هو الأتابك قراسنقر صاحِبُ أذربيجان وأرانية بمدينةِ أردبيل، مِن مماليكِ المَلِك طغرل بن السُّلطان مُحمَّد بن ملكشاه. كان شُجاعًا مَهيبًا، ظَلُومًا غَشومًا، عظيمَ المَحْلِ. وقد علا شأنُه على سُلطانِه السُّلطانِ مَسعود، فكان يخافُه ويداريه، وقتَلَ الوزيرَ كَمالَ الدين الرازي مِن أجلِه، وقد مات له ابنانِ تحت الزلزلة بجنزة، ومَرِضَ بالسُّلِّ، وطال به وماتَ بأردبيل.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ شَيخُ الإسلامِ: أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ مُحمَّدِ بنِ الفَضلِ بنِ عليِّ بنِ أحمد بن طاهر القرشي، التيمي، ثم الطلحي، الأصبهاني، المُلَقَّب: بقَوَّام السنة، وُلِدَ سنة 457 ووالدته كانت من ذريَّةِ طَلحةَ بنِ عُبَيد الله التيمي- رضي الله عنه- أحَدِ العَشرةِ المُبشَّرينَ بالجنَّةِ. طَلَب العِلمَ وهو حدَثٌ. قال إسماعيل: "سَمِعتُ مِن عائشةَ- بنتِ الحَسَن الوركانيَّة- وأنا ابنُ أربع سنين"، وقال أبو موسى: "وقد سَمِعَ من أبي القاسِمِ بنِ عليك في سنة إحدى وستين، ولا أعلم أحدًا عاب عليه قولًا ولا فِعلًا، ولا عاندَه أحَدٌ إلَّا ونصَرَه الله، وكان نَزِهَ النَّفسِ عن المطامع، لا يدخُلُ على السَّلاطينِ، ولا على من اتَّصَل بهم، قد أخلى دارًا مِن مِلْكِه لأهلِ العلمِ مع خِفَّةِ ذات يَدِه، ولو أعطاه الرجُلُ الدُّنيا بأسْرِها لم يرتَفِعْ عنده، أملى ثلاثةَ آلاف وخمسمئة مجلس، وكان يُملي على البديهة". وقال الحافِظُ يحيى بن مَندة: "كان أبو القاسم حسَنَ الاعتقادِ، جميلَ الطريقةِ، قليلَ الكلامِ، ليس في وَقتِه مِثلُه". سافر أبو القاسمِ البلادَ وسَمِعَ الكثيرَ وبَرَع في فنون. سَمِعَ بمكة، وجاور سَنَةً، وأملى وصَنَّف، وجَرَّح وعَدَّل، وكان من أئمَّةِ العَربيَّة، وإمامًا في التفسيرِ والحديثِ والفِقهِ، وهو أحَدُ الحُفَّاظ المُتقِنينَ، له تصانيفُ، منها الإيضاحُ في التَّفسيرِ، وله تفسيرٌ بالفارسيَّة، وله دلائِلُ النبُوَّة، وسِيَرُ السَّلَف، والترغيبُ والترهيبُ، وشَرحُ الصَّحيحَينِ، ومات بأصبهان في يومِ عيدِ النَّحرِ.
سار سِنجر إلى لقاء التُّرك، فعبَرَ إلى ما وراء النَّهرِ، فشكا إليه محمودُ بنُ محمد خان من الأتراك القارغلية، فقَصَدهم سنجر، فالتجؤوا إلى كوخان الصيني ومَن معه من الكُفَّار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتابًا يتضَمَّنُ الشَّفاعةَ في الأتراكِ القارغلية، ويَطلُبُ منه أن يعفوَ عنهم، فلم يُشَفِّعْه فيهم، وكتَبَ إليه يدعوه إلى الإسلامِ ويتهَدَّدُه إن لم يُجِبْ عليه، ويتوعَّدُه بكَثرةِ عساكرِه، ووَصْفِهم، وبالَغَ في قتالِهم بأنواعِ السِّلاحِ، حتى قال: وإنَّهم يَشُقُّونَ الشَّعرَ بسِهامهم، فلم يرْضَ هذا الكتابَ وزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يُصغِ إليه، وسَيَّرَ الكِتابَ، فلمَّا قُرئَ الكِتابُ على كوخان أمَرَ بنَتفِ لحيةِ الرَّسولِ، وأعطاه إبرةً، وكَلَّفَه شَقَّ شَعرةٍ مِن لحيَتِه فلم يَقدِرْ أن يفعَلَ ذلك، فقال: كيف يَشُقُّ غَيرُك شَعرةً بسَهمٍ وأنت عاجِزٌ عن شَقِّها بإبرةٍ؟ وقيل: سَبَبُ المعركة أنَّ سنجرَ كان قَتَلَ ابنًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم مِن الأتراك المجوس بما وراءَ النهر، وحَثَّهم على قَصدِ مملكةِ السُّلطان سنجر، فساروا في ثلاثمئة ألف فارسٍ بقيادة مَلِكِهم كوخان، وسار إليهم سنجر في عساكِرِه، واستعَدَّ كوخان للحَربِ، وعنده جنودُ الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السُّلطانُ سنجر، فالتقى العسكرانِ بما وراءَ النَّهرِ بمَوضعٍ يقال له قطوان، وكانا كالبَحرينِ العَظيميَنِ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى وادٍ يقالُ له درغم، وكان على ميمنةِ سِنجر الأميرُ قماج، وعلى مَيسَرتِه ملك سجستان، والأثقالُ وراءهم، فاقتتلوا خامِسَ صَفَر, وكانت الأتراكُ القارغليَّة الذين هربوا من سنجر مِن أشَدِّ النَّاسِ قِتالًا، ولم يكُنْ ذلك اليومَ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر أحسَنُ قتالًا من صاحِبِ سجستان، فانجَلَت الحربُ عن هزيمة المسلمين، فقُتِلَ منهم ما لا يُحصى مِن كَثرتِهم، واشتمل وادي درغم على عشرةِ آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السُّلطانُ سنجر مُنهَزِمًا، وأُسِرَ صاحب سجستان والأميرُ قماج وزوجةُ السُّلطان سنجر، وهي ابنةُ أرسلان خان، فأطلَقَهم الكُفَّارُ، ولَمَّا انهزم سنجر قَصَد خوارزم شاه مدينةَ مَروٍ، فدخلها مُراغمةً للسُّلطانِ سنجر، وقَتَل جمعًا مِن أهلها، وقَبَضَ على أبي الفضل الكرماني الفقيهِ الحنفي وعلى جماعةٍ مِن الفقهاء وغيرِهم من أعيانِ البَلَدِ، وممَّن قُتِلَ الحسامُ عُمَرُ بن عبد العزيز بن مازة البُخاري الفقيهُ الحنفي المشهور. ولم يكُنْ في الإسلامِ وَقعةٌ أعظَمُ من هذه ولا أكثَرُ مِمَّن قُتِلَ فيها بخراسان، واستقَرَّت دولة الخطا والترك الكُفَّار بما وراء النهر، وبَقِيَ كوخان إلى رَجَب من سنة 537 فمات فيه.
عُزِلَ مجاهِدُ الدينِ بهروز عن شحنكية بغداد– شحنكية: أي: ضابطُ أمن البلَدِ-، ووَلِيَها قزل وهو مِن مماليك السُّلطان محمود، كانت له شحنكية برجرد والبصرة، فأضيف إليه شحنكية بغدادَ، ثمَّ وصَلَ السُّلطان مسعودٌ إلى بغداد، فرأى مِن تبَسُّطِ العيَّارينَ وفسادِهم ما ساءه، فأعاد بهروز إلى الشحنكية ببغداد, فتاب كثيرٌ منهم، ولم ينتَفِعِ النَّاسُ بذلك؛ لأنَّ وَلَدَ الوَزيرِ وأخا امرأةِ السُّلطان كانا يقاسِمانِ العيَّارينَ، فلم يَقدِرْ بهروز على مَنْعِهم.
سَيَّرَ رِجالُ الفرنجي صاحِبِ صَقليَّةَ أُسطولًا إلى أطرافِ إفريقيَّةَ، فأخذوا مراكِبَ سُيِّرَت من مصر إلى الحَسَن صاحِبِ إفريقيَّة، وغُدِرَ بالحَسَن، ثُمَّ راسله الحسن، وجَدَّد الهُدنةَ لأجلِ حَملِ الغَلَّاتِ مِن صقليَّةَ إلى إفريقيَّة؛ لأنَّ الغلاء كان فيها شديدًا والموتُ كثيرًا
سار خوارزم شاه إلى خراسانَ بعد أن هزم سنجر، فقصد سرخس، فلمَّا وصَلَ إليها لَقِيَه الإمامُ أبو محمد الزيادي، وكان قد جمَعَ بين الزُّهدِ والعلم، فأكرَمَه خوارزم شاه إكرامًا عظيمًا، ورحل مِن هناك إلى مَرْو الشاهجان، فقصده الإمامُ أحمد الباخرزي، وشَفِعَ في أهلِ مَروٍ، وسأل ألَّا يتعَرَّضَ لهم أحَدٌ من العسكَرِ، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهرِ البلد، واستدعى أبا الفَضلِ الكرمانيَّ الفقيهَ وأعيان أهلَها، فثار عامَّةُ مرو وقتلوا بعضَ أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابَه من البلد، وأغلقُوا أبوابه، واستعَدُّوا للامتناع، فقاتَلَهم خوارزم شاه، ودخل مدينةَ مَرْوٍ سابِعَ عَشرَ ربيع الأول، وقتل كثيرًا من أهلِها، ثم سارَ في شوال إلى نيسابور، فخرج إليه جماعةٌ مِن فُقَهائِها وعلمائها وزهَّادها، وسألوه ألَّا يفعلَ بأهلِ نيسابور ما فعل بأهلِ مَرو، فأجابهم إلى ذلك لكِنَّه استقصى في البَحثِ عن أموالِ أصحاب السُّلطان فأخذها، وقطع خُطبةَ السُّلطان سنجر، أوَّلَ ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلمَّا تَرَك الخطيبُ ذِكْرَ السُّلطانِ سنجر وذَكَرَ خوارزم شاه، صاح النَّاسُ وثاروا، وكادت الفِتنةُ تثور والشَّرُّ يعود جديدًا، وإنما منع النَّاسَ مِن ذلك ذوو الرأي والعَقلِ؛ نظرًا في العاقبةِ، فقُطِعَت إلى أوَّلِ المحرم سنةَ سَبعٍ وثلاثين ثم أعيدَت خطبة السُّلطانِ سنجر، ثمَّ سَيَّرَ خوارزم شاه جيشًا إلى أعمالِ بيهق، فأقاموا بها يُقاتِلونَ أهلَها خمسةَ أيام، ثمَّ سار عنها ذلك الجيشُ يَنهبونَ البلاد، وعَمِلوا بخراسان أعمالًا عظيمةً، ومنع السُّلطانُ سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفًا من قوةِ الخطا بما وراءَ النَّهرِ، ومجاورتهم خوارزمَ وغيَرها من بلادِ خُراسان.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامةُ، البَحرُ المتفنِّنُ: أبو عبد الله محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ عُمَرَ بن محمد التميمي المازري (نسبةً إلى مازرة بصقليَّةَ) المالكي، الحافِظُ المحَدِّث المشهور. وُلِدَ بالمهدية بإفريقيَّة. كان إمامًا حافِظًا مُتقِنًا أحدَ الأذكياءِ الموصوفين، والأئمَّة المتبحِّرينَ، عارفًا بعلوم الحديثِ، سَمِعَ وسافَرَ كثيرًا وكتب الكثير. قيل: "إنَّه مَرِضَ مَرضةً، فلم يجِدْ مَن يعالجُه إلَّا يهوديٌّ، فلمَّا عُوفِيَ على يَدِه، قال اليهودي: لولا التزامي بحِفظِ صِناعتي، لأعدَمتُك، فأثَّرَ هذا عند المازري، فأقبَلَ على تعَلُّمِ الطبِّ، حتى فاق فيه، وكان ممَّن يُفتي فيه، كما يُفتي في الفِقهِ". قال القاضي عياض: "هو آخِرُ المتكَلِّمينَ مِن شُيوخِ إفريقيَّة بتحقيقِ الفِقهِ، ورتبةِ الاجتهادِ، ودِقَّةِ النظر. درَسَ أصولَ الفِقهِ والدِّينَ، وتقَدَّمَ في ذلك، فجاء سابقًا، لم يكُنْ في عصره للمالكيَّةِ في أقطارِ الأرضِ أفقَهُ منه، ولا أقوَمُ بمَذهَبِهم، سَمِعَ الحديث، وطالَعَ معانيَه، واطَّلَعَ على علومٍ كثيرة من الطِّبِّ والحسابِ والآداب، وغير ذلك، فكان أحدَ رجالِ الكمال، وإليه كان يُفزَعُ في الفُتيا في الفِقه، وكان حسَنَ الخُلُقِ، مليحَ المُجالَسةِ، كثيرَ الحكايةِ والإنشاد، وكان قَلَمُه أبلَغَ مِن لسانه" من أشهَرِ تصانيفِه: شرحُ صحيح مسلم، سَمَّاه " كتاب المُعْلِم بفوائد كتابِ مُسلِم" وعليه بنى القاضي عِياضٌ كِتابَ الإكمالَ، وهو تَكمِلةٌ لهذا الكتاب، وله إيضاحُ المحصولِ في برهانِ الأصول, والكَشفُ والإنباءُ في الرَّدِّ على الإحياءِ، كتاب الغزالي، وله شَرحُ كتاب (التلقين) لعبد الوهاب المالكي في عشرةِ أسفار، وهو مِن أنفَسِ الكُتُب. وله كتُبٌ أخرى في الأدب. حَدَّثَ عنه القاضي عِياضٌ، وأبو جعفر بن يحيى القُرطبي الوزغي. مات وله ثلاث وثمانون سنة, ودفن بالمنستير.