موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: مُقتَضى النَّهيِ مِن جِهةِ الفَورِ والتَّكرارِ


اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ [1117] قال الزَّركَشيُّ: (قال الإمامُ الرَّازيُّ: إن قُلنا: النَّهيُ يَقتَضي التَّكرارَ، فهو يَقتَضي الفَورَ، وإلَّا فلا، ونازَعَه النَّقشوانيُّ والأصفَهانيُّ، وقالا: بناءُ الفَورِ على وُجوبِ التَّكرارِ ظاهِرٌ، وأمَّا بناءُ عَدَمِ وُجوبِ الفَورِ على عَدَمِ اقتِضاءِ التَّكرارِ فمُشكِلٌ؛ لجَوازِ أن لا يَقتَضيَ التَّكرارَ، ويَقتَضيَ الفَورَ). ((البحر المحيط)) (3/ 373). ، والرَّاجِحُ: أنَّ النَّهيَ يَقتَضي المُبادَرةَ إلى تَركِ المَنهيِّ عنه على الفَورِ، ويَقتَضي التَّكرارَ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [1118] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/363)، ((الإحكام)) للآمدي (2/194)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 81). ، ومِنهمُ القاضي أبو يَعلى [1119] يُنظر: ((العدة)) (2/428). ، وابنُ عَقيلٍ [1120] يُنظر: ((الواضح)) (3/235). ، وابنُ العَرَبيِّ [1121] يُنظر: ((المحصول)) (ص: 72). . وقال القَرافيُّ: (وهو المَشهورُ مِن مَذهَبِ العُلَماءِ) [1122] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 168). ويُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 290). ، وصَحَّحه الأبياريُّ، وابنُ جُزيٍّ [1123] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/678)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 166). ، ووَصَف الآمِديُّ القَولَ الآخَرَ بأنَّه شاذٌّ [1124] قال: ([المَسألةُ الثَّالِثةُ: النَّهيُ عنِ الفِعلِ يَقتَضي الانتِهاءَ عنه دائِمًا] اتَّفقَ العُقَلاءُ على أنَّ النَّهيَ عنِ الفِعلِ يَقتَضي الانتِهاءَ عنه دائِمًا، خِلافًا لبَعضِ الشَّاذِّينَ). ((الإحكام)) (2/194). .
قال المازَريُّ: (إنِّي رَأيتُ في تَصانيفَ مِنَ الأُصولِ لا تُحصى كَثرةً حِكايةَ الاتِّفاقِ على أنَّ النَّهيَ المُطلَقَ يُحمَلُ على الاستيعابِ للأزمِنةِ بالِاجتِنابِ؛ فمِن مُصَرِّحٍ يَذكُرُ الاتِّفاقَ على ذلك، ومِن مُشيرٍ إليه) [1125] ((إيضاح المحصول)) (ص: 208). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ النَّهيَ يَقتَضي عَدَمَ الإتيانِ بالفِعلِ، وعَدَمُ الإتيانِ لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بتَركِ الفِعلِ في جَميعِ أفرادِه في كُلِّ الأزمِنةِ، وبذلك يَكونُ تَركُ الفِعلِ مُستَغرِقًا جَميعَ الأزمِنةِ، ومِن جُملَتِها الزَّمَنُ الذي يَلي النَّهيَ مُباشَرةً، فيَكونُ النَّهيُ مُفيدًا للتَّكرارِ كما هو مُفيدٌ للفَورِ [1126] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/ 1440). .
2- أنَّ التَّركَ المَطلوبَ إذا تَراخى عن صيغةِ النَّهيِ تَراخيًا يَخرُجُ عنِ المُبادَرةِ بالتَّركِ؛ فإنَّه يَعني استِدامةَ الفِعلِ المَطلوبِ تَركُه، ومَن قيلَ له: لا تَفعَلْ، فاستَدامَ ما نُهيَ عنه مَعَ إمكانِ الخُروجِ مِنه والكَفِّ عنه، سُمِّي عاصيًا، كما أنَّه إذا بادَرَ بالتَّركِ سُمِّيَ طائِعًا [1127] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/235). .
وعلى هذا فلَو قال رَجُلٌ لخادِمِه: "لا تَدخُلْ هذه الدَّارَ"؛ فإنَّ ذلك يَقتَضي أن لا يَدخُلَ الدَّارَ على الفورِ وعلى التَّكرارِ والمُداوَمةِ، وإن تَركَ المَأمورُ دُخولَها ساعةً ثُمَّ دَخَلَها، استَحَقَّ الذَّمَّ عِندَ سائِر العُقَلاءِ؛ فدَلَّ على أنَّه يَقتَضي التَّكرارَ، ولَو لَم يَكُنْ مُقتَضيًا لذلك لَما استَحَقَّ مُخالِفُه الذَّمَّ والعُقوبةَ [1128] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/428)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/364). .
3- أنَّ النَّهيَ عن شَيءٍ يُشبِهُ مَنعَ الإنسانِ نَفسَه باليَمينِ عن فِعلِ شَيءٍ، فلَو حَلَف أن لا يَفعَلَ، لَم يَختَلِفِ العُلَماءُ أنَّه مَتى لم يُبادِرْ بالكَفِّ والِامتِناعِ حَنِثَ، وكان مُخالِفًا بفِعلِه قَولَه، واليَمينُ على التَّركِ مَنعٌ لنَفسِه بالقَسَمِ، فإذا كان مَنعُه لنَفسِه يوجِبُ الفَورَ والتَّكرارَ، ومَن خالَف حَنِثَ، فأمرُ اللهِ سُبحانَه له بالكَفِّ أَولى أن يَقتَضيَ البِدارَ والفَورَ [1129] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/236). .
وقيلَ: إنَّ النَّهيَ لا يَقتَضي الفورَ ولا التَّكرارَ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1130] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/677)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 168)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/9). ، واختارَه الرَّازيُّ [1131] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/282). .
والخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ لا تَتَرَتَّبُ عليه ثَمَرةٌ؛ لأنَّ أصحابَ المَذهَبَينِ قدِ اتَّفقوا على المَعنى، وإنِ اختَلَفوا في اللَّفظِ والِاصطِلاحِ؛ إذ لا يُمكِنُ لأحَدٍ أن يَقولَ: إنَّ النَّهيَ يَقتَضي الانتِهاءَ عنِ المَنهيِّ عنه بَعدَ صُدورِ صيغةِ النَّهيِ بفترةٍ، ولا يُمكِنُ لأحَدٍ أن يَقولَ: يَجِبُ الانتِهاءُ عنِ المَنهيِّ عنه مَرَّةً واحِدةً، ثُمَّ يَعودُ لفِعلِه [1132] يُنظر: ((الخلاف اللفظي عند الأصوليين)) (2/248)، ((المهذب)) (3/1441) كلاهما لعبد الكريم النملة. .

انظر أيضا: