موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّامِنُ: الفِعلُ المُتَعَدِّي إلى مَفعولٍ هَل له عُمومٌ في مَفاعيلِه؟


المَسألةُ مَفروضةٌ فيما إذا كان الفِعلُ مُتَعَدِّيًا، ولَم يُذكَرْ مَفعولُه، ووقَعَ الفِعلُ في سياقِ النَّفيِ، كقَولِه: "واللَّهِ لا آكُلُ"، أو وقَعَ في سياقِ الشَّرطِ، كقَولِه: "إن أكَلتِ فأنتِ طالِقٌ"، فهَل يَكونُ هذا عامًّا في جَميعِ المَأكولاتِ أو لا [1365] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/251)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/517)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1298)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1512). ؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَكونُ عامًّا بالنِّسبةِ إلى مَفعولاتِه، وإذا كان كذلك فإنَّه يَقبَلُ التَّخصيصَ؛ فإن نَوى المُتَكَلِّمُ مأكولًا مُعَيَّنًا فإنَّه لا يَحنَثُ بأكلِ غَيرِه. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [1366] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1373). ، وأبي يوسُفَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [1367] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/206)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/246). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1368] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 179، 184)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 507)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/111). ، والشَّافِعيَّةِ [1369] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/383)، ((الإحكام)) للآمدي (2/251)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1373). ، والحَنابِلةِ [1370] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/838)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 111)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2429). .
الأدِلَّةُ:
1- الاستِدلالُ بالقياسِ على ما لَو قال: لا آكُلُ أكلًا؛ فإنَّ الفِعلَ إذا أُكِّدَ بالمَصدَرِ، نَحوُ: لا آكُلُ أكلًا، فقدِ اتَّفقوا على أنَّه عامٌّ يَصِحُّ تَخصيصُه بالنِّيَّةِ، فلَو قال: إن أكَلتُ أكلًا فأنتِ طالِقٌ، أو قال: واللهِ لا آكُلُ أكلًا، ونَوى مأكولًا بعَينِه؛ فإنَّه لا يَحنَثُ بغَيرِه إجماعًا. فكَذا لَو قال: إن أكَلتُ، أو قال: واللهِ لا آكُلُ؛ لأنَّ الأوَّلَ إنَّما قُبِل فيه التَّخصيصُ عِندَه لوُجودِ المَصدَرِ الذي يَتَناولُ القَليلَ والكَثيرَ، وهو مَوجودٌ في الفِعلِ ضِمنًا؛ لأنَّه مُشتَقٌّ مِنه، والمُضمَرُ كالمَلفوظِ [1371] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/385)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1375)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1292)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/113). .
2- أنَّ المَقصودَ بنَفيِ الفِعلِ في قَولِه: "واللَّهِ لا آكُلُ" هو نَفيُ الماهيَّةِ، ونَفيُ الماهيَّةِ يَستَدعي نَفيَ كُلِّ فردٍ مِن أفرادِها، فقَولُه: واللهِ لا آكُلُ، يَقتَضي نَفيَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأكَلاتِ التي تَتَعَدَّدُ بحَسَبِ المَأكولاتِ، وإذا كان كذلك كان قابلًا للتَّخصيصِ، كالنَّكِرةِ في سياقِ النَّفيِ [1372] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1376). .
وقيلَ: إنَّه لا يَكونُ عامًّا بالنِّسبةِ إلى مَفعولاتِه؛ لأنَّه نَفيٌ للحَقيقةِ، والحَقيقةُ تَتَحَقَّقُ بأيِّ أكلٍ، وإذا كان كذلك فإنَّه لا يَقبَلُ التَّخصيصَ، وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [1373] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/206)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/220)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/246). ، واختيارُ الرَّازيِّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [1374] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/384). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- إذا حَلَف الرَّجُلُ فقال: واللهِ لا آكُلُ، أو إن أكَلتُ فأنتِ طالِقٌ، ونَوى مأكولًا مُعَيَّنًا، وهو المَفعولُ به؛ فإنَّه لا يَحنَثُ بأكلِ غَيرِه عِندَ القائِلينَ بعُمومِه؛ لأنَّ العامَّ يَقبَلُ التَّخصيصَ، ونيَّتُه مُخَصِّصةٌ له، ويَحنَثُ عِندَ مَن لا يَقولُ بعُمومِه؛ لأنَّ ما ليس بعامٍّ يَقبَلُ التَّخصيصَ؛ فلا يُؤَثِّرُ فيه التَّخصيصُ [1375] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/251)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1374)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/246)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2430)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/111). .
قال القَرافيُّ: (مُتَعَلِّقُ قَولِه: "لا آكُلُ" مُطلَقٌ، فإن لَم يَكُنْ له نيَّةٌ حَنِثَ بأيِّ مَأكولٍ أكلَه؛ فإن نَوى مأكولًا مُعَيَّنًا لَم يَحنَثْ بغَيرِه، وتَكونُ هذه النِّيَّةُ مُقَيِّدةً لهذا المُطلَقِ) [1376] ((العقد المنظوم)) (1/523). .
2- لَو حَلَف وقال: واللهِ لا أضرِبُ، أو إن ضَرَبتُ فأنتِ طالِقٌ، ونَوى الضَّربَ بآلةٍ بعَينِها؛ فإنَّه لا يَحنَثُ بالضَّربِ بغَيرِ تلك الآلةِ عِندَ القائِلينَ بالعُمومِ.
وهَكَذا إذا حَلَف على الخُروجِ وقال: واللهِ لا أخرُجُ، أو إن خَرَجتُ فأنتِ طالِقٌ، ونَوى مَكانًا بعَينِه، فإنَّه لا يَحنَثُ بالخُروجِ إلى غَيرِه عِندَ القائِلينَ بالعُمومِ [1377] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1374). .

انظر أيضا: