المُرادُ بذلك الفِعلُ المُضارِعُ الذي دَخَلَت عليه (كان) إذا عَبَّرَ به الصَّحابيُّ عن شَيءٍ مِن أفعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهَل تلك الصِّيغةُ دالَّةٌ على مُجَرَّدِ وُقوعِ الفِعلِ، أم على التَّكرارِ والمواظَبةِ [1540] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/489). ؟
والمُرادُ بالعُمومِ هنا: التَّكرارُ، وإطلاقُ العُمومِ على التَّكَرُّرِ مَجازٌ؛ فإنَّ الذي يُفيدُه "كان" في العُرفِ هو التَّكرارُ في الزَّمانِ الماضي، كقَولِهم: كان حاتِمٌ يُكرِمُ الضَّيفَ، وكقَولِك: كان زَيدٌ يَفعَلُ كَذا، وقَولِك: كُنَّا نَفعَلُ كَذا، إنَّما يُفيدُ التَّكرارَ ولا يُفيدُ العُمومَ، فإطلاقُ العُمومِ على التَّكرارِ مَجازٌ، فلَو كان يُفيدُ العُمومَ الحَقيقيَّ لَكان حاتِمٌ في قَولِنا: كان حاتِمٌ يُكرِمُ الضَّيفَ، يُكرِمُ جَميعَ أضيافِ الدُّنيا، وليس كذلك [1541] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/144). .
ولا يَلزَمُ مِنَ التَّكرارِ عَدَمُ الانقِطاعِ؛ فقد يَتَكَرَّرُ الشَّيءُ ثُمَّ يَنقَطِعُ [1542] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/170)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 493). .
فإذا قال الرَّاوي: "كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَفعَلُ كَذا"، فهَل هذا يُفيدُ العُمومَ والتَّكرارَ أو لا؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يُفيدُ العُمومَ، أي: التَّكرارَ، وهو قَولُ الحَنابِلةِ [1543] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2437). ، وكَثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ، كالقاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَريِّ [1544] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/235)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1397). ، والباقِلَّانيِّ [1545] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/92). ، والآمِديِّ [1546] يُنظر: ((الإحكام)) (2/253). ، وابنِ الحاجِبِ [1547] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/748). ، والشَّاطِبيِّ [1548] يُنظر: ((الموافقات)) (3/258). ، والزَّركَشيِّ [1549] يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/236). ، وابنِ النَّجَّارِ [1550] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) (3/215). ، والشَّوكانيِّ [1551] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/315). .
قال التَّفتازانيُّ: (إنَّما يُفهَمُ العُمومُ مِن قَولِ الرَّاوي، وهو لفظُ (كان) الدَّاخِلُ على الفِعلِ المُضارِعِ؛ إذ لَو قيلَ: كان قد جَمَعَ أو يَجمَعُ، بدونِ (كان) لَم يُفهِمِ التَّكَرُّرَ، هذا والتَّحقيقُ أنَّ المُفيدَ للِاستِمرارِ هو لَفظُ المُضارِع، و(كان) للدَّلالةِ على مَعنى ذلك المَعنى) [1552] ((حاشية التفتازاني على شرح العضد)) (2/646). .
وقال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (يُقالُ: "كان يَفعَلُ كَذا"، بمَعنى: أنَّه تَكَرَّرَ منه فِعلُه، وكان عادَتَه، كما يُقالُ: كان فُلانٌ يَقري الضَّيفَ، و((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجوَدَ النَّاسِ بالخَيرِ)) [1553] أخرجه البخاري (1902)، ومسلم (2308) واللَّفظُ له، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقد يُستَعمَلُ "كان" لإفادةِ مُجَرَّدِ الفِعلِ، ووُقوعِ الفِعلِ، دونَ الدَّلالةِ على التَّكرارِ، والأوَّلُ: أكثَرُ في الاستِعمالِ) [1554] ((إحكام الأحكام)) (1/130). .
الأدِلَّةُ:
1- الاستِدلالُ بإنكارِ عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ على عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ تَأخيرَ الصَّلاةِ إلى آخِرِ وقتِها، واحتِجاجُ عُروةَ بحَديثِ عائِشةَ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي العَصرَ والشَّمسُ في حُجرَتِها قَبلَ أن تَظهَرَ)) [1555] أخرجه البخاري (522)، ومسلم (611). . قال الشَّاطِبيُّ: (ولَفظُ: "كان يَفعَلُ" يَقتَضي الكَثرةَ بحَسَبِ العُرفِ، فكَأنَّه احتَجَّ عليه في مُخالَفةِ ما داومَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1556] ((الموافقات)) (3/258). .
2- الاستِدلالُ بالعُرفِ والعادةِ؛ فإنَّ العادةَ جاريةٌ بأنَّ ذلك لا يُقالُ إلَّا لمَن تَكَرَّرَ منه الفِعلُ، كقَولِ القائِلِ: كان فُلانٌ يُكرِمُ الضِّيفانَ؛ فإنَّه يُفهَمُ منه التَّكرارُ دونَ القُصورِ على المَرَّةِ الواحِدةِ، ولا يَقولونَ: كان فُلانٌ يُطعِمُ الطَّعامَ، ويُحافِظُ على الجارِ، إذا فعَلَ ذلك مَرَّةً أوِ اثنَتَينِ، بَل يَخُصُّونَ به المُداوِمَ على ذلك، وقد قال اللهُ تعالى عن إسماعيلَ عليه السَّلامُ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم: 55] ، أي: كان يُداوِمُ على ذلك، وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخَوَّلُنا بالمَوعِظةِ)) [1557] أخرجه البخاري (68) واللَّفظُ له، ومسلم (2821). ، فالمُرادُ هنا الاستِمرارُ [1558] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/92)، ((الإحكام)) للآمدي (2/253)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/169)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2437)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 492). .
وقيلَ: إنَّها لا تَقتَضي العُمومَ والتَّكرارَ لا عُرفًا ولا لُغةَ؛ لأنَّ لَفظَ "كان" لا يُفيدُ إلَّا تَقدُّمَ الفِعلِ، فأمَّا التَّكرارُ فلا، وهو قَولُ الرَّازيِّ [1559] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/399). ، والإسنَويِّ [1560] يُنظر: ((نهاية السول)) (ص: 190). ، وصَحَّحه النَّوَويُّ [1561] يُنظر: ((شرح مسلم)) (9/69). .
وقيلَ: إنَّها تُفيدُ العُمومَ مِن جِهةِ العُرفِ والعادةِ، لا مِن جِهةِ اللُّغةِ؛ لأنَّه إذا قيلَ: كان فُلانٌ يَتَهَجَّدُ باللَّيلِ، لا يَحسُنُ ذلك إلَّا إذا كان مُتَكَرِّرًا مِنه، ولا يُقالُ: كان فُلانٌ يَتَهَجَّدُ باللَّيلِ، إذا تَهَجَّدَ مَرَّةً واحِدةً في عُمرِه. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1562] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/399)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/554)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/143). ، قال المَرداويُّ: (وهو قَويٌّ جِدًّا) [1563] ((التحبير)) (5/2439). .