موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثُ: ذِكرُ بَعضِ أفرادِ العامِّ الموافِقِ له في الحُكمِ هل يَقتَضي التَّخصيصَ؟


صورةُ المَسألةِ: إذا ورَدَ الخَبَرُ العامُّ، واقتَضى تَعليقَ الحُكمِ على أشياءَ، ثُمَّ ورَدَ خَبَرٌ خاصٌّ يَقتَضي تَعليقَ ذلك الحُكمِ على بَعضِ تلك الأشياءِ، فهَل يَدُلُّ ذلك على أنَّ ما عَداه خارِجٌ عن حُكمِ العامِّ؟
ومِثالُه: إذا نُقِلَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَفظٌ عامٌّ، كقَولِه: ((إذا دُبِغَ الإهابُ فقد طَهُرَ)) [1718] أخرجه مسلم (366) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ؛ فإنَّه عامٌّ في كُلِّ جِلدٍ غَيرِ مَدبوغٍ؛ إذِ الإهابُ اسمٌ لذلك، ونُقِل عنه لَفظٌ خاصٌّ يَتَناولُ بَعضَ ما يَتَناولُه ذلك اللَّفظُ العامُّ، كقَولِه في شاةِ مَيمونةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((هَلَّا أخَذتُم إهابَها فدَبَغْتُموه فانتَفعتُم به؟)) [1719] أخرجه البخاري (2221)، ومسلم (363) واللَّفظُ له، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، فهَل يُجعَلُ الثَّاني مُخَصِّصًا للأوَّلِ، فلا يَطهُرُ إلَّا جِلدُ مَأكولِ اللَّحمِ؟ فيه الخِلافُ [1720] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (1/329)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص:256)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1756)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص:221). .
قال القَفَّالُ الشَّاشيُّ: (فصارَ الخاصُّ كَأنَّه ورَدَ فيه خَبرانِ: خَبَرٌ يَشمَلُه ويَشمَلُ غَيرَه، وخَبَرٌ يَخُصُّه) [1721] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/300). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ ذِكرَ بَعضِ أفرادِ العامِّ الموافِقِ له في الحُكمِ لا يَقتَضي التَّخصيصَ، بَلِ الأوَّلُ باقٍ على عُمومِه.
وقد عَزى ابنُ مُفلِحٍ هذا القَولَ إلى الأئِمَّةِ الأربَعةِ [1722] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/976). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1723] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص:256)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/275)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/319)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/373). ، وجُمهورِ الأُصوليِّينَ [1724] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/335)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/848)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1755). ، واختارَه مِنهمُ الكَلْوَذانيُّ [1725] يُنظر: ((التمهيد)) (2/175). ، والأسمَنديُّ [1726] يُنظر: ((بذل النظر)) (ص:256). ، والرَّازيُّ [1727] يُنظر: ((المحصول)) (3/129). ، وابنُ الحاجِبِ [1728] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/848)، ((منتهى الوصول والأمل)) (ص:98). ، والقَرافيُّ [1729] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:219)، ((العقد المنظوم)) (2/369). ، وتاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ [1730] يُنظر: ((الإبهاج)) (4/1535)، ((رفع الحاجب)) (3/351)، ((جمع الجوامع)) (ص:52). ، وحَكاه الجارَبَرديُّ عنِ المُحَقِّقينَ [1731] يُنظر: ((السراج الوهاج)) (1/587). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ لَفظَ العُمومِ يَقتَضي الاستِغراقَ، ولا يُخصُّ إلَّا بما يُنافيه؛ لأنَّ التَّخصيصَ مَوقوفٌ على التَّنافي؛ إذ إنَّ المُخَصِّصَ للعامِّ لا بُدَّ أن يَكونَ بَينَه وبَينَ العامِّ مُنافاةٌ، وذِكرُ بَعضِ العامِّ بحُكمِ العامِّ غَيرُ مُنافٍ له، فلا يَكونُ مُخَصِّصًا له؛ لأنَّه لا مُنافاةَ بَينَ كُلِّ الشَّيءِ وبَعضِه؛ لأنَّ الكُلَّ مُحتاجٌ إلى البَعضِ، والمُحتاجُ إليه لا يُنافي المُحتاجَ.
وهنا لا تَنافيَ بَينَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شاةِ مَيمونةَ: ((دِباغُها طَهورُها)) [1732] أخرجه مسلم (366) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولَفظُه: ((دِباغُه طُهورُه)). ، وبَينَ قَولِه: ((أيُّما إهابٍ دُبِغ فقد طَهُرَ)) [1733] أخرجه الترمذي (1728)، والنسائي (4241)، وابن ماجه (3609) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/469)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1288)، والنووي في ((المجموع)) (1/214)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/584). وأخرجه مسلم (366) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: ((إذا دُبِغَ الإهابُ فقد طَهُرَ)). ، فلَم يَجُزْ تَخصيصُه [1734] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/176)، ((المحصول)) للرازي (3/330)، ((الإحكام)) للآمدي (2/335)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (2/371)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1757). .
2- أنَّ الخاصَّ ليس مُعارِضًا للعامِّ؛ لتَوافُقِ حُكمِهما، فيُعمَلُ بهما؛ لأنَّ العَمَلَ بالدَّليلِ هو الأصلُ [1735] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/337)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/275). ، وبَيانُ ذلك أنَّ اللَّفظَينِ لا تَناقُضَ بَينَهما، فيُجمَعُ بَينَ المَدلولَينِ، وإنَّما يُقضى بالخاصِّ على العامِّ عِندَ التَّضادِّ في الحُكمَينِ، ولا تَضادَّ بَينَهما؛ فإنَّهما يَدُلَّانِ على جَوازِ الدِّباغِ، كما في المِثالِ السَّابِقِ المَذكورِ في صورةِ المَسألةِ [1736] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (1/329). .
وقيلَ: إنَّ ذِكرَ بَعضِ أفرادِ العامِّ الموافِقِ له في الحُكمِ يَقتَضي التَّخصيصَ. وهو قَولُ أبي ثَورٍ [1737] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (1/329)، ((المحصول)) للرازي (3/129)، ((الإحكام)) للآمدي (2/408)، ((السراج الوهاج)) للجاربردي (1/587). .
قال الإسنَويُّ: (اختَلَفوا في تَحريرِ مَذهَبِ أبي ثَورٍ: فنَقَلَ عنه الإمامُ في (المَحصولِ): أنَّ المَفهومَ مُخرِجٌ لِما عَدا الشَّاةَ. ونَقَلَ عنه ابنُ بَرْهانَ في (الوجيزِ)، وإمامُ الحَرَمَينِ في بابِ الآنيةِ مِن (النِّهايةِ): أنَّ المَفهومَ مُخرِجٌ لِما لا يُؤكَلُ لَحمُه) [1738] ((نهاية السول)) (ص:221). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ فيما إذا أذِنَتِ المَرأةُ لأوليائِها في التَّزويجِ، ثُمَّ أذِنَت فيه أيضًا لواحِدٍ مُعَيَّنٍ، فهَل يَكونُ مَنعًا لغَيرِه؟ على وجهَينِ: أصَحُّهما في زايادات الروضة: لا. [1739] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص:416). .

انظر أيضا: