موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الخامِسَ عَشَرَ: الفِعلُ المُثبِتُ إذا كان له جِهاتٌ: هَل هو عامٌّ في أقسامِه؟


المُرادُ بالفِعلِ هنا فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ قَولِه [1511] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/82)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/221)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/247)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/213). .
ومَعنى له جِهاتٌ: أي له أكثَرُ مِنِ احتِمالٍ [1512] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/232). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الفِعلَ المُثبِتَ إذا كان له جِهاتٌ فليس بعامٍّ في أقسامِه وجِهاتِه إلَّا بدَليلٍ، أي: أنَّ الفِعلَ المُثبِتَ لا عُمومَ له بالنِّسبةِ إلى الأحوالِ التي يُمكِنُ أن يَقَعَ عليها حتَّى يَثبُتَ العُمومُ بدَليلٍ. وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [1513] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/123). ، وهو قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [1514] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/255)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/510)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/134). ، ومِنهم: الشِّيرازيُّ [1515] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 28)، ((شرح اللمع)) (1/336). ، وإمامُ الحَرمَينِ [1516] يُنظر: ((البرهان)) (1/123)، ((التلخيص)) (2/50، 136). ، والرَّازيُّ [1517] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/393). ، والأبياريُّ [1518] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/924). ، والإسنَويُّ [1519] يُنظر: ((زوائد الأصول)) (ص: 254). .
وأطلَقَ ابنُ الحاجِبِ أنَّ الفِعلَ المُثبِتَ ليس بعامٍّ في أقسامِه، ثُمَّ اختارَ في نَحو: "نَهى عن بَيعِ الغَرَرِ" [1520] أخرجه مسلم (1513) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ)). ، وأنَّه قَضى بالشُّفعةِ للجارِ [1521] رُويَ بلَفظ: ((قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّفعةِ والجِوارِ)). أخرجه النسائي (4705) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه لغَيرِه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4705)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ الملَقِّن في ((الإعلام)) (7/423). ورُوِيَت أحاديثُ تُفيدُ مَعنى أنَّ أحَقِّيَّةَ الجارِ للشُّفعةِ: مِنها: عن أبي رافِعٍ أنَّ سَعدًا ساومَه بَيتًا بأربَعِمِئةِ مِثقالٍ، فقال: لَولا أنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: الجارُ أحَقُّ بصَقَبِه لَمَا أعطَيتُكَ. أخرجه البخاري (6978). وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّفعةِ في كُلِّ مالٍ لَم يُقسَمْ، فإذا وقَعَتِ الحُدودُ وصُرِّفتِ الطُّرُقُ فلا شُفعةَ. أخرجه البخاري (2214) واللَّفظُ له، ومسلم (1608) بنحوه. وعن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جارُ الدَّارِ أحَقُّ بالدَّارِ)). أخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داوُد (3517) باختِلاف يَسيرٍ، والترمذي (1368)، وأحمد (20128) واللَّفظُ لهما. صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1368)، وصَحَّحه لغَيرِه شعيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (20128). أنَّه يَعُمُّ الغَرَرَ والجارَ مُطلَقًا [1522] يُنظر: ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 82)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/747). .
والفرقُ بَينَهما أنَّ الفِعلَ لا صيغةَ له حتَّى يُتَمَسَّكَ بعُمومِه، بخِلافِ القَضاءِ والأمرِ والنَّهيِ؛ فإنَّه لا يَصدُرُ إلَّا عن صيغةٍ، وقد يَفهَمُ الرَّاوي منها العُمومَ فيَرويه على ذلك [1523] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/796)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 333). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/228). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الفِعلَ المُثبِتَ إذا كان له جِهاتٌ يَقَعُ على صِفةٍ واحِدةٍ، فإن عُرِفت تلك الصِّفةُ اختَصَّ الحُكمُ بها، وإن لَم تُعرَفْ صارَ مجمَلًا يُتَوقَّفُ فيه حتَّى يُعرَفَ، ولا يُدَّعى فيه العُمومُ، ثُمَّ إنَّه إخبارٌ عن فِعلٍ، ومَعلومٌ أنَّ الفاعِلَ لَم يَفعَلْ كُلَّ ما اشتَمَلَ عليه قِسمةُ ذلك الفِعلِ، ولَعَلَّه مِمَّا لا يُمكِنُ استيعابُ فِعلِه، فلا مَعنى للعُمومِ في ذلك [1524] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 29)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/170)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 238)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/227). .
وبَيانُ ذلك: أنَّ الفِعلَ لا يَقَعُ إلَّا على جِهةٍ واحِدةٍ؛ لأنَّه إن وقَعَ نفلًا فلا يَقَعُ فرضًا، وإن وقَعَ أداءً فلا يَقَعُ قَضاءً، والعُمومُ ما تَناولَ أشياءَ مُتَماثِلةً أو مُختَلِفةً، وإنَّما يَتَحَقَّقُ ذلك في الألفاظِ والصِّيَغِ دونَ الأفعالِ؛ لأنَّ الفِعلَ يَختَصُّ بفاعِلِه، ولا يَتَعَدَّاه إلى غَيرِه إلَّا بدَليلٍ، فكَيف يَكونُ له عُمومٌ يَنطَلِقُ على الأفعالِ، ويَكونُ متناوِلًا لها؟
ولهذا المَعنى قال العُلَماءُ: إنَّ حِكاياتِ الأحوالِ إذا كَسَتها جِهاتُ الاحتِمالاتِ أكسَبتها نَعتَ الإجمالِ؛ لأنَّها تَرَدَّدَت بَينَ مَحامِلَ مُختَلِفةٍ، وجِهاتٍ مُتَغايِرةٍ، وليس بَعضُها بأَولى مِنَ البَعضِ، والحَملُ على الجَميعِ غَيرُ مُمكِنٍ، فتَعيَّنَ الوَقفُ.
ومِثالُ ذلك: ما ورَدَ مِن أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى في الكَعبةِ [1525] عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه كان إذا دَخَلَ الكَعبةَ، مَشى قِبَلَ الوَجهِ حينَ يَدخُلُ، ويَجعَلُ البابَ قِبَلَ الظَّهرِ، يَمشي حتَّى يَكونَ بَينَه وبَينَ الجِدارِ الذي قِبَلَ وَجهِه قَريبًا مِن ثَلاثِ أذرُعٍ، فيُصَلِّي، يَتَوخَّى المَكانَ الذي أخبَرَه بِلالٌ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى فيه، وليس على أحَدٍ بَأسٌ أن يُصَلِّيَ في أيِ نَواحي البَيتِ شاءَ. أخرجه البخاري (1599) واللَّفظُ له، ومسلم (1329). ، فصَلاتُه الواقِعةُ يُحتَمَلُ أنَّها كانت فرضًا، ويُحتَمَلُ أنَّها كانت نَفلًا، ولا يُتَصَوَّرُ وُقوعُها فَرضًا ونَفلًا، فيَمتَنِعُ الاستِدلالُ بذلك على جَوازِ الفَرضِ والنَّفلِ في داخِلِ الكَعبةِ جَميعًا؛ إذ لا عُمومَ للفِعلِ الواقِعِ بالنِّسبةِ إليهما، ولا يُمكِنُ تَعيينُ أحَدِ القِسمَينِ إلَّا بدَليلٍ [1526] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/323)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/924)، ((الإحكام)) للآمدي (2/252)، ((شرح ذريعة الوصول)) للزبيدي (ص: 362). .
2- أنَّه قد لا يُمكِنُ أن يَقَعَ الفِعلُ على جَميعِ تلك الأحوالِ؛ لأنَّها قد تَكونُ مُتَضادَّةً، وإن أمكَنَ وُقوعُه عليها حَيثُ لا تَضادَّ بَينَها، فليس بواجِبٍ أن يَقَعَ عليها حتَّى يَثبُتَ العُمومُ، بَل يُحتَمَلُ أن يَقَعَ عليها، ويُحتَمَلُ أن يَقَعَ على وجهٍ واحِدٍ منها، ومَعَ الشَّكِّ والِاحتِمالِ لا يَثبُتُ العُمومُ.
ولأنَّه فِعلٌ في سياقِ الإثباتِ، كالنَّكِرةِ في سياقِ الإثباتِ لا تَعُمُّ، بخِلافِ الفِعلِ في سياقِ النَّفيِ، أوِ النَّكِرةِ في سياقِ النَّفيِ، وإذا لَم يَكُنْ عامًّا كان مُطلَقًا، والمُطلَقُ إنَّما يَدُلُّ على صورةٍ واحِدةٍ، ولا إشعارَ له بالشُّمولِ، ولا بالعَدَدِ، ولا بشَيءٍ مُعَيَّنٍ [1527] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/557)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1429)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/108). .
3- أنَّ الحُجَّةَ إنَّما تَكونُ في المَحكيِّ، وهو كَلامُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تَكونُ في الحِكايةِ، وهيَ كَلامُ الرَّاوي، والذي سَمِعَه الصَّحابيُّ ورَآه حتَّى رَوى، يُحتَمَلُ أن يَكونَ خاصًّا بصورةٍ واحِدةٍ، وأن يَكونَ عامًّا، ومَعَ الاحتِمالِ لا يَجوزُ القَطعُ بالعُمومِ [1528] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/394)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/926)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/549). .
وقيلَ: إنَّ الفِعلَ المُثبِتَ يَقتَضي العُمومَ، أي: يَصِحُّ التَّمَسُّكُ به في أمثالِ تلك القَضيَّةِ المَحكيَّةِ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1529] يُنظر: ((التوضيح لمتن التنقيح)) لصدر الشريعة (1/112)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/290). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1530] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/322). ، والحَنابِلةِ [1531] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/42)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/509)، ((قواعد الاستنباط من ألفاظ الأدلة عند الحنابلة)) للصويغ (ص: 229). .
وقيلَ: بالتَّفصيلِ بَينَ ما ذَكَره الصَّحابيُّ مَعَ (أنَّ)؛ فإنَّه يُفيدُ العُمومَ، مِثلُ: "قَضى أنَّ..." [1532] عنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: كَتَبتُ إلى ابنِ عَبَّاسٍ، فكَتَبَ إليَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليه. أخرجه البخاري (2514). ، وبَينَ ما كان خاليًا منها فلا يُفيدُ العُمومَ، مِثلُ: نَهى عن ..." [1533] عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ المُزابَنةِ. أخرجه البخاري (2171)، ومسلم (1542). . وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1534] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/337). .
وقيلَ: بالتَّفصيلِ بَينَ ما ذَكَره الصَّحابيُّ مَعَ (كان)؛ فإنَّه يُفيدُ العُمومَ، وبَينَ ما كان خاليًا منها، فلا يُفيدُ العُمومَ. نَقَلَه الباقِلَّانيُّ [1535] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/92). ، وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1536] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/337). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها [1537] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 329). :
1- الاستِدلالُ على بُطلانِ ما فيه غَرَرٌ بأنَّه نَهى عن بَيعِ الغَرَرِ [1538] أخرجه مسلم (1513) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ)). .
2- نَجاسةُ الأبوالِ كُلِّها، بقَولِه: ((تَنَزَّهوا مِنَ البَولِ)) [1539] أخرجه الدارقطني (1/231)، وابن الجوزي في ((التحقيق)) (410). صَحَّحه النووي في ((المجموع)) (3/132)، وابن تيمية في ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/84)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3002)، وحَسَّن إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/57)، وابن المُلَقِّنِ في ((تحفة المحتاج)) (1/217). ونَحوِ ذلك.

انظر أيضا: