فتَحَ نور الدين محمود قلعة بانياس، وهي بالقُرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة 543، وكان نور الدين لما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يريدُ طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همَّتَهم حفظَها وتقويتَها، فسار محمود إلى بانياس لعِلْمِه بقلة من فيها من الحُماة الممانعين عنها، ونازلها، وضَيَّقَ عليها وقاتَلَها، وجَدَّ في حصارها، فسمع الفرنج، فجَمَعوا، فلم تتكاملْ عِدَّتُهم، حتى فتحها؛ على أن الفرنج كانوا قد ضَعُفوا بقتل رجالهم بحارم وأسْرِهم، فمَلَك القلعةَ وملأها ذخائرَ وعِدَّةً ورجالًا، وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرَّروا له على الأعمال التي لم يشاطِرْهم عليها مالًا في كل سنةٍ.
هو رستم بن علي بن شهريار بن قارن. ملك مازندران. كان ملكًا شجاعًا مخوفًا، استولى على بسطام وقومس، واتَّسعت ممالكه، وكان شيعيًّا شديد التشيع, غزا بلاد ألموت فأوطأ الإسماعيلية ذلًّا، وخَرَّب بلادهم، وسبى النساء والأولاد، وغنم، وخُذلت الإسماعيلية في أيامه، وخُرِّبَت عامة قراهم. توفي في ثامن ربيع الأول، ولَمَّا توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موتَه أيامًا، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد، ثم أظهره، فلما ظهر خبرُ وفاته أظهر إيثاق بن الحسن صاحِبُ جرجان ودهستان المنازعة لوالده في الملك، ولم يَرْعَ حقَّ أبيه عليه، ولم يحصُلْ من منازعته على شيءٍ غير سوء السمعة وقُبح الأُحدوثة.
نشبَت الحرب بين قليج أرسلان بن مسعود صاحِبِ قونية، وبين ياغي بسان بن دانشمند صاحِبِ ملاطية، وكان سبب هذه الحرب أنَّ قليج أرسلان تزوج ابنة سلدق بن علي بن أبي القاسم صاحب أرزروم، فسيرت العروس إلى قليج مع جهاز كبير، فأغار ياغي على مسيرة العروس واختطفها وما معها، وأمَرَها بالردَّةِ عن الإسلام لينفَسِخَ زواجُها من قليج أرسلان، ففعلت ثم عادت للإسلامِ؛ ليزوجها ياغي من ابن أخيه، فلما علم قليج بذلك جمع عساكره وسار إلى ملاطية، وقاتل صاحبها ياغي، فانهزم قليج والتجأ إلى ملك الروم يستنصره على ابن دانشمند، فرده ملك الروم بقوة وسَيَّرَه إلى قتال ياغي، ولكن بلغه في الطريق وفاة ابن دانشمند فأغار على بلاده وملك بعضها، وخلف ابن دانشمند أخوه إبراهيم في إمارة ملاطية، وتم الصلح مع قليج على أن يستولي ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وأن يملك شاهنشاه أخو قليج أرسلان على مدينة أنكورية (أنقرة).
وقعَت بأصفهان فتنةٌ عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي رئيس الشَّافعية بأصفهان وبين أصحاب المذاهبِ الأخرى، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتالُ بين الطائفتين ثمانيةَ أيام مُتَتابعةً قُتل فيها خلق كثير، واحترق وهُدم كثيرٌ من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبحِ صورةٍ.
فتَحَ نورُ الدين محمود بن زنكي حِصنَ المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشِدْ له، ولا جمَعَ عساكِرَه، وإنما سار إليه جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- على غِرَّة منهم، وعَلِمَ أنه إن جمع العساكِرَ حَذِروا وجمعوا، وانتهز الفرصةَ وسار إلى المنيطرة وحصره، وجَدَّ في قتاله، فأخذه عَنوةً وقهرًا، وقتل من بها وسبى، وغَنِمَ غنيمة كثيرة، فإنَّ الذين به كانوا آمنين، فأخذتهم خيل الله بغتةً وهم لا يشعرون، ولم يجتمع الفرنج لدفعِه إلَّا وقد ملكه، ولو علموا أنه جريدة في قِلَّةٍ مِن العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنُّوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفَرَّقوا وأيِسُوا من رَدِّه.
هو الشَّريفُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي الحمودي الحَسني الطالبي الإدريسي. ولد بمدينة سبتة وتعلَّم بقُرطبة، خرج إلى المشرق وطاف البلاد، أقام في بلاد الإسلام وعاد إلى المغربِ. كان أديبًا ظريفًا شاعرًا مُغرمًا بعلم الجغرافيا. أقام بصقليَّةَ في بلاط الملك النورماندي روجيه الثاني الذي كان من هواة الفلك، فألَّفَ له الإدريسي كتابَ نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو في وصفِ بلاد أوربا, ثم قضى الإدريسي شطرًا من حياته في رسم أوَّلِ خريطة للعالم، بناها على القواعد العلمية الصحيحة، وقد صنع الملك النورماندي هذه الخريطة على كُرةٍ فِضِّية بإشراف الإدريسي، وللإدريسي مؤلفات أخرى منها صفة بلاد المغرب، وروضة الأندلس ونزهة النفس، وله مشاركات في علوم النبات، ويعتبر الإدريسي أكبَرَ جغرافي عربي بل وأشهرهم على الإطلاق، توفي الإدريسي عن 71 عامًا، ويغلب على الظن أنه توفي في صقليَّةَ.
هو الزاهِدُ، صاحِبُ الكرامات والمقامات، شيخُ الحنابلة أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد الهاشمي القرشي العلوي الجيلي الحنبلي. ولد بجيلان سنة 470 وقيل 471. دخل بغداد سنة ثمان وثمانين، وله ثماني عشرة سنة، فقرأ الفقهَ على: أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الخطاب، وأبي سعد المخرمي، وأبي الحسين بن الفراء، حتى أحكم الأصولَ، والفروع، والخلاف, وسمع الحديث، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. بنى أبو سعد المخرمي مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوض إلى عبد القادر التدريسَ فيها, فتكلَّم على الناس بلسان الوعظ وظهر له صيتٌ, فضاقت مدرسته بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندًا إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلقٌ كثير, وكان له سمتٌ حسنٌ، وصَمتٌ غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهدٌ كثير وله أحوال صالحة، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالًا وأفعالًا ومكاشَفات أكثَرُها مغالاة، وقد كان صالحًا وَرِعًا، وقد صنَّف كتاب الغنية، وفتوح الغيب، وفيهما أشياءُ حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، قال ابن النجار في ترجمة عبد القادر: "قرأ الأدبَ على أبي زكريا التبريزي، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه, ثم لازم الخَلوة، والرياضة، والسياحة، والمجاهدة، والسهر، والمقام في الخراب والصحراء. وصحب الشيخ حماد الدباس، وأخذ عنه علم الطريق، ثمَّ إن الله تعالى أظهره للخلق، وأوقع له القبول العظيم، فعَقد مجلس الوعظ سنة 521 وأظهر الله الحكمة على لسانه, ثم جلس في مدرسة شيخه أبي سعد للتدريس والفتوى سنة 528، صنف في الأصول والفروع، وله كلام على لسان أهل الطريقة". قال: عبد الرزاق ولد عبد القادر يقول: "كتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبَّائي قال: كنت أسمع كتاب «الحلية» على ابن ناصر، فرَقَّ قلبي، وقلت في نفسي: اشتهيت أن أنقَطِعَ عن الخلق وأشتغل بالعبادة. ومضيت فصليتُ خلف الشيخ عبد القادر، فلما صلى جلسنا، فنظر إلي وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقَّه، وتجالِسَ الشيوخ، وتتأدب، ولا تنقطِعْ وأنت فريخ ما ريَّشت؛ فإن أشكلَ عليك شيء من أمر دينك تخرجُ من زاويتك وتسأل الناس عن أمر دينك! ما يَحسُن صاحب الزاوية أن يخرُجَ من زاويته ويسأل الناس عن أمر دينه! ينبغي لصاحب الزاوية أن يكون كالشَّمعة يُستضاء بنوره". وقال عبد الرزاق: وُلِدَ لوالدي تسع وأربعون ولدًا، سبعة وعشرون ذكرًا، والباقي إناث". توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.
جمع نور الدين محمود العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصنَ الأكراد، وقصدوا عرقةَ فنازلوها وحصروها، وقصدوا حلبة وأخذوها، وفتحوا العريمةَ وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان، ثم ساروا إلى بانياس، وقصَدوا حِصنَ هونين، وهو للفرنجِ أيضًا، من أمنَعِ حصونهم ومعاقِلِهم، فانهزم الفرنجُ عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغدِ فهدَم سورَه جميعه، وأراد الدخولَ إلى بيروت، فتجَدَّدَ في العسكر خلافٌ أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقِه وعاد إلى الموصل.
أقبَلَت الفرنج في جحافِلَ كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصَرَّفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسدَ الدين شيركوه، فاستأذن الملك نور الدين محمود في العود إليها، وكان كثيرَ الحنق على الوزير شاوِر السعدي، فتجهَّزَ وسار في ربيع الآخر في جيشٍ قويٍّ، وسَيَّرَ معه نور الدين جماعة من الأمراء، فلما اجتمع معه عسكرُه سار إلى مصر على البَرِّ، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد أطفيح، وعبَرَ النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابِلَ مصر، وتصرَّفَ في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفًا وخمسين يومًا، وكان شاوِر لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجِدُهم، فأتوه على الصَّعبِ والذَّلول؛ طمعًا في ملكها، وخوفًا أن يملكها أسد الدين، فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكانًا يُعرَف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرةِ عددهم وعُدَّتهم، وجِدِّهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تَضعُفَ نفوسُهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، فأشار أحدُهم بالقتال وشجَّعَهم عليه، فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمَلُ، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، فلما تقاتلت الطائفتان حمل الفرنج على القلب، فقاتلهم من به قتالًا يسيرًا، وانهزموا بين أيديهم غير متفرِّقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسدُ الدين فيمن معه على من تخلَّفَ عن الذين حمَلوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيفَ فيهم، فأثخن وأكثَرَ القتل والأسرَ، فلما عاد الفرنج من المنهزمين، رأوا عسكرَهم مهزومًا، والأرض منهم قَفرًا، فانهزموا أيضًا، فلما انهزم الفرنج والمصريونَ مِن أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القُرى على طريقه من الأموال، ووصلَ إلى الإسكندرية، فتسلَّمها بمساعدة من أهلِها سلَّموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين بن أخيه، وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله، وأقام به حتى صام رمضان، وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حالَ عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاحَ الدين بها، واشتَدَّ الحصار، وقلَّ الطعام على من بها، فصبر أهلُها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاوِر قد أفسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشَرَطَ على الفرنج ألَّا يقيموا بالبلاد ولا يتملَّكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، وتسلَّم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وأما الفرنج فإنهم استقَرَّ بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم؛ ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخلِ مصرَ كل سنة مائة ألف دينار. وعاد الفرنج إلى بلادِهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعةً من مشاهير فرسانهم.
أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئًا غير ذلك، وبذل مالًا يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه، وبلغ الخبر إيلدكز صاحِبَ البلاد، فساءه ذلك، وجهَّزَ عسكرًا كثيفًا، وجعل المقدَّمَ عليهم ابنَه البهلوان، وسيَّرَهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حربٌ أجْلَت عن هزيمةِ آقسنقر وتحصُّنه بمراغة، ونازله البهلوان بها وحصَره وضَيَّقَ عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.
لحق الحسنُ بن يحيى آخِرُ ملوك بني زيري بعد استيلاءِ النصارى على المهدية، بالعَرَبِ مِن رياح، وكبيرُهم محرز بن زياد الفادعي صاحِبُ القلعة، فلم يجِدْ لديهم مصرخًا، وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد الفاطمي, لكنَّه ارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نُزُلَه وجاوره إلى أن فتح الموحدون الجزائر سنة 547 بعد تملكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقَّاه تكرمةً وقبولًا. ولحق به وصَحِبَه إلى إفريقية في غزاته الأولى، ثم الثانية سنة 557 فنازل المهدية وحاصرها عبد المؤمن أشهرًا، وأسكن بها الحسنَ وأقطعه فيها, فأقام هنالك ثمانيَ سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهلِه يريد مراكش. وهلك بتامسنا في طريقه إلى بابارولو، واللهُ وارثُ الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، ورب الخلائق أجمعين.
بعث شاور إلى نور الدين محمود رسالةً مع شهاب الدين محمود، خال صلاح الدين الأيوبي، تتضمن أنه يحمل إليه مالًا في كل سنة من مصر مصانعةً؛ ليصرف عنه أسد الدين شيركوه، فأجاب نور الدين إلى ذلك، وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده، وأمره بترك ذكر مصر، فأرسل شاور إليه كتابًا يشكر صنيعَه.
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
هو مَلِك الديار المصرية ووزيرُها أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار بن عشائر السعدي، الهوازني. يرجع نسبه إلى أبي ذؤيب عبد الله والد حليمة السعدية مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الملك الصالحُ طلائع بن رزيك الرافضي وزيرُ العاضد قد ولَّاه إمرة الصعيد، ثم نَدِمَ على توليته حيث لا ينفع الندم. ثم إن شاوِر تمكن في الصعيد، وكان شجاعًا فارسًا شهمًا، وكان الصالح لما احتُضِرَ قد وصى ولده رزيك ألَّا يتعرض لشاور ولا يهيجه بمساءةٍ ولا يُغَيِّر عليه حاله، فإنه لا يأمَنُ عصيانه والخروج عليه، وكان كما أشار، ثم إن شاور بعد وفاة الملك الصالح حشَدَ وجمع، وأقبل من الصعيد على واحات، واخترق البرِّية إلى أن خرج من عند تروجة بقرب الإسكندرية، وتوجه إلى القاهرة ودخلها، فقتل العادِلَ رزيك بن الملك الصالح، ووزر للعاضِدِ. لما تملك شاور البلاد لمَّ شَعثَ القصر، وأدرَّ الأرزاق الكثيرة على أهل القصر، وكان قد نقصهم المَلِكُ الصالح أشياءَ كثيرة، ثمَّ تجبَّرَ شاور وظلم فخرج عليه الأميرُ ضرغام وأمراء، وتهيؤوا لحربه، ففَرَّ إلى دمشق مستنجدًا بالسلطان نور الدين محمود، فاجتمع به، وأكرمَه، ووعده بالنصرة. وقال شاوِر له: أنا أمَلِّكُك مصر، فجهَّزَ معه شيركوه بعد عهودٍ وأيمان، فالتقى شيركوه وعسكر ضرغام، فانكسرَ المصريون، وحُوصِرَ ضرغام بالقاهرة، وتفلَّلَ جمعُه، فهرب، فأُدرِك وقُتِلَ عند جامع ابن طولون، وطِيفَ برأسه، ودخل شاوِر، فعاتبه العاضِدُ على ما فعل من جَلبِ أصحاب نور الدين محمود إلى مصر، فضَمِنَ له أن يصرِفَهم، فخلع عليه، فكتب إلى الروم يستنفِرُهم ويُمَنِّيهم، فأُسقِطَ في يد شيركوه، وحاصر القاهرةَ، فدهمته الرومُ، فسبق إلى بلبيس، فنزلها، فحاصره العدوُّ بها شهرين، وجرت له معهم وقعات، ثم فَتَروا، وترحلوا، وبقي خلقٌ من الروم يتقوَّى بهم شاور، وقرر لهم مالًا، ثم فارقوه. وبالغ شاوِر في العسف والمصادرة، وتمنى المصريون أن يليَ أمرهم شيركوه، فسار إليهم ثانيًا من الشام، فاستصرخ شاوِر بملك الفرنج عموري، للعودِ إلى مصر، ولكنهم تأخروا فخاف شاور فعَمِلَ حيلةً يغدر فيها بأسد الدين وأمرائه ويقبض عليهم، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن لم تنتهِ عن هذا الأمرِ لأُعَرِّفنَ أسد الدين. فقال له أبوه شاور: واللهِ لئن لم نفعَلْ هذا لنُقتَلَنَّ كلنا. فقال له ابنه الكامل: لَأنْ نقتل والبلادُ بيدِ المُسلِمينَ خَيرٌ من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج. وكان شاور قد شرط لأسدِ الدين شيركوه ثلثَ أموال البلاد، فأرسل أسد الدين يطلب منه المال، فجعل شاوِر يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج، فابتدره أسدُ الدين وقتَلَه، واختلفوا في قتلِه على أقوال؛ أحدُها: أن الأمراء اتفقوا على قتله لَمَّا عَلِموا مكاتبتَه للفرنج، وأنَّ أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرجُ إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادةِ وُزَراء مصر، فجاء شاوِر ليعود أسد الدين فقَبَض عليه وقتله، والثاني: أن صلاح الدين وجرديك اتَّفقا على قتله وأخبرا أسدَ الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أنَّ أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي وأقام عنده، فجاء شاوِر على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى الأرض فقتَلاه، والثالث: أنهما لما جذباه لم يمكِنْهما قتله بغير أمر أسد الدين فسَحَبَه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليُجَيِّشوا عليهم، علم أسد الدين فعاد مسرعًا، وجاء رسول من العاضد برقعةٍ يطلب من أسد الدين رأسَ شاور، وتتابعت الرسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاوِر مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمانٌ، وأنا خائِفٌ عليك من الذي عندي فلا تجيء. فلم يلتفت وجاء على العادة فقُتِل. ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجَزَّ رأسه، وبعث أسد الدين برأسِه إلى العاضد فسُرَّ به. ثم طلب العاضد ولدَ شاوِر الملك الكامل وقتَلَه في الدهليز وقتَلَ أخاه، واستوزر أسدَ الدين شيركوه، وذلك في شهر ربيع الأول.
لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين بن أخيه أيوب بن شاذي قد سار معه على كُرهٍ منه للمسير، وأما كيفيَّة ولايته، فإنَّ جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدُّمَ على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عينُ الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خالُ صلاح الدين، وكُلُّ واحد من هؤلاء يخطُبها، وقد جمع أصحابه ليغالَ عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضرَه عنده، وخلعَ عليه، وولَّاه الوزارة بعد عَمِّه، وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابَه قالوا: ليس في الجماعة أضعَفُ ولا أصغَرُ سنًّا من يوسف بن أيوب (صلاح الدين)، والرأيُ أن يولَّى، فإنَّه لا يخرجُ من تحت حُكمِنا، ثم نضَعُ على العساكر من يستميلُهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنَعُ بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرِجُه، فلما خلع عليه لقب الناصر لم يُطِعْه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدونَ الأمرَ لأنفُسِهم، ولا خَدَموه، وكان الفقيهُ عيسى الهكاري مع صلاح الدين، فمَيَّل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقيادِ إليه، فأجابوا سوى عين الدولة الياروقي؛ فإنه امتنع، وثبتَ قَدَمُ صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين محمود، واستمال صلاحُ الدين قلوبَ النَّاسِ، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبُّوه وضَعُف أمر العاضد، ثم أرسل صلاحُ الدين يطلُب من نور الدين أن يرسِلَ إليه إخوتَه وأهلَه، فأرسلهم إليه، وشرعَ عليهم طاعتَه والقيامَ بأمره ومساعدته، وكلُّهم فعل ذلك، وأُخِذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حبًّا وطاعةً.
هو الملك المنصور أبو الحارث أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان عم صلاح الدين, وأصلُه من الأكراد الروادية، وهذا النَّسلُ هم أشرف الأكراد. كان شاوِر وزيرَ العاضد العُبيدي, فقدم إلى الشام يستنجِدُ بنور الدين سنة 559 على خَصِمه ضرغام. فسير معه جماعة من عسكره، وجعل مُقَدَّمَهم أسدَ الدين شيركوه، وقَدِموا مصر، وغدر بهم شاوِر ولم يفِ بما وعدهم به، فعادوا إلى دمشق، ثم عاد شيركوه إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 562، وكان توجهه إليها رغبةً في مِلكِها, فجَرَت عدة وقائع مع شاور. توجَّه خلالها صلاح الدين إلى الإسكندرية وحَكَمها، ثمَّ جرى صلحٌ بين شيركوه وبين المصريين، وسَيَّروا له صلاح الدين، وعاد إلى الشام، ولَمَّا وصل الفرنج إلى بلبيس وملكوها وقتلوا أهلها سنة 564، سيَّروا إلى أسد الدين وطلبوه ومنَّوه ودخلوا في مرضاته لأن يُنجِدَهم، فمضى إليهم وطرَدَ الفرنج عنهم. وكان وصولُه إلى مصر في شهر ربيع الأول، وعزم شاوِر على قتله وقتلِ الأمراء الكبار الذين معه، فبادروه وقتَلوه, فتولى أسدُ الدين الوزارة يوم الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة 564، ولما ثبتت قدَمُه بمصر، وظنَّ أنه لم يبقَ له مُنازِع، أتاه أجَلُه فجأةً، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، بالقاهرة، ودُفِنَ بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه، وكانت ولايتُه شهرين وخمسة أيام، وتولى مكانَه صلاح الدين, ولم يُخَلِّف ولدًا سوى ناصر الدين محمد بن شيركوه الملقب بالملك القاهر.
في أوائل ذي القعدة قُتِلَ مؤتمن الخلافة، وهو خصِيٌّ كان بقصرِ العاضد، إليه الحُكم فيه، والتقدُّم على جميع من يحويه، فاتَّفَق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقَوِّي بهم على صلاح الدين ومَن معه، وسَيَّروا الكتب مع إنسانٍ يثقون به، وأقاموا ينتَظِرون جوابه، وسار ذلك القاصدُ إلى البئر البيضاء، فلَقِيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبَسُه هذا الرجل لكانا خَلِقين؛ فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتَقَهما، فرأى الكتابَ فيهما، فقرأه وسكت عليه، وكان مقصودُ مؤتمن الخلافة أن يتحَرَّك الفرنجُ إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاحُ الدين في العساكرِ إلى قتالهم، فيثور مؤتمنُ الخلافة بمن معه من المصريِّين على مخلفيهم فيقتلونَهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاحَ الدين، فيأتونه مِن وراء ظهره، والفرنجُ من بين يديه، فلا يبقى لهم باقية. فلما قرأ الكتابَ سأل عن كاتبه، فقيل: رجل يهودي، فأُحضِرَ، فأمَرَ بضَربِه وتقريره، فابتدأ وأسلم وأخبَرَه الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال، واستشعر مؤتمنُ الخلافة، فلازم القصر ولم يخرج منه خوفًا، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهرُ له شيئًا من الطلب، لئلا ينكرَ الحال ذلك، فلما طال الأمرُ خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزُّه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسِه، وعزل جميعَ الخدم الذين يتولَّون أمر الخلافة، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خَصِيٌّ أبيض، وكان لا يجري في القَصرِ صغيرٌ ولا كبير إلا بأمره وحُكمِه، فغضب السودان الذين بمصر لقَتلِ مؤتمن الخلافة حَمِيَّة، ولأنه كان يتعصَّبُ لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتُهم على خمسين ألفًا، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحيَّة، فاجتمع العسكرُ أيضًا وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتلُ في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلَّتِهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادِهم وحرَمِهم، فلما أتاهم الخبَرُ بذلك ولَّوا منهزمين، فركبهم السَّيفُ، وأُخِذَت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثُرَ فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزيرُ الدولة توارن شاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسَّيفِ، ولم يبقَ منهم إلا القليلُ الشريد، وكفى الله تعالى شَرَّهم.