عاد المأمونُ إلى بلاد الروم في هذه السَّنة بعد أن كان سار إليهم أوَّلَ السَّنة الماضية، وسببُ ذلك أنَّه بلغه أنَّ مَلِكَ الرومِ قتلَ ألفًا وستَّمائة مِن أهل طرسوس والمصيصة، فسار حتى دخل أرضَ الروم، وقيل كان سببُ دُخولِه إليها أنَّ مَلِكَ الرومِ كتب إليه وبدأ بنَفسِه، فسار إليه، ولم يقرأ كتابَه، فلمَّا دخل أرضَ الرومِ أناخ على أنطيغو، فخرجوا على صُلْحٍ، ثم سار إلى هرقلة، فخرج أهلُها على صلحٍ، ووجَّه أخاه أبا إسحاقَ المعتَصِم، فافتتح ثلاثينَ حِصنًا ومطمورةً، ووجَّه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وأحرَقَ، فأصاب سبيًا ورجع؛ ثم سار المأمونُ إلى كيسوم، فأقام بها يومين، ثم ارتحل إلى دمشق.
انتفض الوجهُ البحري بمصرَ بزعامة عبدوس الفهري وانضم الأقباطُ إليهم، وحَشَدوا وجمعوا فكثُرَ عددُهم وساروا نحو الديارِ المصرية، فتجهَّزَ عيسى بن منصور وجمعَ العساكِرَ والجندَ لقتالهم، فضَعُف عن لقائِهم وتقهقر بمن معه، فدخلت الأقباطُ وأهل الغربيَّة مصرَ، وأخرجوا منها عيسى هذا على أقبَحِ وجهٍ؛ لسُوءِ سِيرتِه، وخرج معه أيضًا مُتولِّي خَراجِ مِصرَ وخلعوا الطاعةَ، فقدم الأفشين حيدر بن كاوس من بُرقةَ وتهيَّأ لقتال القوم، وانضمَّ إليه عيسى بنُ منصور ومن انضاف إليه، وتجمَّعوا وتجهَّزوا لقتال القوم وواقعوهم فظَفِروا بهم بعد أمورٍ وحروبٍ، وأسَروا وقَتَلوا وسَبَوا، ثم مضى الأفشين إلى الحوفِ وقاتَلَهم أيضًا لِمَا بلغه عنهم، وبدَّدَ جَمعَهم وأسَرَ منهم جماعةً كبيرةً بعد أن بضعَ فيهم وأبدَع، ودامت الحروبُ في السنة المستمرة بمصرَ في كل قليلٍ إلى أن قَدِمَها أميرُ المؤمنين عبد الله المأمونُ لخَمسٍ خلون من المحرَّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسَخِطَ على عيسى بن منصور وحَلَّ لواءه وعزَلَه ونسب له كلَّ ما وقع بمصرَ ولِعُمَّاله؛ ثم جهَّزَ العساكِرَ لقِتالِ أهلِ الفساد، وأحضرَ بين يديه عبدوس الفهري فضُرِبَت عنُقُه ثم سار عسكرُه لقتال أسفَلِ الأرضِ أهلِ الغربيَّة والحوف، وأوقعوا بهم وسَبَوا القبطَ وقتلوا مقاتِلَتَهم وأبادوهم، وقمعوا أهلَ الفسادِ مِن سائِرِ أراضي مصرَ بعد أن قتَلوا منهم مقتلةً عظيمةً، ثم رحل الخليفةُ المأمون من مصر.
كتب المأمونُ إلى نائِبِه ببغداد إسحاقَ بنِ إبراهيم أن يأخُذَ الجندُ بالتكبيرِ إذا صَلَّوا الجمعةَ، وبعد الصَّلواتِ الخَمسِ إذا قَضَوا الصلاةَ أن يَصيحوا قيامًا ويكَبِّروا ثلاثَ تكبيراتٍ، ففعل ذلك، فقال الناسُ: هذه بدعةٌ ثالثة.
ركِبَ المأمون إلى بلاد الروم فحاصر حِصنَ لؤلؤةَ مائة يومٍ، ثم ارتحلَ عنها واستخلف على حصارِها عجيف بن عنبسة، فخدعته الرومُ فأسَروه فأقام في أيديهم ثمانيةَ أيام، ثم انفَلَت منهم واستمَرَّ محاصِرًا لهم، فجاء توفيل ملِكُ الروم بنفسِه، فأحاط بجيشِه من ورائه، فبلغ المأمونَ فسار إليه، فلمَّا أحس توفيل بقدومِه هرب وبعث وزيرَه صنغل، فسأله الأمانَ والمصالحةَ، لكنَّه بدأ بنَفسِه قبل المأمون فرَدَّ عليه المأمونُ كتابًا بليغًا مضمونُه التقريعُ والتوبيخُ؛ قال فيه: وإنِّي إنما أقبل منك الدخولَ في الحنيفيَّة، وإلَّا فالسيفُ والقَتلُ، والسلامُ على من اتَّبع الهُدى.
كان المأمونُ استعمل عليَّ بنَ هِشامٍ على أذربيجان وغيرها، فبلغه ظُلمُه، وأخذُه الأموالَ، وقتلُه الرجالَ، فوجَّهَ إليه عجيف بن عنبسة، فثار به عليُّ بن هشام، وأراد قَتْلَه واللَّحاقَ ببابك، فظَفِرَ به عجيف، وقَدِمَ به على المأمونِ، فقتَلَه وقتل أخاه حبيبًا، وطِيفَ برأسِ عليٍّ في العراقِ وخراسان، والشام ومِصرَ، ثم ألقيَ في البحرِ.
لم يكتَفِ المأمونُ باعتناقِ مسألةِ القَولِ بخلقِ القرآن، بل كتب إلى عمَّالِه في الأمصارِ بامتحانِ العُلَماءِ في هذه المسألة من أجاب وإلَّا كان العقابُ، وربَّما بطانتُه من العلماء كانوا وراء هذا الامتحان، فكتب المأمونُ إلى نائبه ببغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مُصعَب يأمُرُه أن يمتَحِنَ القُضاةَ والمحَدِّثين بالقَولِ بخَلقِ القرآن، وأن يرسل إليه جماعةً منهم، وكتب إليه يستحِثُّه في كتابٍ مُطَوَّل، وكتب غيره مَضمونُها الاحتجاجُ على أنَّ القرآنَ مُحدَثٌ، وكُل مُحدَث مخلوقٌ، وهذا احتجاجٌ لا يوافِقُه عليه كثيرٌ مِن المتكلِّمينَ فَضلًا عن المحدِّثينَ؛ فإنَّ القائلينَ بأنَّ الله تعالى تقوم به الأفعالُ الاختياريَّة لا يقولونَ بأنَّ فِعلَه تعالى القائِمَ بذاتِه المقَدَّسة، مخلوقٌ، بل لم يكن مخلوقًا، بل يقولون: هو محدَثٌ وليس بمخلوق، بل هو كلامُ اللهِ القائِمُ بذاته المقدَّسة، وما كان قائمًا بذاته لا يكون مخلوقًا، وقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال تعالى، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فالأمر بالسجودِ صدر منه بعد خلقِ آدم، فالكلامُ القائمُ بالذاتِ ليس مخلوقًا، والمقصودُ أن كتاب المأمونِ لَمَّا ورد بغدادَ قُرئ على الناس، وقد عيَّنَ المأمون جماعةً مِن المحدِّثينَ لِيُحضِرَهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلِم المُستملي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن مَعين، وأبو خيثمة زُهير بن حرب، وإسماعيلُ بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فبُعِثَ بهم إلى المأمونِ في الرقَّة، فامتحنهم بخلْقِ القرآنِ، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقتَه وهم كارهون، فردَّهم إلى بغداد وأمرَ بإشهارِ أمرِهم بين الفُقَهاء، ففعل إسحاقُ ذلك وأحضر خَلقًا من مشايخِ الحديثِ والفُقَهاءِ وأئمَّة المساجد وغيرِهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمرِ المأمون، وذكَرَ لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجابوا بمِثلِ جواب أولئك موافقةً لهم، ووقَعَت بين الناس فتنةٌ عظيمةٌ. ثم كتب المأمونُ إلى إسحاق أيضًا بكتابٍ ثانٍ يستدِلُّ به على القولِ بخَلقِ القُرآنِ بِشُبَهٍ من الدلائِلِ لا تحقيقَ تحتها ولا حاصلَ لها، بل هي من المُتشابِه، وأورد من القرآنِ آياتٍ هي حُجَّةٌ عليه، وأمَرَ نائبه أن يقرأ ذلك على النَّاسِ وأن يَدعُوَهم إليه وإلى القَولِ بخلقِ القرآن، فأحضَرَ أبو إسحاق جماعةً من الأئمَّة؛ منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقُتَيبة، وعليُّ بن الجعْد، وغيرهم، وقال لبشرٍ: ما تقولُ في القرآن؟ قال: القرآنُ كلامُ الله، قال: لم أسألْك عن هذا، أمخلوقٌ هو؟ قال: الله خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، قال: والقرآنُ شَيءٌ؟ قال: نعم، قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: ليس بخالقٍ، قال: ليس عن هذا أسألُك، أمخلوقٌ هو؟ قال: ما أُحسِنُ غيرَ ما قلْتُ لك. قال إسحاقُ للكاتب: اكتُبْ ما قال، ثم سأل غيرَه وغيره ويجيبونَ بنَحوِ جوابِ بِشرٍ. من أنه يقالُ: لا يُشبِهُه شيءٌ مِن خَلقِه في معنًى من المعاني، ولا وجهٍ مِن الوجوهِ، فيقول: نعم، كما قال بِشرٌ. ثم سأل قتيبةَ، وعُبيد الله بن محمَّد، وعبد المنعم بن إدريس بن نبت، ووهب بن منبه وجماعةً، فأجابوا أنَّ القرآنَ مجعولٌ؛ لِقَولِه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} والقرآنُ مُحدَثٌ لِقَولِه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}. قال إسحاق: فالمجعولُ مَخلوقٌ، قالوا: لا نقولُ مخلوقٌ، لكن مجعولٌ. فكتب مقالَتَهم ومقالةَ غَيرِهم إلى المأمونِ.
بعد أن أحضر إسحاقُ بنُ إبراهيمَ العُلَماءَ والمحدِّثينَ لامتحانِهم، كان مِن بينهم الإمامُ أحمَدُ، ومحمدُ بنُ نوح، وغيرُهم كثيرٌ، ولَمَّا انتهت النوبةُ إلى امتحانِ الإمامِ أحمَدَ بنِ حنبَل، قال له: أتقولُ إنَّ القرآنَ مَخلوقٌ؟ فقال: القرآنُ كلامُ اللهِ، لا أزيدُ على هذا، فقال له: ما تقولُ في هذه الرُّقعةِ؟ بالرقعةِ التي وافَقَ عليها قاضي القُضاةِ بِشرُ بن الوليد الكِندي، فقال: أقولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقال رجلٌ من المعتزلة: إنَّه يقولُ: سَميعٌ بأذُنٍ، بصيرٌ بعَينٍ! فقال له إسحاقُ: ما أردتَ بقَولِك: سَميعٌ بصيرٌ؟ فقال: أردتُ منها ما أراده اللهُ منها؛ وهو كما وصف نفسَه، ولا أزيدُ على ذلك. فكتب جواباتِ القَومِ رَجُلًا رجلًا وبعثَ بها إلى المأمون، فلما وصَلَت جواباتُ القوم إلى المأمونِ، بعث إلى نائبه يمدَحُه على ذلك ويرُدُّ على كلِّ فَردٍ ما قال في كتابٍ أرسَلَه. وأمر نائِبَه أن يمتَحِنَهم أيضًا فمن أجاب منهم شُهِرَ أمرُه في الناس، ومن لم يجِبْ منهم فابعَثْه إلى عسكَرِ أميرِ المؤمنين مقيَّدًا مُحتَفِظًا به حتى يصِلَ إلى أميرِ المؤمنين فيرى فيه رأيَه، ومِن رأيِه أن يضرِبَ عُنُقَ مَن لم يقُلْ بِقَولِه. فعند ذلك عقد النائبُ ببغداد مجلسًا آخر وأحضر أولئك، وفيهم إبراهيمُ بنُ المهدي، وكان صاحبًا لبِشرِ بنِ الوليد الكندي، وقد نصَّ المأمونُ على قتلِهما إن لم يُجيبا على الفَورِ، فلما امتحنَهم إسحاقُ أجابوا كلُّهم مُكرَهينَ متأوِّلينَ قَولَه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} إلَّا أربعةً، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمَّد بن نوح، والحسَنُ بن حمَّاد سجادة، وعُبيد الله بن عمر القواريري. فقيَّدَهم وأرصدهم ليبعَثَ بهم إلى المأمونِ، ثم استدعى بهم في اليومِ الثاني فامتحَنَهم فأجاب سجادة إلى القولِ بذلك فأُطلِقَ. ثم امتحَنَهم في اليوم الثالثِ فأجاب القواريريُّ إلى ذلك فأُطلِقَ قَيدُه، وأَخَّرَ أحمدَ بنَ حَنبل ومحمَّدَ بن نوحٍ الجندُ؛ لأنَّهما أصرَّا على الامتناعِ من القول بذلك، فأكَّدَ قيودَهما وجمَعَهما في الحديدِ، وبعَثَ بهما إلى الخليفةِ وهو بطرسوس، وكتب كتابًا بإرسالهما إليه. فسارا مُقَيَّدينِ في محارة على جمَلٍ متعادِلَينِ- رَضِيَ الله عنهما- وجعل الإمامُ أحمد يدعو الله عزَّ وجَلَّ ألَّا يجمَعَ بينهما وبين المأمونِ، وألَّا يَرَياه ولا يراهما، ثمَّ جاء كتابُ المأمونِ إلى نائبِه أنَّه قد بلغني أنَّ القومَ إنما أجابوا مُكرَهينَ متأوِّلينَ قَولَه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} وقد أخطؤوا في تأويلِهم دلك خطأً كبيرًا، فأرسَلَهم كلَّهم إلى أميرِ المؤمنين. فاستدعاهم إسحاقُ وألزَمَهم بالمسيرِ إلى طرسوس فساروا إليها، فلمَّا كانوا ببعض الطريقِ بلَغَهم موتُ المأمونِ، فرُدُّوا إلى الرقَّةِ، ثمَّ أُذِنَ لهم بالرجوعِ إلى بغداد، فاستجاب اللهُ سبحانَه دُعاءَ عَبدِه ووَلِيِّه الإمامِ أحمَدَ بنِ حَنبل.
وجَّه زيادةُ اللهِ بنُ الأغلب، صاحِبُ إفريقية، جيشًا لمحاربةِ فضل بن أبي العنبر بجزيرة شريك، وكان مخالفًا لزيادةِ الله، فاستمَدَّ فَضلٌ بعبد السلامِ بن المفرج الربعي، وكان أيضًا مخالفًا مِن عَهدِ فِتنةِ منصور الترمذي، فسار إليه، فالتَقَوا مع عسكر زيادة الله، وجرى بين الطائفتينِ قِتالٌ شديدٌ عند مدينة اليهود بالجزيرة، فقُتِلَ عبد السلام، وحُمِلَ رأسُه إلى زيادة الله، وسار فضلُ بن أبي العنبر إلى مدينة تونس، فدخلها وامتنَعَ بها، فسَيَّرَ زيادةُ الله إليه جيشًا، فحصروا فضلًا بها وضَيَّقوا عليه حتى فتَحُوها منه، وقُتِلَ وقت دخولِ العَسكرِ كثيرٌ مِن أهلِها، وهرب كثيرٌ مِن أهل تونس لَمَّا مُلِكَت، ثم آمَنَهم زيادة الله، فعادوا إليها.
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ. شيخُ المعتزلة، وأحدُ من أضَلَّ المأمونَ، كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) .نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ .وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ.
هو أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوبَ المعافري، العلَّامةُ النَّحويُّ الأَخباريُّ، أبو محمد الذهلي السَّدوسي، وقيل: الِحمْيري المعافري البصري، نزيلُ مصر، هذَّبَ السيرةَ النبويَّةَ لابنِ إسحاقَ مُصَنِّفِها. سمعها مِن زياد البكائي صاحِبِ ابنِ إسحاق, وإنما نُسِبَت إليه، فيقال سيرةُ ابن هشام؛ لأنه هذَّبَها وزاد فيها ونقَصَ منها، وحَرَّر أماكِنَ، واستدرك أشياءَ، وكان إمامًا في اللغة والنحو، وقد كان مقيمًا بمصرَ، واجتمع به الشافعيُّ حين وردها، وتناشدَا من أشعارِ العرب شيئًا كثيرًا. كانت وفاتُه بمصر.
وجَّه المأمونُ ابنَه العبَّاسَ إلى أرضِ الرومِ وأمَرَه بنزول الطوانةِ وبنائِها، وكان قد وجَّه الفَعَلةَ والفُروضَ، فابتدأ البناءَ وبناها ميلًا في ميلٍ، وجعل سورَها على ثلاثةِ فراسِخَ، وجعل لها أربعةَ أبواب، وبنى على كلِّ بابٍ حِصنًا.
هو أبو العبَّاسِ عبدُ الله بن هارون الرَّشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور المأمون العباسي. وُلِدَ سنة سبعين ومائة, واسمُ أمِّه: مراجل ماتت في نفاسِها به. قرأ العلمَ والأدبَ والأخبارَ، والعقليَّات وعلومَ الأوائل، وأمرَ بتعريبِ كُتُبِهم، وبالغ في تعريبها، وعَمِلَ الرصدَ فوق جبل دمشق، ودعا إلى القولِ بخَلْقِ القرآنِ وامتحنَ العُلَماءِ به. كان ذا حَزمٍ وعزمٍ، ورأيٍ وعقلٍ، وهيبةٍ وحِلمٍ، ومحاسِنُه كثيرةٌ في الجملة. كان أبيضَ رَبْعةً حسَنَ الوجهِ، تعلوه صُفرةٌ، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان طويلَ اللِّحيةِ أعيَنَ ضَيِّقَ الجبينِ، على خَدِّه شامةٌ. أتته وفاةُ أبيه وهو بمروٍ سائرًا لغزو ما وراء النهرِ، فبُويِعَ مِن قِبَلِه لأخيه الأمينِ، ثم جرت بينهما أمورٌ وخُطوبٌ، وبلاءٌ وحروبٌ، إلى أن قُتِلَ الأمينُ، وبايع النَّاسُ المأمونَ في أوَّلِ سنةِ ثمان وتسعين ومائةٍ. كان متشيِّعًا فقد كانت كنيتُه أبا العباس، فلما استُخلِفَ اكتنى بأبي جعفرٍ، واستعمَلَ على العراق الحسَنَ بنَ سَهلٍ، ثم بايع بالعهدِ لعليِّ بنِ موسى الرضا ونَوَّه بذِكرِه، ونبَذَ السَّوادَ شِعارَ العباسيِّينَ، وأبدله بالخُضرة شعارِ العَلَويِّين. مرض المأمونُ مَرَضَه الذي مات فيه لثلاثَ عشرةَ خلَت من جُمادى الآخرة، فلمَّا مَرِضَ المأمونُ أمَرَ أن يُكتَبَ إلى البلادِ الكُتُب من عبد الله المأمونِ أميرِ المؤمنينَ، وأخيه الخليفةِ مِن بَعدِه أبي إسحاقَ محمَّد بن هارونَ الرشيد؛ وأوصى إلى المعتَصِم بحضرةِ ابنه العبَّاسِ، وبحضرة الفُقَهاء والقضاة والقُوَّاد، ثم بقيَ مريضًا إلى أن توفِّيَ قرب طرسوس ثم حمَلَه ابنُه العبَّاسُ، وأخوه المعتَصِمُ إلى طرسوس، فدفناه بدارِ خاقان خادِمِ الرَّشيد، وصلى عليه المعتَصِمُ، وكانت خلافتُه عشرينَ سنةً وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا.
هو أبو إسحاقَ محمَّدُ بن هارون الرشيد، بويعَ له بالخلافةِ بعد موتِ المأمونِ، ولَمَّا بويِعَ له شَغَّبَ الجندُ، ونادوا باسمِ العبَّاسِ بنِ المأمون، فأرسل إليه المعتَصِمُ، فأحضره فبايَعَه، ثم خرج العبَّاسُ إلى الجندِ، فقال: ما هذا الحبُّ البارِدُ؟ قد بايعتُ عَمِّي، فسكَتوا، وأمَرَ المعتَصِمُ بخرابِ ما كان المأمونُ أمَرَ ببنائِه من طوانة، وحَمْل ما أطاق من السِّلاحِ والآلة التي بها وأحرقَ الباقيَ، وأعاد النَّاسَ الذين بها إلى البلادِ التي لهم، ثم ركِبَ المعتَصِمُ بالجنودِ قاصِدًا بغداد، ومعه العبَّاسُ بن المأمون، فدخلها يومَ السبت مستهَلَّ شَهرِ رمضان في أبَّهةٍ عظيمةٍ وتجَمُّلٍ تامٍّ.
دخل كثيرٌ من أهل الجبال، وهمذان، وأصبهان، وماسبذان، وغيرِها في دين الخرميَّة، وتجمَّعوا فعَسكَروا في عمَلِ همذان، فوجَّه إليهم المعتَصِمُ العساكِرَ، وكان فيهم إسحاقُ بن إبراهيمَ بنِ مُصعَب، وعقَدَ له على الجبال، فسار إليهم، فأوقع بهم في أعمالِ همذان، فقتَلَ منهم ستين ألفًا وهرب الباقونَ إلى بلد الرومِ، وقرئ كتابُه بالفتح يوم الترويةِ.
ظهر محمَّدُ بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمَّد، وكان ابتداءُ أمرِه أنَّه كان ملازمًا مسجدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حسَنَ السِّيرةِ، فأتاه إنسانٌ من خراسان كان مجاورًا، فلما رآه أعجَبَه طريقُه، فقال له: أنت أحَقُّ بالإمامةِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وحَسَّنَ له ذلك وبايعه، وصار الخُراساني يأتيه بالنَّفَرِ بعد النفر مِن حُجَّاجِ خُراسان يبايعونه، فعل ذلك مُدَّةً. فلما رأى كثرةَ مَن بايعه من خراسانَ سارا جميعًا إلى الجوزجان، واختفى هناك، وجعل الخراساني يدعو النَّاسَ إليه، فعَظُم أصحابُه، وحمله الخراسانيُّ على إظهارِ أمْرِه، فأظهره بالطالقان، فاجتمع إليه بها ناسٌ كثير، وكانت بينه وبين قوَّادِ عبدِ الله بن طاهر وقَعاتٌ بناحيةِ الطالقان وجبالِها، فانهزم هو وأصحابه، وخرج هاربًا يريدُ بعضَ كور خراسان، وكان أهلُها كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والدُ بعضِ مَن معه، فلمَّا بَصُرَ به سأله عن الخبَرِ فأخبره، فمضى الأبُ إلى عامِلِ نسا فأخبَرَه بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامِلُ عشرةَ آلاف درهم على دَلالَتِه، وجاء العامِلُ إلى محمد، فأخذه واستوثَقَ منه، وبعثه إلى عبدِ الله بن طاهر، فسيَّرَه إلى المعتصم، فحُبِسَ عند مسرور الخادمِ الكبير، وأجرى عليه الطَّعامَ، ووكَلَ به قومًا يحفَظونَه، فلمَّا كان ليلةُ الفطرِ اشتغلَ النَّاسُ بالعيد، فهرب من الحبسِ، دُلِّيَ إليه حبلٌ مِن كوَّة كانت في أعلى البيتِ، يدخل عليه منها الضوءُ، فلما أصبحوا أتَوْه بالطعام، فلم يَرَوه، فجعلوا لِمَن دلَّ عليه مائة ألفٍ، فلم يُعرَف له خبَرٌ.
بعد أن كان الإمامُ أحمدُ قد قُيِّدَ وسِيرَ به إلى المأمونِ ثم عاد لبغداد لَمَّا وصلهم نبأُ وفاة المأمون، وتولى بعده المعتَصِمُ استمَرَّ على نفس الامتحان، فأحَضَره المعتَصِم وامتحنَه بالقولِ بخلقِ القُرآنِ فلم يُجِبْه الإمامُ أحمدُ، وكُلُّ ذلك وهو ثابِتٌ على قولِه: القرآنُ كَلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، فجُلِدَ جلدًا عظيمًا حتى غاب عقلُه، وتقَطَّعَ جِلدُه، وحُبِس مقيَّدًا- رحمه الله.
سيَّرَ عبدُ الرحمن بن الحكم، صاحِبُ الأندلُسِ، جيشًا مع أميَّةَ بنِ الحكَمِ إلى مدينةِ طُليطِلة، فحصَرَها، وكانوا قد خالفوا الحَكَم، وخرجوا عن الطاعة، واشتَدَّ في حصرهم، وقطَعَ أشجارَهم، وأهلك زروعَهم، فلم يُذعِنوا إلى الطاعة، فرحل عنهم، وأنزل بقَلعةِ رباح جيشًا عليهم ميسرةُ، المعروف بفتى أبي أيوب، فلما أبعدوا منه خرجَ جمعٌ كثيرٌ مِن أهل طليطلة؛ لعلَّهم يجدون فرصةً وغَفلةً مِن مَيسرةَ فينالوا منه ومن أصحابِه غَرضًا، وكان ميسرةُ قد بلغه الخبَرُ، فجعل الكمينَ في مواضِعَ، فلما وصل أهلُ طُليطِلة إلى قلعة رباح للغارة، خرج الكمينُ عليهم من جوانبهم، ووضعوا السيفَ فيهم، وأكثروا القتَلَ، وعاد مَن سَلِمَ منهم منهزمًا إلى طليطِلة، وجُمِعَت رؤوس القتلى، وحُمِلَت إلى ميسرة، فلما رأى كثرَتَها عَظُمَت عليه، وارتاع لذلك، ووجد في نفسِه غمًّا شديدًا، فمات بعد أيامٍ يَسيرةٍ. كما حَدَثت في هذه السَّنةِ فِتنةٌ كبيرةٌ بطُليطلة تُعرفُ بملحمةِ العراس، قُتِلَ مِن أهلِها كثيرٌ.
وجَّه المعتَصِمُ بالله عجيفَ بن عنبسة لحرب الزطِّ الذين كانوا غلَبوا على طريق البصرةِ، وعاثوا وأخذوا الغَلَّات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيلَ، ورتَّبَ عجيفٌ الخيلَ في كلِّ سكَّةٍ مِن سِكَكِ البريدِ، تركُضُ بالأخبارِ إلى المعتَصِم، فسار عجيف حتى نزل تحت واسط، وأقام على نهرٍ يقال له بردودا حتى سدَّه وأنهارًا أخَرَ كانوا يخرجون منها ويدخلون، وأخذ عليهم الطرُقَ، ثم حارَبَهم فأسَرَ منهم في معركةٍ واحدةٍ خمسَمائة رجلٍ، وقتل في المعركةِ ثلاثَمائة رجلٍ، فضرب أعناقَ الأَسرى، وبعث الرُّؤوسَ إلى بابِ المُعتَصِم. ثم أقام عجيف بإزاءِ الزطِّ خمسة عشر يوما فظَفِرَ منهم فيها بخلقٍ كثير، وكان رئيسُ الزطِّ رجلًا يقال له محمد بن عثمان، وكان صاحِبُ أمره إنسانًا يقال له سماق، ثم استوطن عجيفٌ وأقام بإزائهم سبعةَ أشهر.
عقد المعتصِمُ للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجَّهه لحرب بابك الخرمي، فسار إليه، وكان ابتداءُ خروجِ بابك سنةَ إحدى ومائتين، ثمَّ إنَّ الأفشين سار إلى بلادِ بابك، فنزل برزند، وعسكَرَ بها وضبَطَ الطرق والحصونَ فيما بينه وبين أردبيل، وأنزل محمَّدَ بن يوسف بموضعٍ يقال له خش، فحفرَ خندقًا وأنزل الهيثمَ الغنوي برستاق أرشق، فأصلح حِصنَه، وحفَرَ خَندقَه، وأنزل علويه الأعور، من قوَّاد الأبناء، في حصنِ النَّهرِ ممَّا يلي أردبيل، فكانت القوافِلُ تخرج من أردبيل ومعها من يحميها، حتى تنزل بحصنِ النَّهر، ثم يُسَيِّرُها صاحبُ حِصنِ النَّهرِ إلى الهيثم الغنوي، فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحيةٍ في موضعٍ معروفٍ لا يتعَدَّاه أحَدُهم إذا وصل إليه، فإذا لَقِيَه أخذ ما معه، وسَلَّمَ إليه ما معه، ثم يسيرُ الهيثمُ بمن معه إلى أصحابِ أبي سعيد، فيلقونَه بمنتصف الطريق، ومعهم من خرجَ من العسكر، فيتسَلَّمون ما مع الهيثم ويُسلِّمونَ إليه ما معهم، وإذا سبق أحدُهم إلى المنتصف لا يتعدَّاه، ويسيرُ أبو سعيدٍ بمن معه إلى عسكر الأفشين، فيلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيتسَلَّمُهم منه، ويسَلِّمُ إليه مَن صَحِبَه من العسكر، فلم يزل الأمرُ على هذا. وكانوا إذا ظَفِروا بأحدٍ من الجواسيس حملوه إلى الأفشين، فكان يُحسِنُ إليهم، ويهَبُ لهم، ويسألُهم عن الذي يعطيهم بابك، فيُضَعِّفُه لهم، ويقول لهم: كونوا جواسيسَ لنا فكان ينتَفِعُ بهم.
وجَّه المعتصِمُ القائد العسكري التركي بغا الكبيرَ إلى الأفشين، ومعه مالٌ للجندِ والنفقات، فوصل أردبيل، فبلغ بابك الخبر، فتهيَّأ هو وأصحابُه ليقطعوا عليه قبل وُصولِه إلى الأفشين، فجاء جاسوسٌ إلى الأفشين، فأخبَرَه بذلك، فلما صَحَّ الخبَرُ عند الأفشين كتب بغا أن يُظهِرَ أنَّه يريد الرحيلَ، ويحمِل المالَ على الإبل، ويسير نحوه، حتى يبلغ حصنَ النَّهر، فيَحبِس الذي معه، حتى يجوزَ مَن صَحِبَه من القافلة، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل بغا ذلك، وسارت القافلةُ، وجاءت جواسيسُ بابك إليه، فأخبَروه أن المال قد سار فبلغ النَّهرَ، وركب الأفشين في اليومِ الذي واعدَ فيه بغا عند العصرِ، مِن برزند، فنزل خارِجَ خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركِبَ سِرًّا ورحلت القافلة التي كانت توجَّهَت ذلك اليوم من النهر إلى ناحيةِ الهيثم، وتعبَّى بابك في أصحابِه، وسار على طريق النهر، وهو يظنُّ أن المالَ يُصادِفُه، فخرجت خيلُ بابك على القافلة، ومعها صاحِبُ النهر، فقاتَلَهم صاحبُ النهر، فقتلوه، وقتلوا من كان معه من الجند، وأخذوا جميعَ ما كان معهم، وعَلِموا أن المالَ قد فاتهم، وأخذوا عَلَمَه ولباسَ أصحابِه، فلبسوها وتنكَّروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضًا ولا يعلمونَ بخروج الأفشين، وجاؤوا كأنَّهم أصحابُ النهر، فلم يعرفوا الموضِعَ الذي يقف فيه علَمُ صاحب النهر، فوقفوا في غيرِه وجاء الهيثمُ فوقف في موضِعِه، وأنكر ما رأى، فوجَّهَ ابنَ عم له، فقال له: اذهَبْ إلى هذا البغيضِ فقُلْ له: لأيِّ شَيءٍ وقوفُك؟ فجاء إليهم فأنكَرَهم، فرجع إليه فأخبَرَه، فأنفذ جماعةً غيرَه، فأنكروهم أيضًا وأخبروه أنَّ بابك قد قتَلَ علويه، صاحبَ النهر، وأصحابَه، وأخذ أعلامَهم ولباسَهم، فرحل الهيثمُ راجعًا ونَجَت القافلةُ التي كانت معه، وبقيَ هو وأصحابُه في أعقابهم حاميةً لهم حتى وصلت القافلةُ إلى الحصن، وسيَّرَ رجلين من أصحابِه إلى الأفشين وإلى أبي سعيدٍ يُعَرِّفُهما الخبر، ودخل الهيثمُ الحصن، ونزل بابك عليه، وأرسل إلى الهيثمِ أن خَلِّ الحِصنَ وانصرِفْ، فأبى الهيثمُ ذلك، فحاربه بابك وهو يشرَبُ الخمرَ على عادته والحربُ مُشتَبِكةٌ، وسار الفارسان، فلقيا الأفشين على أقلَّ مِن فرسَخٍ، وأجرى الناسُ خَيلَهم طلقًا واحدًا حتى لَحِقوا بابك وهو جالِسٌ، فلم يُطِقْ أن يركَبَ، حتى وافته الخيلُ، فاشتبكت الحربُ، فلم يُفلِتْ من رَجَّالة بابك أحدٌ، وأفلت هو في نفرٍ يسيرٍ مِن خيَّالتِه، ودخل موقان وأقام بها فلمَّا كان في بعضِ الأيام مرَّت قافلة، فخرج عليها أصبهنذ بابك، فأخذها وقتَل مَن فيها، فقَحِطَ عسكرُ الأفشين لذلك، فكتب الأفشينُ إلى صاحب مراغة بحَملِ الميرة وتعجيلِها، فوجه إليه قافلةً عظيمة، ومعها جندٌ يسيرون بها فخرج عليهم سريةٌ لبابك، فأخذوها عن آخِرِها وأصاب العسكرَ ضِيقٌ شديد، فكتب الأفشين إلى صاحبِ شيروان يأمُرُه أن يحمِلَ إليه طعامًا، فحمل إليه طعامًا كثيرا وأغاث الناسَ، وقدِمَ بغا على الأفشين بما معه.