فشا الموت بالطاعون في إقليمي الشرقية والغربية وجميع الوجه البحري، وكان ابتداؤه بالقاهرة ومصر منذ حلت الشمس في برج الحمل، في يوم الأحد الخامس عشر صفر، فبلغت عدة من يرد الديوان من الأموات ما بين العشرين والثلاثين في كل يوم، وبلغت عدة من ورد من الأموات بالقاهرة إلى الديوان نحو الخمسين، أكثرهم أطفال، وذلك سوى المارستان، وموتهم بأمراض حادة، وحبة الموت قَلَّ من يمرض منهم ثلاثة أيام، بل كثير منهم يموت ساعة يمرض، أو من يومه، وبلغت عدة من ورد الديوان من الأموات في ربيع الأول بمدينة بلبيس ألف إنسان، وبناحية بردين من الشرقية خمسمائة نفس، وبناحية ديروط من الغربية ثلاثة آلاف إنسان، سوى بقية القرى، وهي كثيرة جدًّا، وفي شهر ربيع الآخر أوله الخميس في ثالثه بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات بالقاهرة إلى مائة وستة وتسعين، سوى المارستان، ومصر، وبقية المواضع التي لا ترد الديوان، وما تقصر عن مائة أخرى، هذا مع شناعة الموتان بالأرياف، وخلو عدة قرى من أهلها، وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه إلى الديوان من العشرين من صفر إلى آخر شهر ربيع الآخر 7652؛ من الرجال: ألف وخمسة وستون رجلًا، والنساء 669 امرأة، والصغار 3969 صغيرًا، والعبيد 544، والإماء 1369، والنصارى 69، واليهود 32، وذلك سوى المارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يَرِدُ اسمه إلى الديوانين، ولا يقصر ذلك عن تتمة العشرة آلاف، ومات بقرى الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيدُ!
قَدِمَ الخبر برحيل ابن السلطان المؤيد شيخ من حلب، ودخل إلى مدينة قيسارية الروم في يوم الخميس تاسعه، فحضر إليه أكابرها من القضاة والمشايخ والصوفية، وتلقوه، فألبسهم الخِلَع، وطلع قلعتها في يوم الجمعة، وخُطِبَ في جوامعها للسلطان، وضُرِبت السكة باسمه، وأن شيخ جلبي نائب قيسارية انسحب قبل وصوله إليها، وأنه خلع على الأمير محمد بك قرمان، وأقره في نيابة السلطنة بقيسارية الروم، فدُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وفرح السلطانُ بأخذ قيسارية، فإنَّ هذا شيء لم يتَّفِق لملك من ملوك الترك بمصر، سوى للظاهر بيبرس، ثم انتقض الصلح بينه وبين أهلها.
في سابع جمادى الأولى استُدعِيَ بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأُوقِفَ على قدميه، ووُبِّخ وقُرِّع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذلِّ في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملِّكِها، وهُدِّد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أُمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطابُ في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على ألَّا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عمَّا يُلزمون به من الصَّغار، ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سُجِنَ منذ أيام، فضربه بالمقارع وشَهَره بالقاهرة، عُريانًا بين يدي المحتَسِب، وهو ينادي عليه: هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان، ثم سُجِن بعد إشهاره، فانكفَّ النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغَّروا عمائِمَهم، وضيَّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عَرضًا، وأنف جماعة من النصارى أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي لإبطاله، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدةٌ منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوبِ الخيول المسوَّمة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالِهم، وتعويق معاليمِهم ورواتِبِهم، حتى يخضعوا لهم، ويتردَّدوا إلى دورهم، ويلحُّوا في السؤال لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادى المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاةً غيرَ ركَّاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة فليركبوا الحمير عرضًا، ولا يلبَسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثيابًا ضيقةَ الأكمام، ومن دخل منهم الحمَّام فليكُنْ في عنُقِه جَرَس، وأن تلبس نساءُ النصارى الأُزُرَ الزُّرْقَ، ونساءُ اليهود الأزُرَ الصُّفْرَ، فضاقوا بذلك، واشتدَّ الأمر عليهم، فسَعَوا في إبطاله سعيًا كبيرًا، فلم ينالوا غرضًا، وكبست عليهم الحمامات، وضُرِب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمَّام، وعن إظهار النساءِ في الأسواق.
هو السلطان أبو سعيد عثمان بن السلطان أبي العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني الفاسي ملك الغرب وصاحب فاس. توفي قتيلًا في ليلة الثالث عشر شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللباني، وكانت مدته ثلاثًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وأقيم ولده عبد الحق خلفًا له مع أنه ما يزال صبيًّا، وكان الوصيُّ عليه الوزير أبا زكريا يحيى الوطاسي، فكان هو الحاكم، ويعتبر أبو سعيد آخر ملوك بني مرين؛ ففي ذي الحجة سار أبو زيان محمد بن أبي طريق محمد ابن السلطان أبي عنان من تازي، وكان ابن الأحمر قد بعث به من الأندلس لأخذ فاس، فنزل عليها وبايعه الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر بمدينة فاس، بمن اجتمع معه من أهل البلد، وقاتلوا اللباني أربعة أشهر.
طلب السلطان القضاة والأمراءَ فعهد إلى ولده الأمير أحمد بالسلطة من بعده، ومولده في ثاني جمادى الأولى من السنة الماضية، وله من العمر سبعة عشر شهرًا وخمسة أيام، وجعل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي القائِمَ بأمره، وأن يقومَ بتدبير الدولة, ثم أحضر القرمشي من حلب الأمراء الثلاثة، وهم: قجقار القردمي، وتنبك ميق، وططر، وحلفوا على ذلك، ثم حلف المماليك من الغد، ثم في ذي الحجة أثبت عهد الأمير أحمد ابن السلطان المؤيد، على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي، بالسلطنة، ثم نفذ على بقية القضاة.
هو الأمير قرا يوسف ابن الأمير قرا محمد بن بيرم خجا التركماني متملك العراق وتبريز، وكان قرا يوسف شديد الظلم قاسي القلب لا يتمسَّك بدين، واشتهر عنه أنَّ في عصمته أربعين امرأة، وقد خربت في أيامه وأيام أولاده مملكة العراقين, فصدر بحقه فتوى تستبيحُ دمه, فقد ذكر موفق الدين ابن العجمي "أن قرا يوسف عنده أربع زوجات، فإذا طلَّق واحدةً دفعها إلى قصر له وتزوَّج غيرها حتى بلغ عدد من في القصر أربعين امرأة يسمِّيهن السراري ويطؤُهنَّ كالسَّراري بمِلكِ اليمين! فاتفق الحال على كتابة فتوى متضمنة سوء سيرته، فصُوِّرت وكُتِبَت وكَتَب عليها البلقيني ومن حضر المجلس يتضمَّنُ جواز قتاله. وأعجب السلطان ما كتب الحنبلي وأمر أن ينسخ ويقرأ على الناس, فنودي في الناس: بأن قرا يوسف طرق البلاد وأنه يستحل الدماء والفروج والأموال وخرَّب البلاد" وقد عصى عليه ولده شاه محمد ببغداد فحاصره ثلاثة أيام، حتى خرج إليه، فأمسكه واستصفى أمواله، وولى عِوَضَه ابنه أصبهان أمير زاة، ثم عاد إلى تبريز لحركة شاه رخ بن تيمورلنك عليه، ثم في ثامن عشر ذي الحجة قَدِمَ كتاب سليمان صاحب حصن كيفا، يتضمن موت قرا يوسف في رابع عشر ذي القعدة مسمومًا، فيما بين السلطانية وتوريز، وهو متوجه إلى قتال شاه رخ بن تيمورلنك، وملك بعده ابنه شاه محمد بن قرا يوسف، ثم تنصَّر ودعا الناس إلى دين النصرانية، وأباد العلماء والمسلمين، ثم ملك بعده إسكندر، وكان على ما كان عليه شاه محمد وزيادة، ثم أخوهما أصبهان، فكان زنديقًا لا يتديَّنُ بدين، فقرا يوسف وذريته هم كانوا سببًا لخراب بغداد التي كانت كرسيَّ الإسلام، ومنبعَ العلوم، ومدفنَ الأئمة الأعلام!!
هو السلطان محمد الأول بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل، هو السلطان الخامس للدولة العثمانية والملقب بالجلاد -ويعرف بمحمد جلبي- تولى السلطنة بعد وفاة أبيه، ونازعه إخوته الثلاثة على الحكم فقاتلهم حتى تمكن من قتلهم، ثم عمل على استرجاع الأراضي التي انتُزِعَت من الدولة بعد هزيمة والده وأسْرِه من قِبَل تيمورلنك في معركة أنقرة سنة 804, كما أنه عمل على بناء وتقوية الأسطول البحري العثماني، ونقل عاصمته من بورصا إلى أدرنة, وكان قد أوصى لابنه مراد من بعده، وكان يوم وفاة أبيه محمد الأول في أماسيا وكُتم وفاة السلطان حتى وصل مراد إلى أدرنة بعد واحد وأربعين يومًا، ودفن السلطان محمد جلبي في بورصا، وكانت مدة سلطنته قريبًا من ثماني عشرة سنة.
هو السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري، وهو السلطان الثامن والعشرين من ملوك الترك المماليك بالديار المصرية، والرابع من الشراكسة وأولادهم، أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق، اشتراه من أستاذه الخواجا محمود شاه البرزي في سنة 782، وبرقوق يوم ذاك أتابك العساكر بالديار المصرية قبل سلطنته، وكان عمر شيخ يوم اشتراه الملك الظاهر نحو اثنتي عشرة سنة تخمينًا، وجعله برقوق من جملة مماليكه، ثم أعتقه بعد سلطنته. تولى المؤيد شيخ السلطنة سنة 815 بعد خروجه هو والأمير ونوروز على السلطان الناصر فرج ابن السلطان برقوق فتغلَّبا عليه فخلعوه ثم قتلوه، وتولى الخليفة المستعين بالله السلطنة ثم خلعه الأمير شيخ وأخذ البيعة لنفسه, وتلقَّب بالسلطان الملك المؤيد شيخ, ثم ثار عليه صاحبه نوروز ونائبه على دمشق سنة 816 فتغلب عليه المؤيد وقَتَله, وفي شوال من السنة الماضية أخذ المؤيد البيعةَ لابنه أحمد وهو لا يزال رضيعًا, وفي مستهل المحرم من هذه السنة لازم السلطان المؤيد الفراش، وقد أفرط به الإسهالُ الدموي مع تنوُّع الأسقام وتزايُد الآلام، بحيث إنه لم يبق مرض من الأمراض حتى اعتراه، غير أنه صحيح العقل والفهم طَلِقَ اللسان، وقد اشتد الأمر بالسلطان من الآلام والإرجاف تتواتر بموته، والناس في هرج إلى أن توفي قبيل الظهر من يوم الاثنين تاسع المحرم فارتجَّ الناس لموته ساعة ثم سكنوا، وطلع الأمراء القلعة وطلبوا الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة والأعيان لإقامة الأمير أحمد بن السلطان المؤيد في السلطنة، وكان أبوه قد عهد له بذلك، فخلع عليه فتسلطَنَ ثم أخذوا في تجهيز السلطان الملك المؤيد وتغسيله وتكفينه، وصلِّيَ عليه خارج باب القلعة، وحُمِل إلى الجامع المؤيدي فدُفِن بالقبة قبيل العصر، ولم يشهد دفنه كثير من الأمراء والمماليك لتأخُّرهم بالقلعة، ومات وقد أناف على الخمسين، وكانت مدة ملكه ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام، أما السلطان الجديد أحمد بن المؤيد شيخ وعمره سنة واحدة وثمانية أشهر وسبعة أيام، فأُركب على فرس من باب الستارة، فبكى وساروا به وهو يبكي إلى القصر، حيث الأمراء والقضاة والخليفة، فقبَّلوا له الأرضَ، ولقَّبوه بالملك المظفر أبي السعادات، وقام الأمير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا -مربي- السلطان وكافله!!
في سابع شهر صفر قدم الخبر بأن الأمير جقمق نائب الشام أخذ قلعة دمشق واستولى على ما فيها من الأموال وغيرها، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهلُ الدولة؛ وذلك لما بلغه من أن الأمير ططر قام بأمور السلطنة كلها وتفرد بها، وفي ثامن عشر ربيع الآخر قدم الخبر بأن عساكر دمشق برزت منها، وأنها نزلت باللجون، فركب الأمير ططر في يوم الثلاثاء التاسع عشر من قلعة الجبل ومعه السلطان الملك المظفر أحمد والأمراء، يريد السفر إلى الشام، ونزل بهم في المخيم ظاهر القاهرة، وخرج الناس أفواجًا في إثره، وأصبح يوم الأربعاء الأمير تنبك ميق راحلًا، ومعه عدة من الأمراء وغيرهم، ثم استقل الأمير ططر بالمسير ومعه السلطان والخليفة وبقية العسكر في يوم الجمعة الثاني والعشرين، وفي يوم الأحد ثاني شهر جمادى الأولى دخل الأمير ططر بالسلطان إلى غزة، فقدم إليه طائعًا كثيرٌ ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبان أمير أخور أحد المجردين إلى حلب في أيام المؤيد، والأمير أينال نائب حماة، فسُرَّ بهم، وأنعم عليهم، وفرَّ ممن كان معهم الأمير مقبل الدوادار في طائفة يريد دمشق، فلما كان في يوم الاثنين ثالثه: بلغ القرمشي عن جقمق بأنه يريد أن يقبض عليه، فبادر القرمشي إلى محاربته، وركب في جماعته بآلة الحرب، ووقف بهم تجاه القلعة، وقد رفع الصنجق السلطاني، فأتاه جماعة عديدة راغبين في الطاعة، وكانت بينه وبين جقمق وقعة طول النهار، فانكسر جقمق ومضى هو والأمير طوغان أمير أخور والأمير مقبل الدوادار في نحو الخمسين فارسًا إلى جهة صرخد، وأن القرمشي استولى على مدينة دمشق وتقدم إلى القضاة والأعيان أن يتوجهوا إلى ملاقاة السلطان، فقدموا إلى العسكر، وسار الأمير ططر بمن معه إلى دمشق، فدخلها بكرة يوم الأحد الخامس عشر، وأول ما بدأ به أن قبض على القرمشي والمرقبي وجرباش، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار المؤيد، وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس كان بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الإسطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور، فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما، وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشر شعبان، وأنه قدم بهم إلى دمشق في الثالث والعشرين، فقتل جقمق نائب الشام.
في عاشر شهر صفر جمع الأميرُ الكبير ططر عنده بالأشرفية من القلعة قضاةَ القضاة وأمراء الدولة ومباشريها، وكثيرًا من المماليك السلطانية، وأعلَمَهم بأن نواب الشام والأمير ألطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمل بعد موت المؤيد، ولا بد للناس من حاكم يتولى تدبيرَ أمورهم، ولا بد أن يعيِّنوا رجلًا ترضَونه؛ ليقوم بأعباء المملكة ويستبد بالسلطنة، فقال الجميع: قد رضينا بك، وكان الخليفة حاضرًا فيهم، فأشهد عليه أنَّه فوض جميع أمور الرعية إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه ولاية من يرى ولايته، وعزل من يريد عزله من سائر الناس، وأن يُعطي من شاء ما شاء، ويمنع من يختار من العطاء، ما عدا اللقب السلطاني، والدعاء له على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، فإن هذه الثلاثة أشياء باقية على ما هي عليه للملك المظفَّر، وأثبت قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني هذا الإشهاد، وحكم بصحته، ونفذَ حكمه قضاة القضاة الثلاثة، ثم حلف الأمراء للأمير الكبير يمينهم المعهودة.
كانت حربٌ بمدينة فاس من بلاد المغرب بين أبي زيان محمد بن أبي طريق بن أبي عنان, وقد قام بأمر الحرب الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر على الوزير الحاجب عبد العزيز اللباني لقتله السلطان أبا سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد وثلاثة عشر أميرًا من إخوته وأولاده وبني إخوته, وكان اللباني قد استنصر بالشاوية، وبعث إليهم بمال كبير، فأتوه، فلم يطق الحلفاوي مقاومتهم، فأُدخل اللباني مدينة فاس بجموعه، وألويته منشورة على رأسه، وأنزله دار الحرة آمنة بنت السلطان أبي العباس أحمد، فرحل الشاوية عن المدينة، ثم قُبِضَ على اللباني، وأُسلِمَ إلى الحلفاوي، فدخل السلطان أبو زيان فاس الجديد في ربيع الآخر، وبعث بالسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد إلى الأندلس، فما كان سوى شهر حتى ثار بنو مرين على أبي زيان، وحصروه، وطلبوا الوزير أبا البقاء صالح بن صالح أن يحمل أبا عبد الله محمد المتوكل ابن السلطان أبي سعيد، فقدم الوزير به، واستمرت الحرب أربعة أشهر إلى أن فر أبو زيان ووزيره فارح، وأخذ بنو مرين البلد الجديد، وطلبوا من ابن الأحمر أن يبعث بالسلطان الكبير أبي عبد الله محمد المستنصر بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، فبعثه إليهم، فملكوه وأطاعوه.
لما انتهى الأمير ططر من أمر جقمق في دمشق وكان هو المتولي لكل أمور السلطنة، عزم على خلع المظفر من السلطنة، وخاصة أنه يراه صغيرًا جدًّا على هذا الأمر، فخلعه في التاسع والعشرين شعبان وهو في دمشق، فكانت مدة سلطنة السلطان المظفر أحمد بن المؤيد شيخ سبعة أشهر وعشرين يومًا، وتلقب السلطان الجديد بالظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري، وخُطِب له من يومه على منابر دمشق، وكُتِب إلى مصر وحلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد وغزة بذلك.
بعد أن تولى السلطان مراد الثاني سلطنة الدولة العثمانية، طلب منه إمبراطور القسطنطينية إيمانويل أن يتعهد له بعدم محاربته مطلقًا وأن يسلمه اثنين من إخوته تأمينًا على نفاذ هذا التعهد وتهدده بإطلاق سراح عمه مصطفى بن بايزيد ولَمَّا لم يجبه مراد الثاني لطلبه أخرج مصطفى من منفاه وأعطاه عشرة مراكب حربية تحت إمرة دمتريوس لاسكاريس, فحاصر بها مدينة غاليبولي فسُلِّمَت إلا القلعة فتركها مصطفى بعد أن أقام حولها من الجند ما يكفي لمنع وصول المدد إليها وسار ببقية جيشه قاصدًا أدرنه، فخرج الوزير بايزيد باشا لمحاربته فتقدم مصطفى وخطب في العساكر بإطاعته؛ لأنه أحق بالملك من ابن أخيه فأطاعته الجيوش وقتلت بايزيد باشا قائدهم فسار مصطفى بعد ذلك لمقابلة ابن أخيه مراد الثاني الذي كان متحصنًا مع من معه من الجنود خلف نهر صغير، وهناك خان مصطفى بعضُ قواده فتركه أغلبُ جنوده حتى التزم الهروبَ إلى مدينة جاليبولي فسلَّمه بعض أتباعه إلى ابن أخيه مراد الثاني فأمر بشنقِه.
هو الملِكُ الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري الشركسي, ربَّاه بعض التجار، وعلَّمه شيئًا من القرآن وفِقهَ الحنفية، وقَدِمَ به القاهرة في سنة 801، وهو صبيٌّ، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر برقوق فيه حتى أخذه من تاجره، ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الظاهر برقوق أعتقه بسفارة الأمير جرباش الشيخي. بعد وفاة الملك المؤيد شيخ بويعَ ابنُه الملك المظفر أحمد، وقام الأمير الكبير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا -مربي- للسلطان وكافله. ثم عزل ططر المظفر أحمد؛ لصِغَر سنِّه، وأخذ البيعة بالسلطنة لنفسه, وفي أول ذي الحجة يوم الخميس زاد مرض السلطان الظاهر ططر، والإرجاف بمرضه كبير، ثم في يوم الجمعة استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا -مربي السلطان- فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعَه توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غُسِّل وأخرج من باب السلسلة، وليس معه إلا نحو العشرين رجلًا، حتى دُفن بجوار الليث بن سعد من القرافة، فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهرًا تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يومًا، أما السلطان الجديد فهو محمد بن الظاهر ططر أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه، وفي يوم الأحد رابع ذي الحجة من هذه السنة اجتمع الأمراء بالقلعة إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقَّبوه بالملك الصالح ناصر الدين، وفوَّض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمورَ المملكة بأسرها؛ ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رُشدَه، وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.
لما كان يوم ثامن عشر ذي الحجة ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي المؤيدي نائب حلب المعروف بأخي قصروه- خرج عن طاعة السلطان، وقبض على الأمراء الحلبيين، واستدعى التركمان والعربان، وأكثر من استخدام المماليك، وسببُ خروجه عن الطاعة أنه بلغه أن الملك الظاهر ططر عزَلَه، وأقرَّ عِوَضَه في نيابة حلب الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس، فلما تحقق ذلك خرج عن الطاعة وفعل ما فعل، فشاور الأمير برسباي الأمراءَ في أمره، فوقع الاتفاقُ على أن يكتب الأمير تنبك البجاسي بالتوجُّه إليه وبصحبته العساكر، وقتاله، وأخذ مدينة حلب عنوة، وباستقراره في نيابتها كما كان الملك الظاهر ططر أقره، وكتب له بذلك، ثم في يوم الأحد ثالث محرم سنة 825 ورد الخبر إلى الديار المصرية بفرار الأمير تغري بردي المؤيدي من حلب بعد وقعة كانت بينه وبين تنبك البجاسي المنتَقِل عِوَضَه إلى نيابة حلب.
ما زال برسباي قائمًا بتدبير أمر الدولة، ثم أحَبَّ أن يُطلَق عليه اسمُ السلطان لما خلا له الجو؛ فإنه كان ينافسه جنبك الصوفي، وقد استطاع طرباي التخلص منه، ثم استطاع برسباي بمكيدة كذلك التخلص من طرباي وسجنه، ولما تم أمر الأمير برسباي فيما أراد من القبض على الأمير طرباي والاستبداد بالأمر، أخرج الأمير سودون الحموي منفيًّا إلى ثغر دمياط، ثم أخذ في إبرام أمره ليترقى إلى أعلى المراتب، فلم يلقَ في طريقه من يمنعه من ذلك، وساعده في ذلك موت الأمير حسن بن سودون الفقيه خال الملك الصالح محمد بن ططر في يوم الجمعة الثالث عشر صفر، فإنه كان أحد مقدمي الألوف وخال السلطان الملك الصالح، وكان جميع حواشي الملك الظاهر ططر يميلون إليه، فكُفِيَ الأمير برسباي همَّه أيضًا بموته، فلما رأى برسباي أنَّه ما ثَمَّ عنده مانع يمنعه من بلوغ غرضه بالديار المصرية، خَشِيَ عاقبة الأمير تنبك ميق نائب الشام، وقال: لا بدَّ من حضوره ومشورته فيما نريد فِعلَه، فندب لإحضاره الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير إبراهيم ابن الأمير منجك اليوسفي، فحضر ثم خلا به الأمير برسباي وتكلم معه واستشاره فيمن يكون سلطانًا؛ لأن الديار المصرية لا بد لها من سلطان تجتمع الناس على طاعته، ثم قال له: وإن كان ولا بد فيكون أنت، فإنك أغاتنا وكبيرنا وأقدَمنا هجرةً، فاستعاذ الأمير تنبك من ذلك وقام في الحال، وقَبَّل الأرض بين يديه، وقال: ليس لها غيرك، فشكر له الأمير برسباي على ذلك، ثم اتفق جميع الأمراء على سلطنته، وخلع الملك الصالح محمد بن ططر من السلطنة، فوقع ذلك يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر، فكانت مدة حكم الملك الصالح أربعة أشهر وثلاثة أيام, وتم الخلع بموافقة نائب الشام على ذلك، واستُدعِيَ الخليفة والقضاة، وقد جُمع الأمراء وأرباب الدولة، فبايعه الخليفة في هذا اليوم الأربعاء، ولُقِّبَ بالملك الأشرف أبي العز، ونودي بذلك في القاهرة ومصر، وهو السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري، وأصل الملك الأشرف هذا شركسي الجنس، وجُلِب من البلاد فاشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية، وأقام عنده مدة، ثم قدمه إلى الملك الظاهر برقوق في عدة مماليك أخر، ثم أعتقه السلطان الظاهر برقوق.
أول ما بدأ به الأشرف في سلطنته أنَّه منع الناس كافةً من تقبيل الأرض بين يديه، فامتنعوا من ذلك، وكانت عادةُ تقبيل الأرض جرت بالديار المصرية من أيام المعزِّ معد أول خلفاء بني عُبَيد بمصر، وبقيت إلى يوم تاريخه، وكان لا يُعفى أحد عن تقبيل الأرض، والكل يُقَبِّل الأرض: الوزير والأمير والمملوك وصاحب القلم ورسل ملوك الأقطار، إلا قضاة الشرع وأهل العلم وأشراف الحجاز! حتى لو ورد مرسوم السلطان على ملك من نواب السلطان قام على قدميه وخرَّ إلى الأرض وقبَّلها قبل أن يقرأ المرسوم، فأبطل الملك الأشرف برسباي ذلك وجعل بدلَه تقبيل اليد، فمشى ذلك أيامًا، ثم عاد تقبيل الأرض لكن بطريق أحسن من الأولى؛ فإن الأولى كان الشخص يخرُّ إلى الأرض حتى يقبِّلَها كالساجد، والآن صار الرجل ينحني كالراكع ويضع أطرافَ أصابع يده على الأرض كالمقَبِّل، ثم يقوم ولا يقبِّل الأرضَ بفَمِه أبدًا، بل ولا يَصِلُ بوجهه إلى قريب الأرض، فهذا على كل حال أحسنُ مما كان أولًا!
في يومِ الخميس ثامن جمادى الأولى صدر مرسوم السلطان الملك الأشرف بألَّا يُستخدَم أحد من اليهود ولا من النصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، ونودِيَ بذلك في القاهرة، وصَمَّم الأشرف على ذلك، فلم يسلَمْ من اعتراض بعض عظماء الأقباط من مباشري الدولة، فلم يتِمَّ له ذلك.
بعد أن تولى مراد الثاني السلطنة خلفًا لأبيه محمد جلبي رأى أنَّ عليه أن يعيد الإمارات في الأناضول إلى حظيرة الدولة العثمانية، فعَقَد هدنة مع ملك المجر مدتها خمس سنوات، وصالح أمير قرمان، وأمَّا إمبراطور القسطنطينية فطلب من مراد الثاني التعهُّدَ بعدم قتاله، وطلب منه أن يسلِّمَه اثنين من إخوته كرهائن، وأنه إذا فكر بالحرب فسيطلق سراح عم السلطان مصطفى بن بايزيد المحجوز في سلانيك، وهو المنافس لمراد الثاني في السلطنة، فرفض مراد هذا الشرط فأطلق الإمبراطور مصطفى بن بايزيد ودعمه بعشرات المراكب لحصار مدينة غاليبولي، فلم يتمكن مصطفى من مراده, فاتجه نحو أدرنة بعد أن ترك قوة محاصرة لقلعة غاليبولي، وفي أدرنة واجهه القائد بايزيد باشا فقاتله فقتله مصطفى وتابع سيره إلى مراد، ولكن كثيرًا من الأمراء الذين كانوا معه لم يطيعوه فتركوه، فعاد إلى غاليبولي؛ حيث قُبِضَ عليه فيها وقُتِلَ؛ انتقامًا لِما فعله الإمبراطور القسطنطيني.
لما تخلص مراد الثاني من عمه مصطفى بن بايزيد الذي دعمه إمبراطور القسطنطينية سار في شهر رجب من بورصا إلى اسطنبول ( قسطنطينية) ونزل عليها أول شعبان، وقطع عامة أشجارها، ومنع عنها الميرة، حتى فرغ شهر رمضان من غير حرب، سوى مرة واحدة في يوم الجمعة ثالث رمضان، فإنه زحف على المدينة فكان بينه وبين أهلها حرب شديدة، فتخلى عنه عسكره، وبينما هو في ذلك إذ جاءه أخوه مصطفى، وكان في مملكة محمد باك بن قرمان، فتفرق عن مراد عسكره، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفًا، حتى بقي في زهاء عشرين ألفًا، والتجأ مصطفى إلى اسطنبول، وواقفَ مرادًا نحو شهر، وقد عجز عنه مراد لمخالفة عسكرِه عليه.