لما توفِّي أبو حمير سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي الصليحي سنة 495، وهو آخر الملوك الصليحيين الباطنية، أرسل المأمون البطائحي الرافضي وزير الفاطميين بمصر علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فوصل إلى جبال اليمن سنة 513، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، وبقيَ ابن نجيب الدولة حتى أرسل الآمر الفاطمي وقبض عليه بعد سنة 520، فانتقل الملك والدعوة باليمن إلى آل الزريع بن العباس بن المكرم. وآل الزريع هم أهلُ عدن، وهم شيعةٌ إسماعيلية من همذان بن جشم، وهؤلاء بنو المكرم يعرفون بآل الذيب، وكانت عدن لزريع بن العباس بن المكرم، ولعمه مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد مع الملك المفضل، فولي بعدهما ولداهما، وهما أبو السعود بن زريع، وأبو الغارات ابن مسعود، وبقيا حتى ماتا، وولي بعدهما محمد بن أبي الغارات، ثم ولي بعده ابنه علي بن محمد بن أبي الغارات مقام علي بالدملوة، فمات بالسُّل، وملك بعده أخوه المعظم محمد بن سبأ، ثم ملك بعده ابنه عمران بن محمد بن سبأ، وكانت وفاة محمد بن سبأ سنه 548، ووفاة عمران بن محمد بن سبأ في شعبان سنة 560، وخلف عمران ولدين طفلين هما محمد وأبو السعود ابنا عمران. سنة 557 ظهر ابن مهدي واستولى على زبيد وأعمالها، ثم قويت شوكة ولده مهدي، وأغار على الجند وبواديها، وقَتَل من قتل في تلك النواحي، ثم أخذ جبال اليمن وقَتَل فيها قتلًا ذريعًا، وفي سنة 562 استولى على مخلاف الجند، وزالت على يد المهدي دولةُ آل زريع من المخلاف، ثم زال بقيةُ ملك آل زريع في اليمن على يد الأيوبيين.
أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، بغزوِ الباطنية، وقَتْلهم أين كانوا، وحيثما ظُفِر بهم، ونَهْب أموالهم، وسَبْي حريمهم، وجهَّز جيشًا إلى طريثيت، وهي لهم، وجيشًا إلى بيهق من أعمال نيسابور، وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز، ومقَدَّمُهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين، وسيَّرَ إلى كل طرف من أعمالهم جمعًا من الجند، ووصَّاهم أن يقتلوا من لقوه منهم، فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سُيِّرَت إليها؛ فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر، فقتلوا كلَّ من بها، وهرب مُقَدَّمُهم، وصَعِدَ منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك، وكذلك العسكر المُنفَذ إلى طريثيت قتَلوا من أهلها فأكثروا، وغَنِموا من أموالهم وعادوا.
تراسل السلطان محمود والخليفة بشأن السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميلُه إليه، ويحذِّره من الخليفة، وأنه لا تُؤمَنُ غائلتُه، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخَذَك، فأصغى إلى قول عمِّه ورجع عن عزمه، وأقبل ليدخل بغداد عامَه ذلك، فكتب إليه الخليفةُ ينهاه عن ذلك لقلةِ الأقوات بها، فلم يَقبَل منه، وأقبل إليه، فلما أزِفَ قدومُه خرج الخليفة من داره وتجهَّز إلى الجانب الغربي فشَقَّ عليه ذلك وعلى الناس، ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناسَ بنفسه خطبةً عظيمة بليغة فصيحة جدًّا، وكبَّر وراءه خطباء الجوامع، وكان يومًا مشهودًا، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادِقَ وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيقِ والنصر، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذًى كثير في حريمهم، ثم إنَّ السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمةٌ قليلة من المقاتلة، ولكن العامةَ كلهم معه، وقتَلَ من الأتراك خلقًا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيشٍ كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدةً، فلما استشعر الخليفةُ ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلحُ بين السلطان والخليفة، وأخذ السلطان محمود يستبشر بذلك جدًّا، ويعتذر إلى الخليفة المسترشد بالله مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرضٍ حصل له.
لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعضُ عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دُورِ الناس، شكا الناسُ ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجِهم، وبَقِيَ فيها مَن له دار، وبقي السلطانُ يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلحَ، وهو يمتنِعُ، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطانَ أفحش سَبٍّ. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحُجَر الخليفة، أول المحرم، وضجَّ أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كلِّ ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضربِ الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آلَ هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونَصْب الجسر وعبرَ الناسُ دفعةً واحدة، وكان له في الدار ألفُ رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكرُ السلطانِ مُشتَغِلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفةُ إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحُفِرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاءُ عند العسكر، واشتدَّ الأمر عليهم، وكان القتالُ كلَّ يوم عليهم عند أبواب البلدِ وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبِسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأميرُ أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنَّه يريد القتال، فالتحق هو وعسكرُه بالسلطان. وقَدِمَ عماد الدين زنكي بقواتٍ ضخمة نجدةً للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصُّلحِ.
اجتمعت الفرنجُ وملوكُها وقمامصتها وجنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمرُ على المسلمين واشتدَّ خوفُهم، وكاتَبَ طغتكين أتابك دمشق أمراءَ التركمان من ديار بكر وغيرها وجمعهم، وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج، واستخلف بها ابنَه تاج الملوك بوري فكان بها، كلما جاءت طائفة أحسن ضيافتَهم وسَيَّرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتالُ، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابُه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسَه ولحقهم وتبعهم الفرنجُ وبقي التركمان لم يقدِروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة، فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجِلَهم ليس له منعٌ ولا حامٍ، حملوا على الرجَّالة فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكرَ الفرنج وخيامَهم وأموالَهم وجميع ما معهم، وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يُحصى كثرةً، فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالِمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتَهم قتلى وأموالهم منهوبة تمُّوا منهزمين لا يلوي الأخُ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كلُّ واحدةٍ منهما من صاحبتِها.
هو أبو سعيد آقسنقر البرسقي الغازي، الملقَّب قسيم الدولة سيف الدين، وكان مملوكًا تركيًّا صاحب الموصل والرحبة وتلك النواحي، ملَكَها بعد مودود بن التونتكين، وكان مودود بالموصل وببلاد الشام من جهة السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فقُتِل مودود سنة 507، وآقسنقر يومئذ شحنة بغداد، كان ولَّاه إياها السلطان محمد في سنة 498، فلما قتل مودود أرسل السلطان محمد البرسقي واليًا على الموصل وأمره بالاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصِل وملكها وغزا، ودفع الفرنج عن حلب وقد ضايقوها بالحصار، فلما استنجد به أهلها، فأجابهم ونادى الغزاة، ولما أشرف على حلب تقهقرت الفرنج، ورتَّب أمور البلد، وأمدَّهم بالغلَّات، ورتَّب بها ابنه فيها، ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قُتل. وهو من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم. كان عادلًا حميد الأخلاق، شديد التدين، محبًّا للخير وأهله، مُكرِمًا للفقهاء والصالحين، ليِّنًا حسن المعاشرة، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة؛ يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجِّدًا، عالي الهمة، كان من خيار الولاة, وكان شجاعًا محل ثقة الخلفاء والملوك وتقديرهم. قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة 520، قتله الباطنية في مقصورة الجامع بالموصل، وقيل: إنهم جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحًا؛ وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبَّعَهم وقتل منهم عصبةً كبيرة، وتولى ولَدُه عز الدين مسعود موضِعَه، ثم توفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 521، وملك بعده عماد الدين زنكي بن آقسنقر, وكان من مماليك السلطان طغرلبك أبي طالب محمد، وكان من أمراء السلاجقة المشار إليهم فيها، المعدودين من أعيانهم.
عزُّ الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي السلجوقي توفي في هذه السنة, واتَّفق أن موته كان بالرحبة، وسببُ مسيره إليها أنه لما استقامت أمورُه في ولايته، وراسل عز الدين السلطان محمودًا، وطلب منه ولايةَ ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها، أجابه السلطان إلى ما طلب، فرتَّب الأمور وقررها، فكثُرَ جنده، وكان شجاعًا شهمًا، عالي الهمة محًّبا للجهاد, فطمع في التغلب على بلاد الشام، فجمع عساكره، وسار إلى الشام يريد قَصْدَ دمشق، فابتدأ بالرحبة، فوصل إليها ونازلها، وقام يحاصِرُها، فأخذه مرضٌ حاد وهو محاصِرٌ لها، فتسلَّم القلعة، ومات بعد ساعة، وبقي مطروحًا على بساط، وتفرَّق جيشه، ونهب بعضُهم بعضًا، فأراد غلمانُه أن يقيموا ولَدَه، فأشار الوزير أنوشروان بالأتابك زنكي لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنجِ.
لما توفِّيَ عزُّ الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي صاحِبُ الموصل، أشار الوزير أنوشروان على السلطان محمود أن يولِّيَ الأتابك عماد الدين زنكي الموصِلَ وما حولَها؛ لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج, وخاصةً أن الفرنج قد استولوا على أكثر الشام، فاستحسن ذلك السلطان ومال إلى توليته؛ لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولَّاه البلاد كلها، وكتب منشورةً بها، وسار عماد الدين فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهرَه؛ لأنه خاف من جاولي سقاوو أنه ربما صدَّه عن البلاد، ثم تملَّك الموصل ثم ترك نائبًا له فيها هو نصر الدين جقر, وسار هو إلى حلب مفتتحًا في طريقه جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي، فامتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذولَ الكثيرة إن سَلَّموا، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجد في قتالهم حتى استلَمَها، ثم سار إلى نصيبين وفيها حسام الدين تمرتاش، فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع مَن بها عليه، ثم صالحوه وسلَّموا البلد إليه، ثم سار إلى حران، وهي للمسلمين، وكانت الرها، وسروج، والبيرة، وتلك النواحي جميعها للفرنج، وأهل حران معهم في ضرٍّ عظيم، وضيقٍ شديدٍ؛ لخلو البلدِ مِن حامٍ يذُبُّ عنها، وسلطان يمنَعُها، فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسَلَّموا إليه، فلما ملَكَها أرسل إلى جوسلين الفرنجي، صاحب الرها وتلك البلاد، وراسله وهادنه مدة يسيرة، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبُرَ الفرات إلى الشام، ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقرَّ الصلح بينهم، وأمِنَ الناس، ثم مَلَك حلب في أول السنة التالية من محرم.
بظهورِ عماد الدين زنكي بن أقسنقر بدأ عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب؛ فقد تولى عماد الدين زنكي أمرَ ولاية الموصِل وأعمالها سنة 521 بعد أن ظهرت كفاءتُه في حكم البصرة وواسط، وتولَّى شحنكية العراق، أي: ضابطُ أمن البلَدِ-، وفي محرم سنة 522 تمت له السيطرة على حلب, وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وقد علَّق ابن الأثير بعد أن تحدَّث عن انتصار عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة، وملكه حصن الأثارب، وحصاره حارم سنة 524، فقال: "وضَعُفَت قوى الكافرين، وعلموا أنَّ البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قُصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع". واستمرَّت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين في غزو الصليبيين، فملك حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد الهكارية. وفي سنة 534 حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى؛ فقد كانت دمشق المفتاحَ الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غيرَ أن حاكم دمشق معين الدين أنر راسلَ الصليبيين للتحالُفِ ضِدَّ زنكي ووعدهم أن يحاصِرَ بانياس ويسَلِّمَها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل قدومِهم لدمشق، فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإنَّ معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج، ثم استولى عليها وسلَّمها للفرنج.
كان السلطانُ محمود بن محمد بن ملكشاه قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يَحضُر هو بنفسِه ومعه المقاتِلة في السفن، وعلى الدوابِّ في البر، فجمع كلَّ سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحَنَها بالرجال المقاتِلة، وأكثَرَ من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمرَ كُلَّ من معه في السفن وفي البر بلُبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجَلدِ والنهضة، فسارت السفنُ في الماء، والعسكرُ في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملؤوا الأرض برًّا وبحرًا، فرأى الناس منظرًا عجيبًا، كَبُر في أعينهم، وملأ صدورَهم، وركب السلطانُ والعسكر إلى لقائِهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعَظُم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطانُ على قتال بغداد حينئذ، والجِدُّ في ذلك في البر والماء. فلما رأى الخليفة المسترشد بالله الأمرَ على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلحِ، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطانُ مما جرى، وكان حليمًا يسمَعُ سَبَّه بأذنه فلا يعاقِبُ عليه، وعفا عن أهل بغداد جميعِهم، وكان أعداءُ الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فِعْلَ مِثلِ هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة 521، وحمل الخليفةُ من المال إليه كما استقرت القاعدةُ عليه، وأهدى له سلاحًا وخيلًا وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفيَ.
هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي البلنسي النحوي، أحد أئمة اللغة والأدب في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد ببطليوس سنة 444, ونشأ بها، ثم سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه ويقتبسون منه، واشتهر بالتبحر في الأدب واللغة، وكان مقدَّمًا في معرفتهما وإتقانهما، وانتصب لإقراء علوم النحو، واجتمع إليه الناس، وله يدٌ في العلوم القديمة، وكان حسَنَ التعليم، جيِّدَ التفهيم، ثقة ضابطًا. ألَّف كتبًا نافعة ممتعة, ومن أشهر كتبه: المثلث في اللغة، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب. وكانت وفاته في 15 رجب من هذه السنة.
هو وزيرُ الديار المصرية العبيدي، الملك أبو عبد الله المأمون بن البطائحي الرافضي، ويقال: إنَّ أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، وإنه مات ولم يخلِّفْ شيئًا، فتزوَّجت أمه وتركته فقيرًا، ثم صار من أجناد المشارقة, وهو ممَّن خدم المستنصر، وإنه الذي لقبه بالمأمون. وترقى به الحال إلى المُلك، وهو الذي أعان الآمر بالله على الفتك بالوزير أمير الجيوش الأفضل السُّني، وولي منصبه، وكان المأمون شهمًا مِقدامًا، جوادًا بالأموال، سفَّاكًا للدماء، عضلةً من العضل، ثم إنَّه زين لأحد إخوة الآمر قَتلَ الآمر، ودخل معهما أمراء، فعرف بذلك الآمر، فقبض على وزيره المأمون في ليلة السبت لأربع خلون من شهر رمضان سنة519، وقبض على إخوته الخمسة مع ثلاثين رجلًا من أهله وخواصِّه، ولَمَّا اعتُقِل المأمون وُجِد له سبعون سرجًا من ذهب مرصع ومائتا صندوق مملوءة كسوة بدنه. ووجد لأخيه المؤتمن أربعون سرجًا بحُلي ذهب وثلاثمائة صندوق فيها كسوة بدنه، ومائتا سلة ما بين بلور محكم وصيني لا يُقدَر على مثلها، ومائة برنية (فخار كبير) مملوءة كافور قنصوري؛ ومائة وعاء مملوء عودًا، ومن ملابس النساء ما لا يُحَد. حُمل جميع ذلك إلى القصر، وصُلِب المأمون مع إخوة الآمر سنة 522. وقيل: إن سبب القبض عليه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلى، أخي الآمر، يعزِّيه بقتل أخيه الآمر ووعده أنه يُعتمَدُ مكانه في الحكم، فلما تعذَّر ذلك بينهما بلغ الشيخَ الأجَلَّ، أبا الحسن علي بن أبي أسامة، كاتب الدست، وكان خصيصًا بالآمر قريبًا منه، وكان المأمون يؤذيه كثيرًا. فبلَّغ الآمرَ الحالَ، وبلَّغه أيضًا أن بلغ نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن وأمره أن يضرب السكة ويكتبَ عليها: الإمام المختار محمد بن نزار. ويقال: إنه سمَّ مِبضَعًا ودفعه لفصَّاد الآمر، فأعلم الفصَّاد الآمر بالمِبضَع. وكان مولد المأمون سنة 478، وقيل سنة تسع. وكان من ذوي الآراء والمعرفة التامة بتدبير الدول، كريما واسع الصدر، سفاكًا للدماء، شديد التحرُّز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من الجند والعامة؛ فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه. وكان المأمون شديد المهابة في النفوس وعنده فطنة تامة وتحرز وبحث عن أخبار الناس وأحوالهم، حتى إنه لا يتحدث أحد من سكان القاهرة ومصر بحديث في ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون، ولا سيما أخبار الولاة وعمَّالهم. ومشت في أيامه أحوال البلاد وعمرت، وساس الرعايا والأجناد وأحسن سياسته، إلا أنه اتُّهِم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدَّهم له وأمرهم بقتلِه؛ ليجعل له بذلك يدًا عند الآمر، ولأنَّه كان يخاف أن يموتَ الأفضل فيَلقى من الآمر ما يكرهه؛ لأنه كان أكبر الناس منزلةً عند الأفضل ومتحكِّمًا في جميع أموره. وكان مع ذلك محبَّبًا إلى الناس؛ لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقربُ به من الإحسان إليهم، ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسيرة الحسنة.
صاحب دمشق الملك أبو منصور أتابك طغتكين -أتابك يعني الأمير الوالد- وهو من مماليك السلطان تتش بن ألب أرسلان، زوَّجه بأم ولده دقاق، فلما قُتل السلطان تملَّك بعده ابنه دقاق، وصار طغتكين مقدَّم عسكره، ثم تملَّك بعد دقاق. كان عاقلًا خيِّرًا شهمًا شجاعًا، مَهيبًا مجاهدًا، مؤثِرًا للعدل، يلقَّب ظهير الدين, كثيرَ الغزوات والجهاد للفرنج، حسنَ السيرة في رعيته، ولَمَّا توفي مَلَك بعده ابنُه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصيةٍ من والده بالمُلْك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته. قال الذهبي: "لولا أن الله أقام طغتكين للإسلام بإزاء الفرنج، وإلا كانوا غلبوا على دمشق؛ فقد هزمهم غير مرة، فقد كان سيفًا مسلولًا على الفرنج. لكن له خرمة؛ كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيًا، ويغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرِمُه طغتكين، ويبالغ اتقاءً لشَرِّه، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكَثُروا، ووافقه الوزيرُ طاهر المزدقاني، وبثَّ إليه سِرَّه، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهل الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار", وقال ابن الجوزي: "كان طغتكين شهمًا عادلًا، حزن عليه أهل دمشق، فلم تبقَ محلة ولا سوق إلا والمأتم قائم فيه عليه؛ لعدله وحسن سيرته. حكم على الشام خمسًا وثلاثين سنة، وسار ابنه بسيرته مُدَيدة، ثم تغيَّر وظلَم". وقال فيه أبو يعلى بن القلانسي: "مرض ونحل، ومات في صفر سنة 522، فأبكى العيون، وأنكأ القلوب، وفتَّ في الأعضاد، وفتَّت الأكباد، وزاد في الأسف، فرحمه اللهُ، وبرَّد مضجعه".
كان السلطان قد أمر بتولية عماد الدين زنكي الموصل وما حولها، فلما عبر زنكي الفرات إلى الشام، وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، يستنجِدُه ويطلب منه المعونةَ على جهادهم، فأجابه إلى مراده، وأرسل من أخذ له العهودَ والمواثيق، فلما وصلت التوثقةُ جَرَّد عسكرًا من دمشق مع جماعة من الأمراء، وأرسل إلى ابنه سونج، وهو بمدينة حماة، يأمره بالنزول إلى العسكر والمسير معهم إلى زنكي، ففعل ذلك، فساروا جميعهم فوصلوا إليه، فأكرمهم، وأحسن لقاءهم، وتركهم أيامًا، ثم إنَّه غدر بهم، فقَبض على سونج ولد تاج الملوك، وعلى جماعة الأمراء المقَدَّمين، ونهب خيامهم وما فيها من الكراع، واعتقلهم بحلب، وهرب مَن سواهم، وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابِّين، فملكها واستولى عليها، ورحل عنها إلى حمص، وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره، وهو الذي أشار عليه بالغدر بولد تاج الملوك، فقبض عليه ونزل على حمص وحصرها، وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده الذين فيها بتسليمها، فأرسل إليهم بالتسليم، فلم يقبلوا منه، ولا التفتوا إلى قوله، فأقام عليها محاصِرًا لها ومقاتلًا لمن فيها مدة طويلة، فلم يقدِرْ على ملكها، فرحل عنها عائدًا إلى الموصل، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين، وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك، واستقرَّ الأمر على خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، ولم ينتظم بينهم أمر.
دخل السلطان محمود إلى بغداد، واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس بن صدقة، وأن يسلِّمَ إليه بلاد الموصل، فامتنع الخليفةُ من ذلك وأبى أشدَّ الإباء، وقد تأخَّر دبيس عن الدخول إلى بغداد، ثم دخلها وركِبَ بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه، وقَدِم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار، وهدايا وتحفًا، والتزم للخليفة بمثلِها على ألَّا يولي دبيسًا شيئًا، وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل، فأقرَّه على ذلك وخلع عليه، ورجع إلى عمله فملك حلب وحماة، وفي رمضان جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه، وكانوا ثلاثمائة فارس، ثم إنه شرع في جمع الأموال وأخْذ الغلات من القرى حتى حصَّل نحوًا من خمسمائة ألف دينار، واستخدم قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وتفاقم الحالُ بأمره، وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرضَ عليه، وعرض عليه أموالًا فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشًا فانهزم إلى البرية، ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصِلَ السلطان والخليفة، ثم دخل البرية فانقطع خبرُه.
قُتِلَ إبراهيم الأسداباذي الباطني ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام داعية الباطنية إلى الشام، وملكَ قلعة بانياس، وسار إليها، والتحق بدمشق فدعمه المزدقاني وزير تاج الملوك صاحب دمشق، ولما فارق بهرام دمشق أقام له بها خليفةً يدعو الناس إلى مذهبه، فكثُروا وانتشروا، وملك هو عدةَ حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، أصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرُهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة 522 وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاكُ في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقُتِل بهرام وانهزم مَن سَلِمَ، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة، وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلًا من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبثَّ دُعاتَه في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضًا، وقوَّى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة والهمِّ بسببها، ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عِوَضَ بهرام إنسانًا اسمُه أبو الوفاء، فقَوِيَ أمرُه وعلا شأنه وكثُر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستوليَ على من بها من المسلمين، وحُكمُه أكثَرَ مِن حُكمِ صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنجَ ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلِّموا إليه مدينة صور، واستقرَّ الأمر بينهم على ذلك، وتقرَّر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرَّر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليومَ بأبواب الجامع، فلا يُمكِّنوا أحدًا من الخروج منه؛ ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد، وبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر وخلا معه، فقتله تاج الملوك، ثم أحرق بدنه وعلَّق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقَتلِ الباطنية، وانقلب البلدُ بالسرور وحَمْد الله، وثارت الأحداث والشطَّار في الحال بالسيوف والخناجر يقتلون من رأوا من الباطنية وأعوانهم. ومن يُتَّهمُ بمذهبهم، وتتبَّعوهم حتى أفنوهم، وامتلأت الطرق والأسواق بجِيَفِهم، فقُتِل منهم ستة آلاف نفس، وكان يومًا مشهودًا أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله، وأُخِذ جماعة أعيان منهم شاذي الخادم تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الحلبي، وكان هذا الخادِمُ رأسَ البلاء، فعُوقِبَ عقوبة شَفَت القلوب، ثم صُلِب هو وجماعةٌ على السور. وبقي حاجب دمشق يوسف فيروز، ورئيس دمشق أبو الذواد مفرج بن الحسن ابن الصوفي يلبسان الدروع، ويركبان وحولهما العبيد بالسيوف، لأنهما بالغا في استئصال شأفة الباطنية. وكان ذلك منتصفَ رمضان، وكفى الله المسلمين شرهم، وردَّ على الكافرين كيدَهم، ولما تمَّت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناسُ فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليمَ بانياس إليهم، والانتقالَ إلى بلادهم، فأجابوه، فسَلَّم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادِهم، ولَقُوا شدةً وذِلَّةً وهوانًا، وتوِّفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكفى الله المؤمنين شَرَّهم.
لما بلغ الفرنجَ قتلُ أبي علي طاهر بن سعيد المزدقاني وزير دمشق الذي كان قد راسلهم على تسليمِهم دمشق؛ عَظُم عليهم ذلك، وتأسَّفوا على دمشق؛ حيث لم يتمَّ لهم ملكها، وعمَّتهم المصيبة، فاجتمعوا كلُّهم: صاحب القدس، وصاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، وغيرُهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة، فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يُحصى، وساروا إلى دمشق ليحصُروها، ولما سَمِعَ تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان، فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنجُ في ذي الحجة، فنزلوا البلد، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد، فلما سمع تاج الملوك أن جمعًا كثيرًا قد ساروا إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة؛ سَيَّرَ أميرًا من أمرائه، يعرف بشمس الخواص، في جمعٍ من المسلمين إليهم، وكان خروجُهم في ليلة شاتية كثيرة المطر، ولَقُوا الفرنجَ مِن الغدِ فواقعوهم، واقتتلوا وصبر بعضُهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم، فلم يُفلِت منهم غيرُ مُقدَّمِهم ومعه أربعون رجلًا، وأخذوا ما معهم، وهي عشرة آلاف دابة مُوقَرة، وثلاثمائة أسير، وعادوا إلى دمشق لم يمسَسْهم قرحٌ. فلما علم مَن عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فرحلوا عنها شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذَّر عليهم حملُه من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون، والمطر شديد، والبرد عظيم، يقتلون كلَّ من تخلف منهم، فكثُرَ القتلى منهم، وكان نزولُهم ورحيلُهم في ذي الحجة.
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
أبو عبد الله محمد بن عبدالله بن تومرت المصمودي، الهرغي، الخارج بالمغرب. لقَّبه أتباعه بالمهدي، وهو زعيم الموحِّدين ومؤسس دولتهم، قال الذهبي عنه: "المدعي أنه علوي حَسَني، وأنه الإمام المعصوم المهدي، محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن جابر بن يحيى بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب. رحل من السوس الأقصى شابًّا إلى المشرق، فحجَّ وتفقَّه، وحصَّل أطرافًا من العلم، وكان أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، قويَّ النفس، زعرًا شُجاعًا، مَهيبًا قوالًا بالحق، عمَّالًا على المُلك، غاويًا في الرياسة والظهور، ذا هيبة ووقار، وجلالة ومعاملة وتألُّه، انتفع به خلق، واهتدوا في الجملة، وملكوا المدائن، وقهروا الملوك. أخذ عن: الكيا الهراسي، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وجاور سنةً. وكان لهِجًا بعلم الكلام، خائضًا في مزالِّ الأقدام، ألَّف عقيدة لقَّبها (بالمرشدة) فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسمَّاهم الموحِّدين، ونبز مَن خالف (المرشدة) بالتجسيم، وأباح دمه -نعوذ بالله من الغي والهوى- وكان خَشِن العيشِ فقيرًا، قانعا باليسير، مقتصرًا على زي الفقر، لا لذة له في مأكل ولا منكح،ولا مال، ولا في شيءٍ غير رياسة الأمر، حتى لقي الله تعالى. لكنه دخل -والله- في الدماء لنيل الرياسة المُرْدِية. وكان غرامُه في إزالة المنكر والصدع بالحق، وكان يتبسَّم إلى من لقيه. وله فصاحةٌ في العربية والبربرية، وكان يُؤذى ويُضرَب ويَصبِر، فقَدِمَ المهدية وعليها يحيى بن باديس، فنزل بمسجد مُعلَّق، فمتى رأى منكرًا أو خمرًا كسَّر وبدَّد، فالتفَّ عليه جماعة، واشتغلوا عليه، فطلبه ابنُ باديس، فلما رأى حاله وسمع كلامه، سأله الدعاء، فقال: أصلحك اللهُ لرعيتك. وسار إلى بجاية، فبقي ينكر كعادته، فنُفي، فذهب إلى قرية ملالة، فوقع بها بعبد المؤمن وكان أمرد عاقلًا، فقال: يا شابُّ، ما اسمك؟ قال: عبد المؤمن. قال: الله أكبر، أنت طلبتي، فأين مقصدك؟ قال: طلب العلم. قال: قد وجدتَ العِلمَ والشرف، اصحَبْني. ونظر في حِليتِه، فوافقت ما عنده, وكان في صحبته الفقيه عبد الله الونشريسي، وكان جميلًا نحويًّا، فاتفقا على أن يُخفيَ عِلمَه وفصاحته، ويتظاهرَ بالجَهلِ واللَّكنِ مدةً، ثم يجعَلَ إظهار نفسه معجزةً، ففعل ذلك، ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه، وسار بهم إلى مراكش، وهي لابن تاشفين، فأخذوا في الإنكار، فخوَّفوا المَلِك منهم، لكنه لم يسمع منهم لما رأى فيه الديانة", حدثت بينه وبين المرابطين معارك، وكان على مقربة من مراكش، وقد مرض ابن تومرت بعد هذه الوقعة وتوفي في مدينة تينملل من بلاد السوس، وكان مرشحه للخلافة بعده عبد المؤمن.
طمع كل من بوهمند الثاني أمير أنطاكية وإيلغازي بن دانشمند في الاستيلاء على الإمارة الأرمنية في كليكيا بعد وفاة الأمير الأرمني طوروس الأول، ثم وفاة ابنه قسطنطين مسمومًا بعده، فنشب القتال بينهما في سهل عين زربة، وقُتِل فيه بوهمند الثاني، فورثت ابنته كونستانس وكانت قاصرة، فقام جدُّها بودوان الثاني بالوصاية عليها حتى تكبر، ولم يكن له هو ولد، فبعث إلى لويس السادس ملك فرنسا وطلب منه اختيار أمير معروف بالشجاعة يكون خلَفًا له، فرشَّح له الأمير فولك الخامس أمير أنجو الذي تزوج ابنة بودوان الثاني، فأصبح بذلك الوريث الشرعي لمملكة بيت المقدس، وتملك كذلك مدينتي صور وعكا.