موسوعة أصول الفقه

الفرعُ السَّابِعُ: حُكمُ التَّخصيص بقَولِ الصَّحابيِّ


المُرادُ بقَولِ الصَّحابيِّ: هو مَذهَبُ الصَّحابيِّ في المَسألةِ الفِقهيَّةِ الاجتِهاديَّةِ، سَواءٌ أكان ما نُقِلَ عنِ الصَّحابيِّ قولًا أم فعلًا [1950] يُنظر: ((تربية ملكة الاجتهاد)) لبولوز (2/960). .
والمُرادُ بالتَّخصيصِ بقَولِه: أن يَكونَ الخَبَرُ عامًّا فيَخُصُّه الصَّحابيُّ بأحَدِ أفرادِه، سَواءٌ كان هو الرَّاويَ لذلك الحَديثِ أو لَم يَكُنْ هو الرَّاويَ له [1951] يُنظر: ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص: 84)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/527)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/344). .
فعن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ عن مَعمَرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ نَضلةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَحتَكِرُ إلَّا خاطِئٌ)). فقيلَ لسَعيدٍ: فإنَّك تَحتَكِرُ! فقال: إنَّ مَعمَرًا الذي كان يُحَدِّثُ هذا الحَديثَ كان يَحتَكِرُ [1952] أخرجه مسلم (1605). ! فقيلَ: (كانا يَحتَكِرانِ الزَّيتَ، وحَمَلا الحَديثَ على احتِكارِ القوتِ عِندَ الحاجةِ إليه والغَلاءِ) [1953] يُنظر: ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص: 84)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/345). ويُنظر أيضًا: ((الاستذكار)) (6/ 410)، ((الاستيعاب)) (3/ 1434) كلاهما لابنِ عبدِ البر. .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في قَولِ الصَّحابيِّ وفِعلِه ومَذهَبِه هَل يُخَصِّصُ العُمومَ؟
فقيلَ: إنَّ مَذهَبَ الصَّحابيِّ إذا كان على خِلافِ ظاهرِ العُمومِ فإنَّه لا يَكونُ مُخَصِّصًا له، سَواءٌ كان هو الرَّاويَ للخَبَرِ العامِّ أو لَم يَكُنْ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ [1954] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/344). ، والشَّافِعيِّ في القَولِ الجَديدِ [1955] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/333). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ المالِكيَّةِ [1956] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/845)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/344). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [1957] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 149)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/342)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/528). ، وجُمهورِ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ [1958] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/333)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/845)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/342). ، وصَحَّحه الباقِلَّانيُّ [1959] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/209). .
وذلك لأنَّ العامَّ إذا ثَبَتَ فهو دَليلٌ ظاهرٌ فيما اقتَضاه مِنَ التَّعميمِ، ولَم يوجَدْ له ما يَصلُحُ أن يَكونَ مُعارِضًا له سِوى قَولِ الصَّحابيِّ أو فِعلِه، وهو غَيرُ صالِحٍ لمُعارَضَتِه؛ حَيثُ إنَّه غَيرُ مُستَنِدٍ إلى نَصٍّ يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ بذلك العامِّ هو الخاصُّ، وعليه فلا يَقوى قَولُ الصَّحابيِّ ومَذهَبُه على تَخصيصِ العامِّ [1960] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/210)، ((الإحكام)) للآمدي (2/333)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 219)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1635). .
وقيلَ: يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بقَولِ الصَّحابيِّ ومَذهَبِه إذا انتَشَرَ ولَم يَظهَرْ خِلافُه، وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [1961] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/128). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [1962] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/579)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/119)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/398). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1963] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/290)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/326). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ [1964] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/274). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1965] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/189). كأبي حامِدٍ الإسْفِرايِينيّ [1966] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/528). ، والشِّيرازيِّ [1967] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 36)، ((شرح اللمع)) (1/381). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [1968] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 123). كأبي يَعلى [1969] يُنظر: ((العدة)) (2/579). ، والكَلْوَذانيِّ [1970] يُنظر: ((التمهيد)) (2/119). ، وابنِ عَقيلٍ [1971] يُنظر: ((الواضح)) (3/397). ، ونَقله الآمِديُّ عن جَماعةٍ مِنَ الفُقَهاءِ [1972] يُنظر: ((الإحكام)) (2/333). .
وذلك لأنَّ قَولَ الصَّحابيِّ حُجَّةٌ يُقدَّمُ على القياسِ، وقد تَقدَّمَ أنَّ تَخصيصَ العُمومِ بالقياسِ جائِزٌ، فقَولُ الصَّحابيِّ المُقدَّمُ عليه أَولى أن يُخَصَّصَ به [1973] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 528)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1636). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ، منها:
حَديثُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن بَدَّلَ دينَه فاقتُلوه)) [1974] أخرجه البخاري (3017) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ؛ فإنَّ لَفظَ "مَن" عامٌّ يَشمَلُ المُذَكَّرَ والمُؤَنَّثَ عِندَ جُمهورِ العُلَماءِ، وقد رُويَ عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في النِّساءِ إذا ارتَدَدنَ عنِ الإسلامِ: (النِّساءُ إذا هنَّ ارتَدَدنَ لا يُقتَلْنَ، ولَكِنْ يُحبَسْنَ ويُدْعَينَ إلى الإسلامِ ويُجبَرْنَ عليه) [1975] أخرجه أبو يوسف القاضي في ((الخراج)) (ص197)، وابن أبي شيبة (33443) باختِلافٍ يَسيرٍ، بلفظ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قال: (لا تُقتَلُ النِّساءُ إذا ارتَدَدنَ عنِ الإسلامِ، ولَكِن يُحبَسْنَ ويُدعَينَ إلى الإسلامِ ويُجبَرنَ عليه). قال ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (12/280): خالَفه جَماعةٌ مِنَ الحُفَّاظِ في لَفظِ المَتنِ، وقال في ((الدراية)) (2/137): تابع أبو مالِكٍ النَّخعيُّ أحَدُ الضُّعَفاءِ أبا حَنيفةَ على رِوايَتِه إيَّاه عن عاصِمٍ. ، فخَصَّ الحَديثَ بالرِّجالِ. فهَل يُخَصَّصُ عُمومُ الحَديثِ بمَذهَبِه أو لا؟
فعلى المَذهَبِ الرَّاجِحِ: لا يُخَصَّصُ عُمومُ الحَديثِ بقَولِ ومَذهَبِ ابنِ عَبَّاسٍ، وعليه: تُقتَلُ المَرأةُ إذا ارتَدَّت.
وعلى المَذهَبِ الثَّاني: يُخَصَّصُ ذلك العُمومُ بقَولِ ابنِ عَبَّاسٍ، وعلى ذلك: لا تُقتَلُ المَرأةُ إذا ارتَدَّت [1976] يُنظر: ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص: 84)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/344)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1637). .

انظر أيضا: