موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الحاديَ والعِشرونَ: هَل يَجِبُ اعتِقادُ عُمومِ اللَّفظِ قَبلَ البَحثِ عنِ المُخَصِّصِ؟


إذا سَمِعَ المُكَلَّفُ الخِطابَ العامَّ فهَل يَجِبُ عليه اعتِقادُه، والعَمَلُ به في الحالِ، أو يُنظَرُ: هَل ورَدَ عليه ما يُخَصِّصُه أو لا؟
فإذا ورَدَ الخِطابُ العامُّ فلا يَخلو مِن حَيثُ دَلالَتُه على الزَّمَنِ مِن حالَتَينِ:
الأولى: إمَّا أن يَقتَرِنَ به ما يَدُلُّ على زَمَنٍ حاضِرٍ أو مُستَقبَلٍ، فيُعمَلُ به بعُمومِه على حَسَبِ دَلالَتِه.
والثَّانيةُ: أن يَكونَ خاليًا مِن ذلك، وفي ذلك اختِلافُ الأُصوليِّينَ.
وهذا الخِلافُ في وُرودِ الخِطابِ العامِّ مِنَ النَّاسِ بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمَّا إذا ورَدَ في عَهدِه وجَبَتِ المُبادَرةُ إلى الفِعلِ وإجراؤُه على عُمومِه [1679] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1374)، ((قواعد الاستنباط من ألفاظ الأدلة عند الحنابلة)) للصويغ (ص: 234). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على أقوالٍ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجِبُ التَّمَسُّكُ بالعُمومِ، واعتِقادُه في الحالِ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [1680] ((الرسالة)) (ص: 322، 341). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [1681] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/525)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/360)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 130). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1682] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/291)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/254). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالصَّيرَفيِّ [1683] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 120)، ((التحصيل)) للأرموي (1/372)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1495). ، والبَيضاويِّ [1684] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 127). . وأكثَرِ الحَنابِلةِ [1685] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (6/2835)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/456). .
قال الشَّافِعيُّ: (وهَكَذا غَيرُ هذا من حديثِ رَسولِ اللهِ، هو على الظَّاهرِ مِنَ العامِّ حتَّى تَأتيَ الدَّلالةُ عنه كما وصَفتُ، أو بإجماعِ المُسلِمينَ: أنَّه على باطِنٍ دون ظاهرٍ، وخاصٍّ دون عامٍّ، فيَجعَلونَه بما جاءَت عليه الدَّلالةُ عليه، ويُطيعونَه في الأمرَينِ جَميعًا) [1686] ((الرسالة)) (ص: 322). .
وقال أيضًا: (فكُلُّ كَلامٍ كان عامًّا ظاهرًا في سُنَّةِ رَسولِ اللهِ فهو على ظُهورِه وعُمومِه، حتَّى يُعلَمَ حَديثٌ ثابِتٌ عن رَسولِ اللهِ -بأبي هو وأُمِّي- يَدُلُّ على أنَّه إنَّما أُريدَ بالجُملةِ العامَّةِ في الظَّاهرِ بَعضُ الجُملةِ دونَ بَعضٍ) [1687] ((الرسالة)) (ص: 341). .
الأدِلَّةُ:
1- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: بَعَثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّرَ علينا أبا عُبَيدةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لقُرَيشٍ، وزَوَّدَنا جِرابًا [1688] الجِرابُ: وِعاءٌ مِن جِلدٍ. يُنظر: ((تفسير غريب الحديث)) لابن حجر (ص: 54). مِن تَمرٍ، لَم يَجِدْ لَنا غَيرَه، فكان أبو عُبَيدةَ يُعطينا تَمرةً تَمرةً، قال: فقُلتُ: كَيف كُنتُم تَصنَعونَ بها؟ قال: نَمَصُّها كما يَمَصُّ الصَّبيُّ، ثُمَّ نَشرَبُ عليها مِنَ الماءِ، فتَكفينا يَومَنا إلى اللَّيلِ، وكُنَّا نَضرِبُ بعِصيِّنا الخَبَطَ [1689] الخَبَطُ: ورَقُ الشَّجَرِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (2/235). ، ثُمَّ نَبُلُّه بالماءِ فنَأكُلُه! قال: وانطَلَقنا على ساحِلِ البَحرِ، فرُفِعَ لَنا على ساحِلِ البَحرِ كَهَيئةِ الكَثيبِ الضَّخمِ، فأتَيناه فإذا هيَ دابَّةٌ تُدعى العنبَرَ، قال: قال أبو عُبَيدةَ: مَيتةٌ. ثُمَّ قال: لا، بَل نَحنُ رُسُلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي سَبيلِ اللهِ، وقدِ اضطُرِرتُم فكُلوا [1690] أخرجه البخاري (4361) بنحوه، ومسلم (1935) واللَّفظُ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أبا عُبَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه حَكَم بتَنجيسِ مَيتةِ البَحرِ تَمَسُّكًا بعُمومِ القُرآنِ، ثُمَّ إنَّه استَباحَها بحُكمِ الاضطِرارِ، مَعَ أنَّ عُمومَ القُرآنِ مُخَصَّصٌ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه)) [1691] أخرجه أبو داوُد (83)، والترمذي (69)، والنسائي (59) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه البخاري كما في ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/91)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/228)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1243). ، ولَم يَكُنْ عِندَه ولا عِندَ أحَدٍ مِن أصحابِه خَبَرٌ مِن هذا المُخَصِّصِ [1692] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/51)، ((قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها)) لصفوان داوودي (1/393). .
2- أنَّ القَولَ بذلك يُؤَدِّي إلى تَعطيلِ عُموماتِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّه إمَّا أن يُشتَرَطَ القَطعُ بانتِفاءِ المُخَصِّصِ، أو يُكتَفى بالظَّنِّ، فإنِ اشتُرِطَ القَطعُ فمُستَحيلٌ؛ إذ كَيف يُقطَعُ بالعَدَمِ، وحَصرُ الأدِلَّةِ كُلِّها لا يَقومُ به مُجتَهِدٌ واحِدٌ قطعًا، فحُكمُه أن يَتَوقَّف أبدًا.
وإنِ اكتَفى بالظَّنِّ فلا بُدَّ أن يَكونَ ظَنًّا زائدًا على الظَّنِّ الحاصِلِ مِنَ العُمومِ قَبلَ البَحثِ عنِ المُخَصِّصِ، وألَّا يَكونَ البَحثُ عَبثًا لا فائِدةَ فيه، وحينَئِذٍ فلا يُفرَضُ ظَنٌّ إلَّا ويَجوزُ للمُجتَهِدِ زيادةُ ظَنٍّ فَوقَه بعَدَمِ المُخَصِّصِ، فيَقِفُ عنِ استِعمالِ اللَّفظِ [1693] يُنظر: ((تلقيح الفهوم)) للعلائي (ص: 242). .
وقيلَ: يَجِبُ التَّوقُّفُ في العَمَلِ بالعامِّ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ. فالخِطابُ إذا ورَدَ باللَّفظِ العامِّ نُظِرَ؛ فإن وُجِدَ دَليلٌ يُخَصِّصُ اللَّفظَ كان مقصورًا عليه، وإن لَم يوجَدْ دَليلٌ يُخَصِّصُه أُجريَ الكَلامُ على عُمومِه. وكذلك كُلُّ دَليلٍ يُمكِنُ مُعارَضَتُه، فلا يَجوزُ العَمَلُ بالدَّليلِ قَبلَ البَحثِ عن وُجودِ ما يُعارِضُه [1694] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 54)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/230). .
وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ [1695] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 54). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [1696] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/527)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/66)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1037). . وهو قَولُ عامَّةِ الشَّافِعيَّةِ [1697] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 28)، ((تلقيح الفهوم)) للعلائي (ص: 237). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [1698] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/457). ، كأبي الخَطَّابِ الكَلْوَذانيِّ [1699] يُنظر: ((التمهيد)) (2/65). ، والمَجدِ ابنِ تيميَّةَ [1700] يُنظر: ((المسودة)) (ص110). . وعَزاه القَرافيُّ إلى الجُمهورِ [1701] يُنظر: ((العقد المنظوم)) (2/147). .
واختَلَف أصحابُ هذا القَولِ في المُدَّةِ التي يَجِبُ فيها البَحثُ عن مُخَصِّصٍ، على أقوالٍ:
1- أنَّه يُكتَفى بأدنى نَظَرٍ وبَحثٍ، كالذي يَبحَثُ عن مَتاعٍ في بَيتٍ ولا يَجِدُه، فيَغلِبُ على ظَنِّه عَدَمُه [1702] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/64). .
2- يُكتَفى بالظَّنِّ الغالِبِ بانتِفاءِ المُخَصِّصِ بَعدَ الفَحصِ والِاستِقصاءِ في البَحثِ [1703] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/51)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/64). .
3- لا بُدَّ مِنَ القَطعِ بانتِفاء المُخَصِّصِ [1704] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/305). .
4- ليس لمُدَّةِ البَحثِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ، ولَكِنَّها مَعقولةٌ، وهذا كما أنَّ المُجتَهِدَ إذا لم يَجِدْ نَصًّا في الحادِثةِ، يَجتَهدُ حتَّى يَجِدَ ما يَتَعَلَّقُ به، وليس له في ذلك زَمَنٌ مَحدودٌ [1705] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/65). .
وقيلَ بالتَّفريقِ بَينَ مَن سَمِعَ العُمومَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ غَيرِه؛ فمَن سَمِعَه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على طَريقِ تَعَلُّمِ الحُكمِ، فالواجِبُ اعتِقادُ عُمومِه في الحالِ. ومَن سَمِعَه مِن غَيرِه لَزِمَه التَّثَبُّتُ، وطَلَبَ ما يَقتَضي تَخصيصَه، فإن فقدَه حُمِل على مُقتَضاه في العُمومِ. وهو قَولُ أبي عَبدِ اللَّهِ الجُرجانيِّ [1706] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/527)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1038)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/52). .
وقيلَ: إنَّ العُموماتِ إذا اتَّحَدَ مَعناها، وانتَشَرَت في أبوابِ الشَّريعةِ، أو تَكَرَّرَت في مواطِنَ بحَسَبِ الحاجةِ مِن غَيرِ تَخصيصٍ؛ فهيَ مُجراةٌ على عُمومِها على كُلِّ حالٍ. أمَّا إن لَم يَكُنِ العُمومُ مكَرَّرًا ولا مؤكَّدًا ولا مُنتشِرًا في أبوابِ الفِقهِ، فلا بُدَّ مِنَ البَحثِ عَمَّا يُعارِضُه أو يُخَصِّصُه. وهو قَولُ الشَّاطِبيِّ [1707] يُنظر: ((الموافقات)) (4/69). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- عُمومُ التَّطهيرِ بالماءِ:
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ أعرابيٌّ فبالَ في طائِفةِ المَسجِد، فزَجَرَه النَّاسُ، فنَهاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا قَضى بولَه أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذَنوبٍ مِن ماءٍ فأُهريقَ عليه)) [1708] أخرجه البخاري (221) واللفظ له، ومسلم (284). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ فيه دَلالةٌ على تَطهيرِ الأرضِ النَّجِسةِ بالمُكاثَرةِ بالماءِ، وأنَّه يُكتَفى بإفاضةِ الماءِ عليها، ولا يُشتَرَطُ نَقلُ التُّرابِ مِنَ المَكانِ بَعدَ ذلك؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَرِدْ عنه في هذا الحَديثِ الأمرُ بنَقلِ التُّرابِ، وظاهِرُ ذلك: الاكتِفاءُ بصَبِّ الماءِ [1709] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (ص: 126)، ((قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها)) لصفوان داوودي (1/396). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (استُدِلَّ به على جَوازِ التَّمَسُّكِ بالعُمومِ إلى أن يَظهَرَ الخُصوصُ). ثُمَّ نَقَلَ قَولَ ابنِ دَقيقِ العيدِ: (والذي يَظهَرُ أنَّ التَّمَسُّكَ يَتَحَتَّمُ عِندَ احتِمالِ التَّخصيصِ عِندَ المُجتَهِدِ، ولا يَجِبُ التَّوقُّفُ عنِ العَمَلِ بالعُمومِ لذلك؛ لأنَّ عُلَماءَ الأمصارِ ما بَرِحوا يُفتونَ بما بَلَغَهم مِن غَيرِ تَوقُّفٍ على البَحثِ عنِ التَّخصيصِ، ولهذه القِصَّةِ أيضًا؛ إذ لم يُنكِرِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الصَّحابةِ، ولَم يَقُلْ لهم: لمَ نَهَيتُمُ الأعرابيُّ؟ بَل أمَرَهم بالكَفِّ عنه للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ، وهو دَفعُ أعظَمِ المَفسَدَتَينِ باحتِمالِ أيسَرِهما، وتَحصيلُ أعظَمِ المَصلَحَتَينِ بتَركِ أيسَرِهما) [1710] ((فتح الباري)) (1/388). .
2- جَوازُ الحُكمِ عِندَ إقامةِ البَيِّنةِ بدونِ الإعذارِ إلى الغَريمِ:
جَوَّزه الشَّافِعيُّ، ومَنعَه أبو حَنيفةَ، ولا شَكَّ أنَّ حُكمَ الحاكِمِ بالبَيِّنةِ أو بالإقرارِ قَبلَ الفَحصِ عنِ المُعارِضِ كالعَمَلِ بالدَّليلِ قَبلَ الفَحصِ عن مَعارِضِه [1711] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 365). .

انظر أيضا: