موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الحاديَ عَشَرَ: هَل يُنَزَّلُ تَركُ الاستِفصالِ في حِكايةِ الحالِ مَعَ وُجودِ الاحتِمالِ مَنزِلةَ العُمومِ في المَقالِ؟


ومَعنى القاعِدةِ: أنَّ تَركَ الشَّارِعِ الاستفصالَ -أي طَلَبَ التَّفصيلِ- في حِكايةِ الأحوالِ مَعَ قيامِ الاحتِمالِ يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ في الأقوالِ، يَعني: أنَّ الشَّارِعَ إذا أطلَقَ الجَوابَ في واقِعةٍ مُحتَمِلةٍ لوُجوهٍ، ولَم يَسألِ الشَّارِعُ عن تلك الوُجوهِ المُحتَمَلةِ؛ فإنَّ عَدَمَ السُّؤالِ عنها يَقومُ مَقامَ العُمومِ بالمَقالِ فيها؛ فإنَّ تَركَ الاستِفصالِ كالتَّعميمِ بالمَقالِ.
والمُرادُ بالحِكايةِ: التَّلَفُّظُ، وبالحالِ: حالُ الشَّخصِ، وتَشمَلُ حِكايةُ الحالِ كونَ الحاكي صاحِبَ الحالِ أو غَيرَه.
ومَعنى "يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ مِنَ المَقالِ": أي: أنَّ حُكمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكونُ عامًّا في كُلِّ أحوالِ الواقِعةِ المَسؤولِ عنها، والمُرادُ بالمَقالِ: أنَّ اللَّفظَ يَعُمُّ أحوالَ السُّؤالِ، وقُلنا: يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ؛ إشارةً إلى أنَّه ليس مِنَ العامِّ المُصطَلَحِ عليه؛ لاختِصاصِه بالمَقالِ، فالمُرادُ أنَّ هذه المَسألةَ تُلائِمُ بَحثَ العامِّ لا أنَّها مِنَ العامِّ المُصطَلَحِ عليه [1409] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/288)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/118)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/220)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/205)، ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 473). .
والرَّاجِحُ: أنَّ تَركَ الاستِفصالِ في حِكايةِ الحالِ مَعَ وُجودِ الاحتِمالِ يُنزَّلُ مَنزِلةَ العُمومِ في المَقالِ. وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ [1410] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/456). ، والشَّافِعيِّ [1411] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/122)، ((المحصول)) للرازي (2/386)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1438)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/459). ، وأحمَدَ [1412] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 109). .
ونَقَل العَلائيُّ الاتِّفاقَ على القاعِدةِ في الجُملةِ، وإن وقعَ الخِلافُ في بَعضِ المَسائِلِ المُتَفرِّعةِ عنها، فقال: (القَولُ بتَركِ الاستِفصالِ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ، وإن خالَف بَعضُهم في صُوَرٍ مِنه، فذلك لوُجودِ مُعارِضٍ راجِحٍ في نَظَرِ المُخالِفِ) [1413] ((تلقيح الفهوم)) (ص: 494). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال: ((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟)) قالوا: نَعَم، فنَهى عن ذلك [1414] أخرجه أبو داود (3359)، والترمذي (1225)، وابن ماجه (2264) من حديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ ابنِ ماجه: أنَّ زَيدًا أبا عَيَّاشٍ مَولًى لبَني زُهرةَ أخبَرَه أنَّه سَألَ سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ عنِ اشتِراءِ البَيضاءِ بالسُّلْتِ. فقال له سَعدٌ: أيَّتُهما أفضَلُ؟ قال: البَيضاءُ. فنَهاني عنه، وقال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عنِ اشتِراءِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال: أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالوا: نَعَم، فنَهى عن ذلك. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4997)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/477)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2264). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لَمَّا كان الحُكمُ ليس على عُمومِه، بَل هو مُختَصٌّ ببَعضِ الأحوالِ، استَفصَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، ولَو كان النَّهيُ شاملًا لهما لَم يَستَفصِلْ، فدَلَّ على أنَّ تَركَ الاستِفصالِ فيما هذا شَأنُه نازِلٌ مَنزِلةَ العُمومِ [1415] يُنظر: ((تلقيح الفهوم)) للعلائي (ص: 494). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على الخِلافِ في المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- أنَّ الإنسانَ لَو أسلَمَ وعِندَه أكثَرُ مِن أربَعِ نِسوةٍ، فعليه أن يُمسِكَ أربَعًا مِنهنَّ فقَط، ويُفارِقَ الباقيَ، فيَختارَ مِنهنَّ ما شاءَ، ويَترُكَ الباقيَ مُطلَقًا، سَواءٌ كان العَقدُ على هذه النِّسوةِ في زَمَنٍ واحِدٍ، أو في أزمانٍ مُتَعَدِّدةٍ، وهذا يَتَبَيَّنُ فيه سَماحةُ الإسلامِ ويُسرُه.
وعِندَ الحَنَفيَّةِ: إن كان العَقدُ عليهنَّ في وقتٍ واحِدٍ، فعليه أن يُجَدِّدَ عَقدَ النِّكاحِ على أربَعٍ مِنهنَّ على حَسَبِ اختيارِه.
وإن كانت تلك العُقودُ مُرَتَّبةً، أي: كُلُّ واحِدةٍ عُقِدَ عليها بَعدَ الأُخرى، فعليه أن يُمسِكَ الأربَعَ الأُوَلَ، ويُفارِقَ ما عَداهنَّ؛ وذلك لأنَّ العُقودَ الأولى قد صادَفت محلًّا قابلًا للعَقدِ، فكانت صحيحةً، أمَّا ما عَداها فلَم يُصادِفْ محلًّا قابلًا للعَقدِ، فكان باطلًا [1416] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/532)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1983)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1590). ويُنظر أيضًا: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/314). .
2- شَهادةُ العُدولِ برُؤيةِ الهلالِ: فعنِ الحارِثِ بنِ الحاطِبِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نَنسُكَ لرُؤيَتِه، فإن لَم نَرَه فشَهدَ شاهدانِ عَدلانِ نَسَكْنا بشَهادَتِهما) [1417] أخرجه أبو داود (2338)، والطبراني (13/179) (13883)، والبيهقي (8266) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ أبي داوُدَ: عن حُسَينِ بنِ الحارِثِ الجَدَليِّ مِن جَديلةِ قَيسٍ: أنَّ أميرَ مَكَّةَ خَطبَ، ثُمَّ قال: عَهِدَ إلينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ننسُكَ للرُّؤيةِ، فإن لَم نَرَه وشَهدَ شاهدَا عَدلٍ نسَكْنا بشَهادَتِهما، فسَألتُ الحُسَينَ بنَ الحارِثِ: مَن أميرُ مَكَّةَ؟ قال: لا أدري، ثُمَّ لَقيَني بَعدُ، فقال: هو الحارِثُ بنُ حاطِبٍ أخو مُحَمَّدِ بنِ حاطِبٍ، ثُمَّ قال الأميرُ: إنَّ فيكُم مِن هو أعلَمُ باللهِ ورَسولِه مِنِّي، وشَهدَ هذا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأومَأ بيَدِه إلى رَجُلٍ، قال الحُسَينُ: فقُلتُ لشَيخٍ إلى جَنبي: مَن هذا الذي أومَأ إليه الأميرُ؟ قال: هذا عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وصَدَقَ؛ كان أعلَمَ باللهِ منه، فقال: بذلك أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. صَحَّحه النووي في ((المجموع)) (6/275)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (15/123)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2338). ؛ لأنَّ العَدلَينِ يَحتَمِلُ الشَّيخَينِ والكَهلَينِ، والعَرَبيَّينِ والعَجَميَّينِ، والأبيَضَينِ والأسودَينِ، وغَيرَ ذلك، فيَعُمُّ الحُكمُ جَميعَ ذلك؛ لأنَّ تَركَ السُّؤالِ عنِ الأحوالِ كالعُمومِ بالمَقالِ [1418] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/121). .

انظر أيضا: