في هذا الشَّهرِ كانت وقعةُ أهلِ الذِّمَّة، وهي أنهم كانوا قد تزايد تَرَفُهم بالقاهرة ومصر، وتفَنَّنوا في ركوب الخَيلِ المُسَوَّمة والبَغلات الرائعة بالحُليِّ الفاخرة، ولَبِسوا الثيابَ السريَّة، ووُلوا الأعمالَ الجليلة، فاتفق قدومُ وزير ملك المغرب يريدُ الحَجَّ، واجتمع بالسلطانِ والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجلٍ راكب فرسًا وحَولَه عِدَّةٌ من الناس مشاةٌ في ركابِه، يتضَرَّعونَ له ويسألونه ويقَبِّلون رجليه، وهو مُعرِضٌ عنهم لا يعبأُ بهم، بل ينهَرُهم ويصيح في غِلمانِه بطَردِهم، فقيل للمغربي: إنَّ هذا الرَّاكِبَ نصرانيٌّ، فشَقَّ عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدَّثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاءً كثيرًا، وشَنَّعَ في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النَّصرَ والنصارى تركَبُ عندكم الخيول وتلبَسُ العمائِمَ البِيضَ، وتُذِلُّ المسلمين وتُشبِهُهم في خدمتِكم؟! وأطال القولَ في الإنكار وما يلزَمُ وُلاةَ الأمور من إهانةِ أهل الذِّمَّة وتغيير زيِّهم، فأثَّرَ كلامُه في نفوس الأمراء، فرَسَم أن يُعقَدَ مَجلِسٌ بحضور الحُكَّام، واستُدعِيَت القضاة والفُقَهاء، وطُلِبَ بطرك النصارى، وبرز مرسومُ السلطان بحَملِ أهل الذمة على ما يقتضيه الشَّرعُ المحَمَّدي، فاجتمع القضاةُ بالمدرسةِ الصالحية بين القصرين، ونُدِبَ لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطُلِبَ بطرك النصارى، وجماعةٌ من أساقفتهم وأكابر قِسِّيسِيهم وأعيان مِلَّتِهم، وديَّان اليهود وأكابِر مِلَّتِهم، وسُئِلوا عما أقَرُّوا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه مِن عَقدِ الذِّمَّة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب، وطال الكلامُ معهم إلى أن استقَرَّ الحالُ على أنَّ النصارى تتميَّزُ بلباس العمائِمِ الزُّرقِ، واليهودَ بلُبسِ العمائم الصُّفر، ومُنِعوا من ركوبِ الخَيلِ والبِغالِ، ومِن كُلِّ ما منعهم منه الشارِعُ صَلَّى الله عليه وسلم، وأُلزِموا بما شَرَطَه عليهم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالتزموا ذلك وأُشهِدَ عليه البطرك أنَّه حَرَّم على جميع النصرانية مخالفةَ ذلك والعُدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكَلِمةَ على سائِرِ اليهود في مخالفةِ ذلك والخروج عنه وانفَضَّ المجلس، وطُولِعَ السلطان والأمراء مما وقع، فكتب إلى أعمالِ مِصرَ والشام به، ولَمَّا كان يوم خميس العهدِ وهو العشرون من شهر رجب جُمِعَ النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهِرِها، ورُسِمَ ألَّا يُستخدَمَ أحَدٌ منهم بديوانِ السُّلطانِ ولا بدواوينِ الأمراءِ، وألَّا يَركَبوا خيلًا وبغالًا، وأن يلتَزِموا سائِرَ ما شُرِطَ عليهم، ونودِيَ بذلك في القاهرةِ ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه، فانحصر النصارى من ذلك، وسَعَوا بالأموال في إبطالِ ما تقَرَّر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاءِ ما ذُكِرَ قيامًا محمودًا، وصَمَّم تصميمًا زائدًا، فاضطر الحالُ بالنصارى إلى الإذعان، وأسلَمَ أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبةِ وخَلقٌ كثيرٌ، حرصًا منهم على بقاءِ رياستِهم، وأنفةً مِن لُبسِ العمائِمِ الزُّرقِ وركوب الحَميرِ، وخرج البريدُ بحَملِ النصارى واليهود فيما بين دنقلة من النوبة والفرات على ما تقَدَّمَ ذِكرُه، وامتَدَّت أيدي العامَّة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهَدَموها بفتوى الشَّيخِ الفَقيهِ نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة، فطَلَب الأمراءُ القُضاةَ والفقهاءَ للنَّظَرِ في أمر الكنائس، فصَرَّحَ ابن الرفعة بوجوب هَدمِها، وامتنع من ذلك قاضي القضاةِ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتَجَّ بأنَّه إذا قامت البيِّنةُ بأنها أُحدِثَت في الإسلامِ تُهدَمُ، وإلَّا فلا يُتعَرَّض لها، ووافَقَه البقيَّةُ على هذا وانفَضُّوا، وكان أهلُ الإسكندريةِ لما ورد عليهم مرسومُ السلطان في أمر الذمَّة ثاروا بالنَّصارى وهَدَّموا لهم كنيستين، وهَدَّموا دُورَ اليهود والنصارى التي تعلو على دُورِ جيرانِهم المُسلِمينَ، وحَطُّوا مساطِبَ حوانيتِهم حتى صارت أسفَلَ مِن حوانيت المسلمين، وهُدِمَ بالفيومِ أيضًا كَنيستانِ، وقَدِمَ البريد في أمر الذمَّة إلى دمشق يوم الاثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاةُ والأعيان عند الأمير أقش الأفرم، وقرئ عليهم مرسومُ السلطان بذلك، فنودي في الخامس عشر أن يَلبَسَ النصارى العمائِمَ الزُّرقَ، واليهودُ العمائمَ الصُّفرَ، والسَّامرةُ العمائِمَ الحُمر، وهُدِّدوا على المخالفة، فالتزم النصارى واليهود بسائِرِ مملكة مصر والشام ما أُمِروا به، وصَبَغوا عمائِمَهم إلَّا أهل الكركِ؛ فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائبُ بها رأى إبقاءَهم على حالتِهم، واعتذَرَ بأنَّ أكثَرَ أهل الكرك نصارى، فلم يغَيِّرْ أهلُ الكرك والشوبك من النصارى العمائِمَ البيض، وبَقِيَت الكنائسُ بأرض مصر مدة سنةٍ مُغَلَّقة حتى قَدِمَت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفَعُ في فتحِها، ففُتِحَت كنيسةُ المُعَلَّقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكيَّة، ثم قدمت رسل ملوك أخر، ففُتِحَت كنيسةُ حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويِعَ بالخلافة بالدَّولةِ الظاهرية في أول سنة 661، فاستكمل أربعينَ سنةً في الخلافة، وتوفِّيَ ليلة الجمعةِ ثامن عشر جمادى الأولى، وصُلِّيَ عليه بجامع ابن طولون، ودُفِنَ بجوار المشهد النفيسي وقتَ صلاةِ العَصرِ بسوق الخيل، وحَضَر جنازته الأعيانُ والدولةُ كُلُّهم مُشاةً، وكان قد عَهِدَ بالخلافة إلى وَلَدِه أبي الربيع سليمان، وتلقَّبَ بالمستكفي باللهِ، وقرئ كتاب تقليدِه بالخلافة بحَضرةِ السلطان المَلِك الناصر محمد بن قلاوون والدَّولة يوم الأحد عشرين من ذي الحجة مِن هذه السنة، وخُطِبَ له على المنابِرِ بالبلادِ المصريَّة والشاميَّة، وسارت بذلك البريديَّةُ إلى جميع البلاد الإسلاميَّة.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
عُقِدَ مجلِسٌ لليهود الخيابرة وأُلزِموا بأداءِ الجزية أسوةَ أمثالهم من اليهود، فأَحضروا كتابًا معهم يزعُمونَ أنَّه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بوضعِ الجِزيةِ عنهم، فلما وقف عليه الفُقَهاءُ تَبَيَّنوا أنَّه مكذوب مُفتَعَلٌ لما فيه من الألفاظِ الركيكة، والتواريخِ المحبطة، واللَّحنِ الفاحش، وحاقَقَهم عليه شيخُ الإسلام ابن تيميَّةَ، وبيَّنَ لهم خطأَهم وكَذِبَهم، وأنَّه مُزَوَّرٌ مكذوب، فأنابوا إلى أداءِ الجزية، وخافوا من أن تُستعادَ منهم الشؤون الماضية، وقال ابن كثير: "وقد وقفتُ أنا على هذا الكتابِ فرأيتُ فيها شهادةَ سَعدِ بن معاذٍ عام خيبر، وقد توفِّيَ سعد قبل ذلك بنحوٍ مِن سنتين، وفيه: وكتَبَ عليُّ بن أبي طالب، وهذا لحنٌ لا يَصدُرُ عن أميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه".
ورد الخبَرُ من حلب بأن تكفور الأرمني متمَلِّكَ سيس منع الحَملَ وخرَجَ عن الطاعةِ وانتمى لغازان، فرسم بخروجِ العسكر لمحاربته، وخرج الأميرُ بدر الدين بكتاش الفخري أميرُ سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراءِ والمفاردة في رمضانَ وساروا إلى حماة، فتوجَّهَ معهم العادل كتبغا في الخامِسَ عشر من شوال، وقَدِموا حلب في أوَّلِ ذي القَعدةِ ورحَلوا منها في ثالِثِه، ودخلوا دربند بغراس في سابعه، وانتَشَروا في بلاد سيس، فحَرَقوا المزروع وانتهبوا ما قدروا عليه، وحاصروا مدينةَ سيس وغَنِموا مِن سَفحِ قَلعتِها شيئًا كثيرًا من جفال الأرمن، وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية، فقَدِموا حلب في السابع عشر، ثم نزلوا حماة في التاسع عشر.
هو الإمامُ العلَّامةُ شَيخُ الإسلام تقيُّ الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المصري المنفلوطي، المالكيُّ الشافعي، أحَدُ الأعلام, المعروفُ بابن دقيق العيد. وُلِدَ يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، تفقَّهَ على والده بقوص, وكان والِدُه مالكيَّ المذهب، ثم تفقَّه على الشيخ عزِّ الدِّين بن عبد السلام الشافعي، فحقَّق المذهبَين، وأفتى فيهما، سَمِعَ الكثير ورحل في طلب الحديثِ وخرج وصَنَّفَ فيه إسنادًا ومتنًا مُصَنَّفات عديدة، فريدةً مفيدة، وانتهت إليه رياسةُ العلم في زمانه، وفاقَ أقرانه ورحل إليه الطَّلَبةُ ودرَّسَ في أماكن كثيرة، ولي قضاءَ الديار المصرية، وكان وقورًا قليل الكلام غزيرَ الفوائِدِ كثيرَ العُلومِ، فيه ديانةٌ ونزاهة، وله شعرٌ رائق، كما كان بارعًا في الفقه والأصول، له مصنَّفاتٌ عديدة، منها: الإلمام في أحاديث الأحكام، وله إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، وله شرح الأربعين النووية، وغيرها، وله خُطَبٌ بليغة مشهورة، أنشأها لَمَّا كان خطيبًا بقوص. قال الذهبي في معجمه: "هو قاضي القضاة بالدِّيارِ المصرية، وشيخُها وعالِمُها، الإمامُ العلَّامة، الحافِظُ القدوة الوَرِع، شيخُ العصر. كان علَّامةً في المذهبين، عارفًا بالحديثِ وفنونه، سارت بمصنَّفاته الرُّكبان. ولي القضاءَ ثمانيَ سنين", وبسط السبكيُّ ترجمته في الطبقاتِ الكبرى قال: "لم ندرِكْ أحدًا من مشايخنا يختَلِفُ في أنَّ ابنَ دقيق العيد هو العالمُ المبعوثُ على رأس السَّبعمائة". وقال عنه ابنُ كثير في طبقاته: "أحدُ عُلماء وقته، بل أجلُّهم وأكثَرُهم عِلمًا ودِينًا، وورَعًا وتقشُّفًا، ومداومةً على العلم في ليلِه ونهاره، مع كِبَرِ السِّنِّ والشُّغلِ بالحكم. وله التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. برع في علومٍ كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه على أقرانِه وبرز على أهل زمانِه، رحلت إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على عِلمِه ووَرَعِه وزُهدِه الاتِّفاق". توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصُلِّيَ عليه يوم الجمعة بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى.
قَدِمَ البريد من طرابلس بأن الفرنجَ أنشؤوا جزيرةً تجاه طرابلس تُعرَفُ بجزيرة أرواد، وعَمَروها بالعدد والآلات وكثُرَ فيها جمعُهم، وصاروا يركَبونَ البحر ويأخذون المراكِبَ، فرسم للوزير بعمارةِ أربعة شواني حربية، فشرَعَ في ذلك، ثمَّ في صفر هذه السنة توجَّهَ كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقُرب طرطوس، وصبَّحَهم في غفلةٍ وأحاط بهم وقاتلَهم ساعةً، فنصره اللهُ عليهم وقَتَلَ منهم كثيرًا، وسألوا الأمانَ فأُخِذوا أسرى في يوم الجمعة ثامِنَ عشرى صفر، واستولى كهرداش على سائِرِ ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرجَ الخُمُسَ من الغنائم لتُحمَلَ إلى السلطان، وقَسَمَ ما بَقِيَ فكانت عِدَّةُ الأسرى مائتينِ وثمانينَ، فلَمَّا قَدِمَ البريد من طرابلس بذلك دُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وكان فتحُها من تمام فتح السواحِلِ، وأراح اللهُ المسلمينَ مِن شَرِّ أهلِها.
وقعة عَرض- وهي من أعمال حلب بين الرصافة وتدمر- وذلك أنَّه التقى جماعةٌ من أمراء الإسلام فيهم استدمر وبهادر أخي وكجكن وغرلو العادلي، وكلٌّ منهم سيفٌ من سيوف الدين في ألفٍ وخمسمائة فارس، وكان التتارُ في سبعةِ آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرًا جيدًا، فنصرهم الله وخذلَ التَّتَر، فقتلوا منهم خلقًا وأسروا آخرينَ، ووَلَّوا عند ذلك مُدبِرينَ، وغَنِمَ المسلمون منهم غنائِمَ، وعادوا سالمين لم يُفقَدْ منهم إلا القليلُ مِمَّن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقةُ بذلك، ثم قَدِمَت الأسارى يوم الخميس نصفَ شعبان.
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
هو الأميرُ زين الدين كتبغا المنصوري، نائِبُ السَّلطنة بحماة، كان من مماليكِ السلطان المَلِك المنصور سيف الدينِ قلاوون الصالحي, وأصلُه من أسرى التَّتار اشتراه السلطانُ قلاوون ثمَّ ترقَّى حتى تسلطنَ، وتلقَّب بالمَلِك العادل، وملَك ديارَ مِصرَ والشام في سنة 694، ثم خلَعَه نائبُه لاجين، وأعطاه صرخد في سنة ستٍّ وتسعين، واستمَرَّ مُقيمًا بصرخد إلى أن اندفَعَ المسلمون من التَّتَر على حمص، فوصل كتبغا من صرخد إلى مصر، وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فقَرَّره نائبًا بحماة، في سنة تسع وتسعين وستمائة، ثم أغار على بلاد سيس، فلمَّا عاد إلى حماة مَرِضَ قبل دخوله إلى حماة، وطال مرَضُه، ثمَّ حَصَل له استرخاءٌ، وبقي لا يستطيعُ أن يحَرِّكَ يديه ولا رِجلَيه، وبَقِيَ كذلك مُدَّةً، وسار من حماة إلى قريبِ مِصر جافلًا بين يدَي التتر، لما كان المصاف على مرج الصفر، ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدةً يسيرة، وتوفِّيَ في هذه السنة.
سارت العساكِرُ من القاهرة للغارة على الأرمن في بلاد سيس، وعليهم الأميرُ بدر الدين بكتاش أمير سلاح، ومعه الأميرُ علم الدين سنجر الصوابي والأميرُ شمس الدين سنقر شاه المنصوري ومضافيهم، وكتب إلى طرابلس وحماة وصفد وحلب بخروج العساكِرِ إليها، فوصل الأميرُ بدر الدين بكتاش إلى دمشقَ في ثاني عشر رمضان، وخرج منها بعسكرِ دمشق، فسار إلى حَلَب وأتته عساكِرُ البلاد، فافتَرَقوا فرقتينِ فِرقةً سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفِرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربنداتِ وحاصروا تلَّ حمدون فتسَلَّموه عَنوةً في ثالث ذي القعدة بعد حصارٍ طويل، وحرقوا مزارعَ سيس وخَرَّبوا الضياعَ وأسَروا أهلَها، ونازلوا تلَّ حمدون وقد امتنع بقلعَتِها جماعةٌ كثيرة من الأرمن، فقاتلوهم حتى فُتِحَت بالأمان، وأخذوا منها ستةَ ملوك من ملوك الأرمن، فشَقَّ ذلك على تكفور ملك سيس، وقصد نكايةَ الملوك على تسليمِهم قلعة تل حمدون بالأمان، وكتب إلى نائِبِ حلب بأنَّ ملوك القلاع هم الذين كانوا يمنعون مِن حَملِ الخراج، فلا تُفرِجوا عن أحدٍ منهم، فليس عندي من يَزِنُ المال سواهم، فأمر النائِبُ بقَتلِهم، فضُرِبَت رقابُ ملوك خمسة منهم، وسَلِمَ منهم صاحب قلعة نجيمة والتزم بأخذ سيس ووقع مع صاحِبِ سيس على أن يكون للمسلمينَ مِن نهر جيهان إلى حَلَب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعَجِّلوا حملَ سَنَتين، ووقعت الهدنةُ على ذلك، فحمل إلى مصر وكتب صحبته بعودِ العساكر بالغنائم، فسُرَّ الأمراءُ والسلطان بذلك، وأكرم صاحب قلعة نجيمة، وكتب بعَودِ العساكر.
هو المَلِكُ محمود غازان ويقال (قازان) بن القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكزخان المغولي ملك التتار العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم؛ ولد سنة 670. كان شابًّا عاقلًا شجاعًا مهيبًا مليحَ الشكلِ، وكان جلوسه على تخت الملك سنة 693. ذكر الذهبي إسلامَه فقال: "دخل قازان الإسلامَ بوساطة نوروز التركي وزيرِه ونائِبِه ومدبِّر مملكته وزَوجِ عَمَّتِه. أسلم في شعبان سنة694 بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين بن حمويه الجويني. وذلك بقُربِ الري بعد خروجه من الحمام، وجلس مجلسًا عامًّا فتلَفَّظ بشهادة الحق وهو يبتَسِمُ ووجهه يستنير ويتهَلَّل, وكان شابًّا أشقر مليحا، له إذ ذاك بضعٌ وعشرون سنة. وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجَّةً عَظيمةً مِن المغول والعجم وغيرهم، ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ. وكان يومًا مشهودًا. وفشا الإسلامُ في جيشه بحصر نوروز؛ فإنَّه كان مسلمًا خَيِّرًا صحيح الإسلام، يحفظُ كثيرًا من القرآن والرقائق والأذكار, ثم شرع نوروز يلقِّن الملك غازان شيئًا من القرآن ويجتهد عليه. ودخل رمضان فصامه، ولولا هذا القَدرُ الذي حصل له من الإسلام وإلَّا كان قد استباح الشامَ لَمَّا غلب عليه، فلله الحمد والمنَّة" كان لقازان خبرةٌ بسياسة الأمور وتدبير الملك، وكان قد التحق في أفعالِه بجَدِّه الأكبر هولاكو، لكِنْ كانت هيبته قويَّةً ورعيتُه في زمانه آمنةً، أظهر غازان العدل، وتسمى بمحمود، ومَلَك العراقين وخراسان وفارس والجزيرة والروم، وتسمَّى بالقان، وأفرد نفسَه بالذِّكرِ في الخطبة، وضرب السكَّة، ولم يسبِقْه أحد من آبائه إلى هذا، فاقتدى به من جاء بعده، وكان من أجَلِّ ملوك بيت هولاكو، إلَّا أنه كان يبخَلُ بالنسبة إليهم, وطرد نائِبَه نوروز من بلادِه ثمَّ أمر بقَتلِه. مات بقرب همذان، ولم يتكَهَّل، ونقل إلى تبريز، ودفن بتربته، ويقال إنه مات مسمومًا، واشتهر أنَّه سُمَّ في منديل تمسَّحَ به بعد الجِماعِ، فتعلَّ ومات, ثم قام في المُلكِ بعده أخوه خدبندا محمد بن أرغون، وخُطِبَ له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد، وتلقَّب بغياث الدين محمد، وكتب إلى السلطان بجلوسِه، وطلبه للصُّلحِ وإخماد الفتنة، وسَيَّرَ إليه رسله.
حضر جماعةٌ من المغول وافدينَ إلى بلاد الإسلام بعد إسلامِهم، نحو مائتي فارس بنسائِهم وأولادهم، وفيهم عِدَّةٌ من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، الذي كتب يحُثُّ على إكرامهم، فقَدِموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقَدِمَ معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقَدِمَت أيضًا أم سلار، فرُتِّبَت لهم الرواتب، وأُعطوا الإقطاعات، وفُرِّق جماعةٌ منهم على الأمراء، وأنشأ سلار لأمِّه دارًا بإسطبل الجوق الذي عَمِلَه العادل كتبغا ميدانًا، ثم عرف بحكر الخازن، ورقَّى أخويه وأعطاهما الإمريات، وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشقَ في الرابع عشر من شعبان، ودخلا القاهرةَ أول رمضان، ومعهما كتابُ خربندا وهديته، فتضَمَّن كتابُه جلوسَه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطانَ بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلحَ، وقال في آخر كلامه: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، فأُجيبَ وجُهِّزَت له الهَديَّةُ، وأُكرِمَ رَسولُه.
سار الشيخُ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجدِ النارنج وأمر أصحابَه ومعهم حجَّارونَ بقَطعِ صَخرةٍ كانت هناك بنهر قلوط تزارُ ويُنذَرُ لها، ويقولون إن الأثَرَ الذي بها هو قَدَمُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، فبَيَّنَ أن ما يفعَلُه الناس من التبرك به وتقبيلِه لا يجوز، فقَطَع الصخرةَ في سادس عشر رجب، وقد أنكر عليه الناسُ ما فعله فأُجيبَ إن كان الأمرُ على ما زعم فقد فعل الخيرَ وأزال بدعة، وإن كان الأمرُ بخلاف ما قال فإذا تبيَّنَ صِحَّتُه يقابَلُ على ما فَعَله، فقطعها وأراح المسلمينَ منها ومن الشِّركِ بها، فأزاح عن المسلمينَ شُبهةً كان شَرُّها عظيمًا، وبهذا وأمثالِه حَسَده بعضُ العلماءِ وأبرزوا له العداوة، وكذلك كلامُه في ابن عربي وأتباعِه، فحُسِدَ على ذلك وعُودِي، ومع هذا لم تأخُذْه في اللهِ لومة لائمٍ، ولا بالى، ولم يَصِلوا إليه بمكروهٍ، وأكثَرُ ما نالوا منه الحبسُ، مع أنه لم ينقَطِعْ في بحثٍ لا بمصرَ ولا بالشامِ!
في مستهَلِّ ذي الحجَّة ركبَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية ومعه جماعةٌ من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيبُ الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقًا من الرافضة والدروز وألزَموهم بشرائِعِ الإسلامِ، ورجع مُؤيَّدًا منصورًا.
أخَّر متمَلِّكُ سيس الحملَ الجاريَ به العادة، فبعث إليه نائِبُ حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحدَ مقدَّمي حلب على عسكرٍ نحو الألفين، وفيهم الأميرُ شمس الدين أقسنقر الفارسي والأميرُ فتح الدين صبرة المهمندار- الذي يتلقَّى الرسُلَ والمبعوثين- والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، فشنوا الغاراتِ على بلاد سيس، ونهبوا وحَرَّقوا كثيرًا من الضياع، وسَبَوا النساءَ والأطفال في المحَرَّم، وكان قد وصل إلى سيس طائفةٌ من التتار في طلب المال، فركِبَ التتار مع صاحِبِ سيس، وملَكوا رأس الدربند، فركب العسكرُ لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتارُ عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقُتِلَ جماعةٌ وأُسِرَ من الأمراءِ ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرينَ مِن أهل حلب، وخَلُصَ قشتمر مُقَدَّم العسكر، وآقسنقر الفارسي، وتوجَّه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم, وبلَغَ نائبَ حلب خبَرُ الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطانِ الناصر والأمراء، فرسم بخروجِ الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس، فبعث متمَلِّك سيس الحمل، واعتذر بأنَّ القتالَ لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحَيُّل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأميرُ بكتاش بمن معه من غَزَّة.
خرج نائِبُ السلطنة بمن بقي من الجيوشِ الشاميَّة، وقد كان تقَدَّمَ بين يديه طائفةٌ من الجيش مع ابن تيميَّة في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرَّفضِ والتيامنة والدروز فخرج نائبُ السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروجِ الشيخ لغزوهم، فنصَرَهم الله عليهم وأبادوا خلقًا كثيرًا منهم ومِن فِرقَتِهم الضالَّة، ووَطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن صُنعِ بلادهم، وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشقَ في صحبته الشَّيخُ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبَبِ شهود الشيخ هذه الغزوةَ خَيرٌ كثيرٌ، وأبان الشيخ علمًا وشجاعةً في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوبُ أعدائه حسدًا له وغَمًّا.