موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ التَّاسِعُ: هَل للمَفهومِ عُمومٌ؟


المَفهومُ يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ [1378] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/257)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/177)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/166)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1586). :
مَفهومُ الموافقةِ، وهو: ما كان حُكمُ المَسكوتِ عنه موافِقًا لحُكمِ المَنطوقِ به، كقَولِنا بتَحريمِ ضَربِ الوالِدَينِ أخذًا مِن مَنطوقِ قَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] .
ومَفهومُ المُخالَفةِ، وهو: ما كان حُكمُ المَسكوتِ عنه مُخالِفًا لحُكمِ المَنطوقِ، كقَولِنا: المَعلوفةُ مِنَ الغَنَمِ لا زَكاةَ فيها، أخذًا من حديثِ أنَّ في سائِمةِ الغَنَمِ الزَّكاةَ [1379] عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَتَبَ له هذا الكِتابَ لَمَّا وجَّهَه إلى البَحرَينِ: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فرَضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُسلِمينَ، والتي أمَرَ اللهُ بها رَسولَه، فمَن سُئِلَها مِنَ المُسلِمينَ على وَجهِها فليُعطِها، ومَن سُئِلَ فوقَها فلا يُعطِ:.. وفي صَدَقةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها إذا كانت أربَعينَ إلى عِشرينَ ومِئةٍ: شاةٌ...). أخرجه البخاري (1454). .
فهَلِ المَفهومُ في هَذَينِ القِسمَينِ يَعُمُّ أو لا؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ المَفهومَ عامٌّ فيما سِوى المَنطوقِ، ويَجوزُ تَخصيصُه بما يُخَصَّصُ به العامُّ. أي: يَثبُتُ الحُكمُ في جَميعِ صُوَرِ المَسكوتِ عنه إمَّا على موافَقةِ المَنطوقِ به أو على مُخالَفتِه، وهو مَذهَبُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [1380] يُنظر: ((شرح العضد)) (2/653)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/677)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2445)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/210)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 490). ، ومِنهمُ الرَّازيُّ [1381] يُنظر: ((المحصول)) (2/401). ، والقَرافيُّ [1382] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (2/968)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 51). ، والزَّركَشيُّ [1383] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) (2/677). .
وذلك قياسًا على المَنطوقِ؛ فإنَّ المَفهومَ يَقومُ مَقامَ اللَّفظِ العامِّ في إفادةِ العُمومِ؛ لأنَّ مَفهومَ المُخالَفةِ يَقتَضي سَلبَ الحُكمِ عن جَميعِ المَسكوتِ عنه، كما أنَّ المَنطوقَ يَقتَضي ثُبوتَ الحُكمِ لجَميعِ المَنطوقِ به.
ومِثالُ ذلك: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ)) [1384] أخرجه مسلم (343) من حديثِ أبي سَعيدس الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فهذا هو المَنطوقُ به، ومَعناه: إنَّما يَجِبُ الغُسلُ بالماءِ مِن وُجودِ الماءِ الذي هو المَنيُّ.
ومَفهومُه: أنَّه لا يَلزَمُ الغُسلُ مِنَ القُبلةِ، ولا مِنَ المُباشَرةِ، ولا مِنَ المُلامَسةِ، ولا مِنَ النَّظَرِ، ولا مِنَ التَّفكيرِ، ولا مِنَ التَّكَلُّمِ، ولا مِن إيلاجِ الحَشَفةِ؛ فهذا المَفهومُ يَعُمُّ جَميعَ المَسكوتِ عنه.
ثُمَّ خُصِّصَ عُمومُ هذا المَفهومِ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا التَقى الختانانِ وجَبَ الغُسلُ)) [1385] أخرجه أحمَد (26025)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7119) واللفظ لهما، وابن حبان (1183) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صَحَّحه ابنُ حبان، والبغوي في ((شرح السنة)) (1/337)، والنووي في ((المجموع)) (2/130). ، فخَصَّ منه التِقاءَ الختانَينِ [1386] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (2/968)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 51) كلاهما للقرافي، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/463). .
وقيلَ: إنَّ المَفهومَ لا يَعُمُّ؛ لأنَّ العُمومَ لَفظٌ تَتَشابَهُ دَلالَتُه بالإضافةِ إلى مُسَمَّياتِه، ودَلالةُ المَفهومِ لَيسَت لَفظيَّةً، فلا يَكونُ لها عُمومٌ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1387] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 239)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/222). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [1388] يُنظر: ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/496)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2446). .
والخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ لا تَتَرَتَّبُ عليه ثَمَرةٌ فِقهيَّةٌ؛ إذِ الخِلافُ في التَّسميةِ خاصَّةٌ دونَ المَعنى [1389] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/257)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 191)، ((شرح العضد)) (2/653)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/851)، ((البحر المحيط)) (4/223)، ((تشنيف المسامع)) (2/677) كلاهما للزركشي، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/160). .
قال ابنُ مُفلِحٍ: (الخِلافُ في "أنَّ المَفهومَ له عُمومٌ" لَفظيٌّ؛ لأنَّ مَفهومَيِ الموافقةِ والمُخالَفةِ عامٌّ فيما سِوى المَنطوقِ به بلا خِلافٍ. ومَن نَفى العُمومَ -كالغَزاليِّ- أرادَ أنَّ العُمومَ لَم يَثبُتْ بالمَنطوقِ به بغَيرِ تَوسُّطِ المَفهومِ، ولا خِلافَ فيه أيضًا) [1390] ((أصول الفقه)) (2/851). .

انظر أيضا: