَرْتُم على قَتلِه, ثمَّ شَدَّ عبدُ الله وأصحابُه, وكَبَّروا تَكبيرةَ رَجُلٍ واحدٍ, وحَمَلوا على البلدِ, فكَبَّرت الأعرابُ مِن النَّاحيةِ الأُخرى, فَحَارَ أهلُ البلدِ, وأخذوا في الخُروجِ مِن الأبوابِ التي تَلِي دِجْلَة, فتَلَقَّتْهُم إيادٌ والنَّمِرُ وتَغْلِبُ, فقَتَلوهُم قتلًا ذَريعًا, وجاء عبدُ الله بن المُعْتَمِّ بأصحابِه مِن الأبوابِ الأُخَرِ, فقتَل جميعَ أهلِ البلدِ عن بَكْرَةِ أَبيهِم ولم يُسْلِم إلَّا مَن أَسلَم مِن الأعرابِ مِن إيادٍ وتَغْلِبَ والنَّمِرِ, وقد كان عُمَرُ عَهِدَ في كِتابِه إذا نُصِروا على تَكْريت أن يَبعَثوا رِبْعِيَّ بن الأفْكَلِ إلى الحِصْنَيْنِ، وهي المَوْصِل سريعًا, فسار إليها كما أَمَرَ عُمَرُ، ومعه سَرِيَّةٌ كثيرةٌ وجماعةٌ مِن الأبطالِ, فسار إليها حتَّى فاجَأَها قبلَ وُصولِ الأخبارِ إليها, فأجابوا إلى الصُّلْحِ, فضُرِبَت عليهم الذِّمَّةُ عن يَدٍ وهُم صاغِرون, ثمَّ قُسِّمَت الأموالُ التي تَحَصَّلت مِن تَكْريت, فبلَغ سَهمُ الفارسِ ثلاثةَ آلافٍ، وسَهمُ الرَّاجِل ألفَ دِرهَم، وبَعَثوا بالأخماسِ مع فُراتِ بن حَيَّانَ, وبالفَتحِ مع الحارِث بن حَسَّانَ, ووَلِيَ إِمْرَةَ حَربِ المَوْصِل رِبْعِيُّ بن الأَفْكَل ووَلِيَ الخَراجَ بها عَرْفَجَةُ بن هَرْثَمَةَ.
بعدَ أن فَرَّ يزدجردُ مِن المدائنِ وسار بِاتِّجاهِ حُلوان، والْتَفَّ مَن الْتَفَّ حولَه خِلالَ مَسيرِه فأَمَّرَ عليهم مِهرانَ وأقاموا بجَلُولاء، وتَحَصَّنوا فيها، وحَفروا الخَنادِقَ حولَها، فبعَث سعدٌ إلى عُمَر يُخبِره بذلك، فأَمَرَهُ أن يُقيمَ بالمدائنِ، ويُرْسِل إليهم هاشمَ بن عُتبةَ بن أبي وَقَّاص، فسار إليهم هاشمٌ وحاصَرهُم، واشْتَدَّ القِتالُ، وكانت النَّجدات تَصِلُ إلى الطَّرفين حتَّى فتَح الله على المسلمين، وقد قتَلوا مِن الفُرْسِ الكثيرَ.
لمَّا نزَل المسلمون المدائنَ اجْتَوَوْها فشَكُوا ذلك, فكتَب حُذيفةُ إلى عُمَر: إنَّ العَربَ قد رَقَّتْ بُطونُها، وجَفَّتْ أَعضادُها، وتَغَيَّرَتْ أَلوانُها. وكان مع سعدٍ, فكتَب عُمَرُ إلى سعدٍ: أَخبِرني ما الذي غَيَّرَ أَلوانَ العَربِ ولُحومَهُم؟ فكتَب إليه سعدٌ: إنَّ الذي غَيَّرَهُم وُخومَةُ البِلادِ، وإنَّ العَربَ لا يُوافِقُها إلَّا ما وافَق إِبِلَها مِن البُلدانِ. فكتَب إليه عُمَر: أن ابْعَثْ سَلمانَ وحُذيفةَ رائِدَيْنِ فَلْيَرتادا مَنزِلًا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا ليس بيني وبينكم فيه بَحرٌ ولا جِسْرٌ. فأَرسلَهُما سعدٌ، فخرَج سَلمانُ حتَّى أتى الكوفَةَ، وسار حُذيفةُ في شَرقِيِّ الفُراتِ لا يَرضى شيئًا حتَّى أتى الكوفَةَ، وكلُّ رَمْلٍ وحَصْباء مُخْتَلِطَيْنِ فهو كوفةُ، فأَتَيا عليها وفيها ثلاثةُ أَدْيِرَةٍ للنَّصارى، فأَعجبَتْهُما البُقعَةُ، فنَزَلا فَصَلَّيا، ودَعَوا الله تعالى أن يَجعلَها مَنزِلَ الثَّباتِ. فلمَّا رجَعا إلى سعدٍ بالخَبَرِ وقَدِمَ كِتابُ عُمَر إليه أيضًا كتَب سعدٌ إلى القَعقاعِ بن عَمرٍو وعبدِ الله بن المُعْتَمِّ أن يَسْتَخْلِفا على جُنْدِهما ويَحضَرا عنده، ففَعَلا، فارْتَحَل سعدٌ مِن المدائنِ حتَّى نزَل الكوفةَ في المُحَرَّمِ سَنَةَ سبعَ عشرةَ، وكان بين نُزولِ الكوفةِ ووَقعةِ القادِسيَّة سَنَةٌ وشَهرانِ، وكان فيما بين قِيامِ عُمَر واخْتِطاط الكوفةِ ثلاثُ سِنين وثمانيةُ أَشْهُر. ولمَّا نزَلها سعدٌ وكتَب إلى عُمَر: إنِّي قد نزَلتُ بالكوفةِ مَنزِلًا فيما بين الحِيرَةِ والفُراتِ بَرِّيًّا وبَحْرِيًّا، وخَيَّرْتُ المسلمين بينها وبين المدائنِ، فمَن أَعجبَهُ المقامُ بالمدائنِ تَركتُه فيها كالمَسْلَحَةِ. ولمَّا اسْتَقَرُّوا بها عَرَفوا أَنفُسَهُم، ورجَع إليهم ما كانوا فَقَدوا مِن قُوَّتِهم، واسْتَأْذَنَ أهلُ الكوفةِ في بُنيانِ القَصَبِ.
بعدَ أن تَغَلَّبَ الهُرمُزانُ على مَنطِقَةِ الأَهْوازِ أصبحَ يُغِيرُ على المناطِقِ التي دانت للمسلمين، فسار إليه جَيْشان مِن المسلمين مِن الكوفةِ ومِن البَصْرَةِ فأَجبَروه على الصُّلْحِ، ثمَّ نَقَضَ الهُرْمُزان الصُّلْحَ فبَرَزَ له المسلمون ثانِيَةً ففَرَّ إلى تُسْتَر فحاصَروهُ فيها فطلَب الصُّلْحَ ثانِيَةً، وكانت الأهوازُ قد فُتِحَتْ ثمَّ نَقَضَ الهُرمُزان الصُّلْحَ ثانيةً، فسَيَّرَ إليه عُمَرُ بن الخطَّاب ثلاثةَ جُيوشٍ فهُزِمَ الهُرمُزان وفَرَّ إلى تُسْتَر، فلَحِقَهُ المسلمون وحاصَروهُ فيها ثانيةً فاضْطَرُّوهُ للاستسلامِ بعدَ فتحِ البلدةِ عَنْوَةً، وأُرْسِلَ الهُرمُزانُ إلى عُمَر بن الخطَّابِ.
كان العلاءُ بن الحَضْرَميِّ رضِي الله عنه واليَ البَحْرين، وكان يُسابِق سعدَ بن أبي وَقَّاص في الفَتحِ، فلمَّا كتَب الله النَّصرَ في القادِسيَّة، وكان له الصَّدى الواسعُ أَحَبَّ العَلاءُ أن يكونَ له النَّصرُ على فارِسَ مِن جِهَتِهِ، فنَدَبَ النَّاسَ إلى الجِهادِ، فاجتمَع الجيشُ وعَبَروا البحرَ إلى فارِسَ، ولكن كلّ ذلك دون إذْنِ عُمَر بن الخطَّاب، واتَّجه العَلاءُ إلى إصْطَخْر -مدينة جنوب إيران- وقاتلوا حتَّى انتصروا وفتحوها، ولكنَّ الفُرْسَ قطَعَت طَريقَهُم إلى سُفُنِهم فبَقَوْا مُحاصَرين ممَّا أَدَّى إلى عَزْلِ العَلاءِ، وطلَب منه الالتحاقَ بسعدِ بن أبي وَقَّاص وطلَب مِن عُتبةَ بن غَزْوانَ أن يُنْجِدَ العَلاءَ، فانْتَصَر المسلمون ثمَّ عادوا إلى البَصْرَةِ.
لم يَزِدْ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضِي الله عنه في عَهدِه بالمسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف لانشغالِه بحُروبِ الرِّدَّةِ، ولكن في عَهدِ عُمَر بن الخطَّاب رضِي الله عنه ضاق المسجدُ بالمُصلِّين لِكثرَةِ النَّاسِ، فقام عُمَر بِشِراءِ الدُّورِ التي حولَ المسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف وأَدخَلها ضِمْنَ المسجدِ، وكانت تَوْسِعَتُه مِن الجِهَةِ الشَّماليَّة والجَنوبيَّة والغَربيَّة. فقد زاد مِن ناحِيَةِ الغَربِ عشرين ذِراعًا، ومِن الجِهَةِ الجَنوبيَّة "القِبْلَة" عشرة أَذْرُع، ومِن الجِهَةِ الشَّماليَّة ثلاثين ذِراعًا. ولم يَزِدْ مِن جِهَةِ الشَّرقِ لِوُجودِ حُجُراتِ أُمَّهات المؤمنين رضِي الله عنهم أجمعين. فأصبح طولُ المسجدِ 140 ذِراعًا مِن الشَّمال إلى الجنوب، و120 ذِراعًا مِن الشَّرق إلى الغَرب. وكان بِناءُ عُمَر كبِناءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانت جُدْرانُه مِن اللَّبِن وأَعمِدَتُه مِن جُذوعِ النَّخيل، وسَقْفُه مِن الجَريدِ بِارتِفاع 11 ذِراعًا، وقد فَرَشَهُ بالحَصْباءِ، والتي أُحْضِرت مِن العَقيقِ. وجعَل له سُتْرَةً بِارتِفاع ذِراعين أو ثلاثة، وتُقَدَّرُ هذه الزِّيادة بحوالي 3300 ذِراعًا مُرَبَّعًا، وجعَل للمَسجِد 6 أبواب: اثنين مِن الجِهَةِ الشَّرقيَّة، واثنين مِن الجِهَةِ الغَربيَّة، واثنين مِن الجِهَة الشَّماليَّة.
أرسَل سعدُ بن أبي وَقَّاص العَساكِرَ إلى الجَزيرةِ، فخرَج عِياضُ بن غَنْمٍ إليها وفي صُحبَتِه أبو موسى الأشعريُّ, وعُمَرُ بن سعدِ بن أبي وَقَّاص -وهو غُلامٌ صغيرُ السِّنِّ ليس إليه مِن الأمر شيءٌ- وعُثمانُ بن أبي العاصِ، فنزَل الرُّها, فصالَحهُ أهلُها على الجِزيَة, وصالَحَت حَرَّانُ على ذلك, ثمَّ بعَث أبا موسى الأشعريَّ إلى نَصِيبِين, وعُمَرَ بن سعدٍ إلى رَأْسِ العَيْنِ, وسار بنفسه إلى دارا, فافْتُتِحَت هذه البُلدان، وبعَث عُثمانَ بن أبي العاصِ إلى أرْمِينِيَة, فكان عندها شيءٌ مِن قِتالٍ قُتِلَ فيه صَفوانُ بن المُعَطَّلِ السُّلَميُّ, ثمَّ صالَحهُم عُثمانُ بن أبي العاصِ على الجِزيَةِ، على كلِّ أهلِ بيتٍ دينارٌ.