حجَّ الملك المعَظَّم بنُ العادلِ فرَكِبَ مِن الكرك على الإبل في حادي عشر ذي القعدة، ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخَلْقٌ، فلما قدم المدينةَ النبويَّةَ تلقَّاه صاحبُها سالم وسَلَّمَ إليه مفاتيحَها وخَدَمه خدمةً تامَّةً، وأمَّا صاحب مكة قتادةُ فلم يرفَعْ به رأسًا؛ ولهذا لما قضى نسُكَه، وكان قارنًا، وأنفق في المجاورين ما حمَلَه إليهم من الصَّدَقاتِ، وكَرَّ راجعًا؛ استصحب معه سالِمًا صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأسِ الماء ما لقيه من صاحب مكةَ، فأرسل العادِلُ، مع سالم جيشًا يطرُدونَ صاحِبَ مكَّةَ، فلمَّا انتهوا إليها هرب منهم في الأوديةِ والجبالِ والبراري.
لما مات صاحب اليمن أيوب بن طغتكين تولى بعده سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتِّفاق الأمراء عليه، فأرسل العادِلُ إلى ولده الكامِلِ أن يرسِلَ إليها ولده أضسيس (ومعناه ما له اسم) وتسمَّى بالمسعودِ صلاح الدين يوسف، فخرج في جيش كثيفٍ من مصر، وسار إلى بلاد اليمن، فاستولى على معاقلِها، وظَفِرَ بصاحبها الملك سليمان شاهنشاه, فسَيَّرَه تحت الحوطة إلى مصر، فتمَلَّك أضسيس اليمن فظَلَم بها وفتك وغشم، وقتَلَ من الأشراف نحوًا من ثمانمائة، وأمَّا من عداهم فكثير، وكان من أفجَرِ الملوك وأكثَرِهم فِسقًا وأقلِّهم حياءً ودينًا، وقد ذكروا عنه ما تقشَعِرُّ منه الأبدانُ وتُنكِرُه القلوبُ.
تجمع فرنج قبرص وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكرُ ابن ملك الأرمن؛ لقصد بلاد المسلمين، فخافهم المسلمون، وكان أول ما بدؤوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعةَ الخوابي وجدُّوا في حصارها، وكانوا حانقين على الإسماعيلية؛ بسبب قتلهم ابن البرنس صاحب أنطاكية؛ شابٍّ في الثامنة عشرة من العمر، وثبوا عليه العام الماضي فقتلوه، فخرج الملك الظاهر بعسكَرِه ليدافِعَ عن القلعة، فترحَّلت الفرنجُ ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
حاصر الأمير قتادة أميرُ مكَّةَ المدينةَ ومن بها وقطع نخلًا كثيرًا، فقاتَلَه أهلُها فكَرَّ خائبًا خاسرًا حسيرًا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب مِن العادل نجدةً على أمير مكة، فأرسل معه جيشًا فأسرع في الأوبة، فمات أمير المدينة في أثناء الطريق، فاجتمع الجيشُ على ابن أخيه جماز فقصَدَ مكة فالتقاه أميرُها بالصفراء فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهرب المكيُّون وغَنِمَ منهم جماز شيئًا كثيرًا، وهربَ قتادةُ إلى ينبع، فساروا إليه فحاصروه بها وضيَّقوا عليه.
أغارت الفرنج على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا ثم اصطلحوا، وأخذ مَلِكُ بلاد الروم عزُّ الدين كيكاوس بن كيخسرو مدينة إنطاكية من أيدي الفرنجِ، ثم أخَذَها منه ابنُ لاون ملك الأرمن، ثم منه إبريس طرابلس، وسار عزُّ الدين إلى بلاد الأرمن، وحاصرَ قلعة جابان، وهزم عندها جيوش الأرمن، ورجع إلى قيصريَّة قبل أن يستوليَ على قلعة جابان، ثم طلب الأرمنُ الصلحَ، وأجابهم إليه عزُّ الدين، فأخذ في مقابلِ الصلح من بلاد الأرمن قلعةَ لؤلؤة ولوزاد.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، وهو الأصغر، وكان يلقَّب الملك المعظم، وكان أحبَّ ولدي الخليفة إليه، وقد رشَّحه لولاية العهد بعده، وعزَلَ ولده الأكبر عن ولاية العهدِ؛ لأجل أبي الحسن علي, وكان كريمًا كثير الصدقة والمعروف، حَسَن السيرة، محبوبًا إلى الخاص والعام، وكان سببُ موتِه أنَّه أصابه إسهالٌ فتوفِّيَ، وحَزِنَ عليه الخليفةُ حُزنًا لم يُسمَعْ بمثله، حتى إنه انقطع، ثم أُخرجَ نهارًا، ومشى جميعُ الناس بين يدي تابوتِه إلى تربة جدَّتِه عند قبر معروف الكرخي، فدُفِنَ عندها، ولما أُدخِل التابوت أُغلِقَت الأبواب، وسُمِعَ الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوتُ الخليفة, وأمَّا العامة ببغداد فإنَّهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا، ولم تبق امرأةٌ إلَّا وأظهرت الحزن، وما سُمِعَ ببغداد مثل ذلك في قديمِ الزمانِ وحديثه. وتَرَك أبو الحسن ولدينِ أحدهما المؤيَّد أبو عبد الله الحسين، والموفَّق أبو الفضل يحيى.
انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاربًا، فقُتِلَ، وسَبَبُ ذلك أنَّه كان قد ملكَ البلاد، وقتل إيدغمش فأُرسلَ إليه من الديوان الخليفي رسولٌ ينكِرُ ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فأرسل الخليفةُ إليه يحَرِّضُه على منكلي ويَعِدُه النصرةَ، وأرسل أيضًا إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحِبِ قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، ألموت وغيرها، يأمرُه بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفةِ بعضُ البلاد، ولأوزبك بعضُها، ويعطى جلال الدين بعضَها، فلما استقَرَّت القواعد بينهم على ذلك جهَّزَ الخليفة عسكرًا كثيرًا، وجعل مُقَدَّمَهم مملوكَه مُظفَّر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، فساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكرُ كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلَّق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفحِ جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعِه ومن معهم، فحَمَلوا عليه، فلم يثبُت أوزبك، ومضى منهَزِمًا، فعاد أصحابُ منكلي وصَعِدوا الجبَلَ، وعاد أوزبك إلى خيامِه، فطَمِعَ منكلي حينئذ، ونزل من الغدِ في جميع عسكرِه، واصطَفَّت العساكر للحرب، واقتتلوا أشدَّ قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، واستولى عسكرُ الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقَرَّ له، وأخذ الباقي أوزبك، فسَلَّمَه إلى أغلمش مملوكِ أخيه. أمَّا منكلي فإنَّه مضى منهزمًا إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديقٌ له، فأرسل إليه يستأذنُه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخرج إليه فلقيه وقبَّل الأرضَ بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحَه، وأراد أن يقيِّدَه ويُرسِلَه إلى أغلمش، فسأله أن يقتُلَه هو ولا يرسلَه، فقتله، وأرسل رأسَه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يومُ دخولها يومًا مشهودًا, ولم يتمَّ فرحة الخليفة ذلك اليوم لموت ولَدِه وولي عهده أبو الحسَنِ علي.
ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وسببُ ذلك أنَّ خوارزم شاه لَمَّا استولى على عامَّة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسلَ إلى تاج الدين، صاحبِ غزنة، يطلُبُ منه أن يخطُبَ له، ويضرِبَ السِّكَّة باسمه، ويرسِلَ إليه فيلًا واحدًا ليصالِحَه ويقِرَّ بيده غزنة، ولا يعارِضه فيها، فأحضر الأمراءَ وأعيانَ دولته واستشارهم، فخطب لخوارزم شاه، وضَرَب السكة باسمِه، وأرسل إليه فيلًا، وأعاد رسولَه إليه، ومضى إلى الصيدِ، فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجِدًّا، وسبق خبَرُه، فسلم إليه قتلغ تكين غزنةَ وقلعتها، فلمَّا دخلها خوارزم شاه قتَلَ من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وقيل: إنَّ مِلكَ خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة.
وقع بالبصرة بَرَد كثير، وهو مع كثرتِه عظيمُ القَدرِ، قيل: كان أصغرُه مثل النارنجة- نوع من الليمون- الكبيرة، وقيل في أكبرِه ما يستحي الإنسانُ أن يذكُرَه، فكسر كثيرًا من رؤوسِ النخيل. وفي صفَر من نفس العام هبَّت ببغداد ريحٌ سوداءُ شديدة، كثيرةُ الغبار والقتام، وألقت رملًا كثيرًا، وقلعت كثيرًا من الشَّجَر، فخاف الناسُ وتضَرَّعوا، ودامت من العشاءِ الآخرة إلى ثلث الليل ثم انكشَفَت.
هو المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو صاحِبُ مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام، وكان مرضُه إسهالًا، وكان شديد السيرة، ضابطًا لأموره كلِّها، ولَمَّا اشتدت علتُه عهد بالملك بعده لولد له صغيرٍ اسمه محمد، ولقَّبَه الملك العزيز غياث الدين، عُمُره ثلاثُ سنين، وعدَلَ عن ولد كبير لأنَّ الصغيرَ كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعَهِدَ بالملك له ليبقى عمُّه البلاد عليه، ولا ينازعه فيها، ولَمَّا عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربِّيَه خادمًا روميًّا، اسمه طغرل، ولقَّبَه شهاب الدين، وهو من خيارِ عبادِ الله، كثيرُ الصدقة والمعروف، ولما توفي الظاهر أحسن الأتابك شهاب الدين السيرةَ في الناس، وعدل فيهم، وأزال كثيرًا من السُّنَن الجارية، وأعاد أملاكًا كانت قد أُخذَت من أربابهِا، وقام بتربية الطفلِ أحسَنَ قيامٍ، وحَفِظَ بلاده، واستقامت الأمورُ بحُسنِ سيرته وعَدلِه.
سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجَبَل فمَلَكَها، وكان سببُ حركتِه في هذا الوقت عِدَّة أمور؛ أحدها: أنه كان قد استولى على ما وراء النهر، وظَفِرَ بالخطا، وعَظُم أمره، وعلا شأنه، وأطاعه القريبُ والبعيد، ومنها: أنه كان يهوى أن يُخطَبَ له ببغداد، ويُلَقَّب بالسلطان، ومنها: أن أغلمش لَمَّا ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعِها، فلما قتَلَه الباطنية غَضِبَ له، وخرج لئلا تخرُجَ البلاد عن طاعته، فسار مجدًّا في عساكر تطبقُ الأرض، فوصل إلى الريِّ فملكها، وكان أتابك سعد بن دكلا، صاحِبُ بلاد فارس، لَمَّا بلغه مقتل أغلمش جمع عساكِرَه وسار نحو بلاد الجبل طمعًا في تملكها لخلوِّها عن حامٍ وممانع، فوصل إلى أصفهان، فأطاعه أهلُها، وسار منها يريد الري، ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه، فلَقِيَه مقدمة خوارزم شاه فظَنَّها عساكر تلك الديار قد اجتمعت لقتاله ومنْعِه عن البلاد، فقاتلهم، وجَدَّ في محاربتهم حتى كاد يهزِمُهم، ثم انهزم وملك خوارزم شاه البلدَ.
قَدِمَ السلطانُ علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدًا بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعَدَّ له الخليفة واستخدم الجيوَش وأرسل إلى الخليفةِ يطلُبُ منه أن يكون بين يديه على قاعدةِ مَن تقَدَّمه من الملوك السلاجقة، وأن يَخطُبَ له ببغداد، فلم يجِبْه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهدَ عند خوارزم شاه من العظمةِ وكثرة الملوك بين يديه وأخذَ السهروردي في خطبةٍ هائلة فذكر فيها فضلَ بني العباس وشرَفَهم، والترجمان يعيد على السلطانِ خوارزم شاه، فقال السلطانُ أمَّا ما ذكرتَ مِن فضل الخليفة فإنَّه ليس كذلك، ولكني إذا قَدِمتُ بغداد أقمتُ من يكون بهذه الصِّفة، وانصرف السهروردي راجعًا، وأرسل الله تعالى على خوارزم شاه وجنده ثلجًا عظيمًا ثلاثة أيام حتى طَمَّ الخيامَ والخراكي -لفظ فارسيٌّ يعني بيتًا من الخشب- ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطَّعت أيدي رجالٍ وأرجُلُهم، وعَمَّهم من البلاء ما لا يُحَدُّ ولا يوصف، فمات كثيرٌ من الدواب والرجال، فلم يحقِّق خوارزم شاه ما جاء لأجلِه، وخاف أن يتغلَّب التَّترُ على بلاده؛ إذ قد بدأوا بالتحرُّك، فرجع إلى بلاده!
وصلت أمداد الفرنج في البحر من روميَّة الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلَّا أن المتولي لها كان صاحب رومية؛ لأنَّه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمةٍ، لا يرون مخالفةَ أمره ولا العُدولَ عن حُكِمهِ فيما سَرَّهم وساءهم، فجهَّز العساكرَ مِن عنده مع جماعةٍ مِن مقَدَّمي الفرنج، وأمَرَ غيرَه من ملوكِ الفرنج إمَّا أن يسير بنفسِه، أو يرسِلَ جيشًا، ففعلوا ما أمَرَهم، فاجتمعوا بعكَّا من ساحل الشام، وكان الملك العادلُ أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشامِ، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكَّا ليقصدوه، فسار العادلُ نحوَهم، فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبِقَهم إلى أطراف البلاد ممَّا يلي عكا ليحميَها منهم، فساروا هم فسَبَقوه، فنزل على بيسان من الأردن، فتقدَّم الفرنجُ إليه في شعبان عازمينَ على محاربته؛ لعلمهم أنَّه في قلة من العسكر، لأنَّ العساكِرَ كانت متفرقةً في البلاد، فلمَّا رأى العادلُ قُربَهم منه لم يرَ أن يلقاهم في الطائفةِ التي معه، خوفًا من هزيمة تكونُ عليه، وكان حازمًا كثير الحذر، ففارق بيسان نحو دمشق ليُقيمَ بالقرب منها، ويرسِلَ إلى البلاد ويجمعَ العساكر، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه، فأخذ الفرنجُ كلَّ ما في بيسان من ذخائِرَ قد جُمِعَت، وكانت كثيرةً، وغنموا شيئًا كثيرًا، ونَهَبوا البلاد من بيسان إلى بانياس، وبثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين، ونوى وأطراف البلاد، ونازلوا بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا، ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرةً، سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا، فأقاموا أيامًا استراحوا خلالها، ثم جاؤوا إلى صور، وقَصَدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا، وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سَلِمَ من تلك البلاد كان متخفيًا حتى قَدَر على النجاة، ولما نزل العادِلُ على مرج الصفر سيَّرَ ولده الملك المعظم عيسى، وهو صاحِبُ دمشق في قطعةٍ صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنَعَ الفرنجَ عن بيت المقدس.
لما نزل الفرنج بمرج عكَّا تجَّهزوا، وأخذوا معهم آلةَ الحصار من مجانيقَ وغيرها، وقصدوا قلعةَ الطور، وهي قلعةٌ منيعة على رأس جبلٍ بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريبٍ، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصَعِدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها، وكادوا يملِكونه، فاتَّفق أن بعض المسلمين ممَّن فيها قتَل بعضَ ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكَّا، وكانت مدة مُقامهم على الطور سبعة عشر يومًا، ولَمَّا فارقوا الطور أقاموا قريبًا، ثم ساروا في البحرِ إلى ديار مصر، فتوجَّه الملك المعظَّم إلى قلعة الطورِ فخَرَّبها إلى أن ألحَقَها بالأرض؛ لأنَّها بالقُربِ مِن عكا ويتعَذَّر حِفظُها.
وقعت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبين أهل باب الأزج بسبب قتل سبع؛ وزاد الشرُّ بينهم، واقتتلوا، فجُرح بينهم كثير، فحضر نائبُ الباب وكفَّهم عن ذلك، فلم يقبلوا ذلك، وأسمعوه ما يكرَهُ، فأُرسِل من الديوان أميرٌ من مماليك الخليفة، فرَدَّ أهل كل محلَّة إلى محلَّتِهم، وسكنت الفتنةُ.
سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم إلى ولاية حلب؛ قصدًا للتغلُّب عليها، ومعه الأفضلُ بن صلاح الدين يوسف، حيث كان أشار عليه ذوو الرأيِ من أصحابه، وقالوا له: لا يتِمُّ لك هذا إلا بأن يكون معك أحدٌ من بيت أيوب لِيسهلَ على أهل البلاد وجُندِها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضَلُ بن صلاح الدين هو في طاعتك، فأحضر الأفضل من سميساط إليه، واستقَرَّت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصِدون ديارَ الجزيرة، فما يفتحونَه مِمَّا بيد الملك الأشرف مثل: حران والرَّها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس، وجرت الأيمانُ على ذلك، وجمعوا العساكِرَ وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسَلَّمَها الأفضل، فمال الناسُ حينئذ إليهما، ثم سارا إلى قلعةِ تل باشر، وفيها صاحِبُها ولَدُ بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضَيَّقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسِه، ولم يسَلِّمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضَلُ من ذلك، وقال: هذا أوَّلُ الغدر، وخاف أنَّه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصُلُ إلَّا أن يكون قد قلع بيتَه لغيره، ففترت نيَّتُه، وأعرض عمَّا كان يفعله، وكذلك أيضًا أهل البلاد، وأما صاحِبُ حلب فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصُروه، وربَّما سَلَّم أهلُ البلد والجند المدينةَ إلى الأفضل لمَيلِهم إليه، فأرسل إلى المَلِك الأشرف بن الملك العادل، صاحبِ الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكونَ طاعتُهم له، ويخطُبون له، ويجعل السكةَ باسمه، ويأخُذ من أعمال حلب ما اختار، فجمع عسكَرَه وأحضر إليه العربَ من طيئ وغيرهم، ونزل بظاهِرِ حلب، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضَلُ يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماعِ العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجَهَّزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقولُ: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها؛ لئلا يبقى لهم وراء ظهورِنا شيء، قصدًا للتمادي فتوجَّهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدَّم الأشرف نحوهم، وسارت العربُ في مقدِّمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعربُ ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمينَ، وأكثر العرب الأسرَ منهم والنهبَ؛ لجودة خيلهم ودبر خيل الرومِ، فلما وصل إليه أصحابُه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابِه يطوي المراحِلَ إلى بلاده خائفًا يترقَّبُ، فلما وصل إلى أطرافها أقام، فسار حينئذ الأشرف، فملك رغبان، وحصر تل باشر، وبها جمعٌ مِن عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غُلِبوا، فأُخِذَت القلعة منهم، وأطلَقهم الأشرف، وسَلَّم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهابِ الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازمًا على اتباعِ كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبَرُ بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحةُ العودَ إلى حلب.
لما عاد الفرنجُ من حصار الطور أقاموا بعكَّا إلى أن دخلت هذه السَّنةُ، فساروا في البحرِ إلى دمياط، فوصَلوا في صفر، فأرسوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإنَّ بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برجٌ كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسِلَ من حديد غلاظ، ومدُّوها في النيل إلى سورِ دمياط لتَمنَعَ المراكِبَ الواصلة في البحرِ المالح أن تصعَدَ في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرجُ وهذه السلاسل لكانت مراكِبُ العدو لا يقدِرُ أحَدٌ على مَنعِها عن أقاصي ديارِ مِصرَ وأدانيها، فلمَّا نزل الفرنجُ على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بَنَوا عليه سورًا، وجعلوا خندقًا يمنعُهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى البرج الذي في النيل ليقاتلوه ويملكوه، وكان البرجُ مشحونًا بالرجال، وقد نزل الملك الكامِلُ بن الملك العادل، وهو صاحِبُ ديار مصر، بمنزلة تُعرَفُ بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكِرُ متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدُوَّ من العبور إلى أرضهم، وأدام الفرنجُ قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيءٍ، وكُسِرَت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبَقُوا كذلك أربعة أشهر، ولم يقدروا على أخذه، ثم تمكنوا من أخذه فقطعوا السلاسِلَ لتدخُلَ مراكبُهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامِلُ عِوَضَ السلاسلِ جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوكِ النيل، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا، كثيرًا، متتابعًا حتى قطعوه، فلما قطع أخذ الملكُ الكامل عدَّةَ مراكب كبار وملأها وخرَقَها وغَرَقها في النيل، فمَنَعت المراكِبَ من سلوكه، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يُعرَف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديمًا، فحفروا ذلك الخليج وعَمَّقوه فوق المراكبِ التي جُعِلَت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالحِ، وأصعدوا مراكِبَهم فيه إلى موضعٍ يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضًا، مقابل المنزلةِ التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنَّهم لم يكن لهم إليه طريقٌ يقاتلونه فيها، كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غيرَ مَرَّة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغيَّرْ على أهل دمياط شيءٌ؛ لأن الميرة والأمداد متَّصلة بهم، والنيلُ يحجُز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتَنِعون لا يصلُ إليهم أذى، وأبوابُها مفتحة، وليس عليها من الحَصرِ ضِيقٌ ولا ضرر.
هو المَلِكُ القاهر عزُّ الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحِبُ الموصل، توفِّيَ ليلة الاثنين لثلاثٍ بقِينَ من شهر ربيع الأول، وكانت ولايتُه سبع سنين وتسعة أشهر، وكان سبب موته أنَّه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومينِ موعوكًا، ثم عاودته الحُمَّى مع قيءٍ كثير، وكربٍ شديد، وقلق متتابعٍ، ثم برد بدَنُه، وعَرقَ، وبَقِيَ كذلك إلى وسط الليل، ثم توفِّيَ، وقيل مات مسمومًا، وكان لما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولدِه الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعُمُره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصيَّ عليه والمدبِّر لدولته بدر الدين لؤلؤًا، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، فلما قضى نحبَه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكةِ أبيه، وأرسل إلى الخليفةِ يطلب له التقليدَ والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلبُ منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدةِ التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبِحْ إلَّا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحَلَف الجند والرعايا، وضبط المملكة، وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظرِ في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضًا، وأتتهما رسلُ الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقَرَّت القواعد لهما. ثم تغلب بدر الدين لؤلؤ على الموصِلِ، وملكها 40 سنة، وكان من قبلُ نائبًا بها ثم استَقَلَّ بالسلطنة وتلَقَّب بالملك الرَّحيم.