موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: التَّخصيصُ بالإجماعِ


يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بالإجماعِ، ويُفارِقُ هذا النَّسخَ بالإجماعِ فإنَّه لا يَجوزُ؛ لأنَّ الإجماعَ إنَّما يَنعَقِدُ بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَعدَ وفاتِه انقَطَعَ النَّسخُ؛ فلا يَصِحُّ أن يُنسَخَ به، وليس كذلك التَّخصيصُ؛ لأنَّه يَقتَرِنُ باللَّفظِ دَليلٌ يُخرِجُ منه ما ليس مُرادًا، فإذا انعَقدَ الإجماعُ على تَخصيصِه عُلِمَ أنَّه خِطابٌ عامٌّ أُريدَ به الخاصُّ، والنَّسخُ بالإجماعِ على هذا يُتَصَوَّرُ؛ فإنَّ المُسلِمينَ إذا أجمَعوا على تَركِ خَبَرٍ؛ تَبَيَّنَّا بالإجماعِ أنَّه مَنسوخٌ، لا أنَّ الإجماعَ يَنسَخُه [1845] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/578)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/396). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (مَعنى قَولِنا: يَجوزُ تَخصيصُ الكِتابِ بالإجماعِ: أنَّهم يُجمِعونَ على تَخصيصِ العامِّ بدَليلٍ آخَرَ، فالمُخَصِّصُ سَنَدُ الإجماعِ، ثُمَّ يَلزَمُ مَن بَعدَهم مُتابَعَتُهم وإن جَهِلوا المُخَصِّصَ. وليس مَعناه: أنَّهم خَصُّوا العامَّ بالإجماعِ؛ لأنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ المُتَواتِرةَ مَوجودانِ في عَهدِه عليه السَّلامُ، وانعِقادُ الإجماعِ بَعدَ ذلك على خِلافِه خَطَأٌ، فالذي جَوَّزناه إجماعٌ على التَّخصيصِ، لا تَخصيصٌ بالإجماعِ. واللهُ أعلَمُ) [1846] ((الإبهاج)) (4/1470). ويُنظر في ذلك: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص:213). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ مَقطوعٌ بها، فإذا جازَ التَّخصيصُ بالمَظنوناتِ مِنَ الأدِلَّةِ، كخَبَرِ الواحِدِ والقياسِ، فلأن يَجوزَ بالدَّليلِ القَطعيِّ أَولى، فكان بالإجماعِ أحَقَّ [1847] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/578)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/396)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/231). .
2- أنَّ الإجماعَ قاطِعٌ، والعامُّ يَتَطَرَّقُ إليه الاحتِمالُ، وإجماعُهم على الحُكمِ في بَعضِ صُوَرِ العامِّ على خِلافِ مُوجِبِ العُمومِ لا يَكونُ إلَّا عن دَليلٍ قاطِعٍ بَلَغَهم في نَسخِ اللَّفظِ، إن كان أُريدَ به العُمومُ، أو عَدَم دُخولِه تَحتَ الإرادةِ عِندَ ذِكرِ العُمومِ، فإذا رَأينا أهلَ الإجماعِ قاضِينَ بما يُخالِفُ العُمومَ في بَعضِ الصُّوَرِ عَلِمنا أنَّهم ما قَضَوا به إلَّا وقدِ اطَّلَعوا على دَليلٍ مُخَصِّصٍ له؛ نَفيًا للخَطَأِ عنهم [1848] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/62)، ((الإحكام)) للآمدي (2/327). .
3- الوُقوعُ، ومِن ذلك:
أ- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] ، ثُمَّ خُصَّ الإماءُ بجَلدِ الخَمسينَ بقَولِ اللهِ تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ [النساء: 25] ، ولَم يُذكَرِ العَبدُ، واتَّفقَتِ الأُمَّةُ على أنَّ العَبدَ يُجلَدُ خَمسينَ، فخَصَصنا الآيةَ بالإجماعِ [1849] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/146). .
ب- أنَّ الإجماعَ خَصَّصَ العَبدَ مِن آيةِ الجَلدِ، وهيَ قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ؛ لأنَّ الإجماعَ انعَقدَ على أنَّه يُنَصَّفُ على العَبدِ [1850] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/327)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1469)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 213). .
ج- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الفاتحة: 9] خُصَّ بالإجماعِ على عَدَمِ وُجوبِ الجُمُعةِ على العَبدِ والمَرأةِ [1851] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1633). .

انظر أيضا: