موسوعة أصول الفقه

الفرعُ التَّاسِعُ: التَّخصيصُ بالمَصلَحةِ


المُرادُ بالتَّخصيصِ بالمَصلَحةِ: أن يَثبُتَ لِما خُصِّصَ مِن أفرادِ العامِّ بالمَصلَحةِ حُكمٌ مُخالِفٌ لحُكمِ العامِّ [1995] يُنظر: ((المناهج الأصولية)) للدريني (ص: 183). .
والتَّخصيصُ المَقصودُ هنا: هو أن تَكونَ المَصلَحةُ القَطعيَّةُ حاكِمةً على النَّصِّ. وبَيانُ ذلك: أنَّه قد ورَدَت نُصوصٌ وأدِلَّةٌ شَرعيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تُفيدُ وُجوبَ العَمَلِ بالمَصلَحةِ مُطلَقًا، وتلك الأدِلَّةُ الكُلِّيَّةُ حاكِمةٌ على النُّصوصِ والأدِلَّةِ الجُزئيَّةِ، وذلك حَيثُ تَتَعارَضُ فيما بَينَها، بحَيثُ يَكونُ ظاهِرُ الدَّليلِ مُتَقاعِدًا عن تَحصيلِ المَصلَحةِ التي ثَبَتَ بالأدِلَّةِ الكُلِّيَّةِ أنَّها مَقصودُ الشَّارِعِ مِنَ التَّشريعِ، وأنَّ تَطبيقَه على الظَّاهرِ مِمَّا يَقَعُ به الضَّرَرُ الذي ثَبَتَ بالأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ الكُلِّيَّةِ كَونُ رَفعِه مَقصودًا للشَّارِعِ مِنَ التَّشريعِ، فتَكونُ الأدِلَّةُ الكُلِّيَّةُ حاكِمةً على الأدِلَّةِ الجُزئيَّةِ، بأن تُقدَّمَ الكُلِّيَّةُ على الجُزئيَّةِ بالعَمَلِ في القَدرِ الذي وقَعَ فيه التَّعارُضُ. فمَعنى التَّخصيصِ هو التَّقديمُ، وتَقديمُ المَصلَحةِ على النَّصِّ في الحَقيقةِ هو تَقديمُ الأدِلَّةِ الكُلِّيَّةِ التي ثَبَتَت بها المَصلَحةُ على الأدِلَّةِ الجُزئيَّةِ [1996] يُنظر: ((تخصيص النص بالمصلحة المرسلة)) للسيد راضي (ص: 517). .
قال الشَّاطِبيُّ: (كُلُّ أصلٍ شَرعيٍّ لَم يَشهَدْ له نَصٌّ مُعَيَّنٌ، وكان مُلائِمًا لتَصَرُّفاتِ الشَّرعِ، ومَأخوذًا مَعناه مِن أدِلَّتِه؛ فهو صحيحٌ يُبنى عليه، ويُرجَعُ إليه إذا كان ذلك الأصلُ قد صارَ بمَجموعِ أدِلَّتِه مَقطوعًا به؛ لأنَّ الأدِلَّةَ لا يَلزَمُ أن تَدُلَّ على القَطعِ بالحُكمِ بانفِرادِها دونَ انضِمامِ غَيرِها إليها كما تَقدَّمَ؛ لأنَّ ذلك كالمُتَعَذِّرِ. ويَدخُلُ تَحتَ هذا ضَربُ الاستِدلالِ المُرسَلِ الذي اعتَمَدَه مالِكٌ والشَّافِعيُّ؛ فإنَّه وإن لَم يَشهَدْ للفَرعِ أصلٌ مُعَيَّنٌ؛ فقد شَهدَ له أصلٌ كُلِّيٌّ، والأصلُ الكُلِّيُّ إذا كان قَطعيًّا قد يُساوي الأصلَ المُعيَّنَ، وقد يَربو عليه بحَسَبِ قوَّةِ الأصلِ المُعَيَّنِ وضَعفِه، كما أنَّه قد يَكونُ مَرجوحًا في بَعضِ المَسائِلِ) [1997] ((الموافقات)) (1/32). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في تَخصيصِ النَّصِّ العامِّ بالمَصلَحةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ تَخصيصُه بالمَصلَحةِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [1998] يُنظر: ((أثر تخصيص العام بالمصلحة المرسلة)) للمرزوقي (ص: 463)، ((تخصيص النص بالمصلحة)) لأيمن جبرين (ص: 71)، ((المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي)) لمحمد بوركاب (ص: 452)، ((تخصيص النص بالمصلحة المرسلة)) للسيد راضي (ص: 543). ، ومِنهم: الطُّوفيُّ [1999] يُنظر: ((التعيين في شرح الأربعين)) (ص: 238)، ((شرح مختصر الروضة)) (3/216). ، وحَكاه ابنُ العَرَبيِّ عن مالِكٍ، فقال: (العُمومُ إذا استَمَرَّ والقياسُ إذا اطَّرَدَ، فإنَّ مالِكًا وأبا حَنيفةَ يَرَيانِ تَخصيصَ العُمومِ بأيِّ دَليلٍ كان، مِن ظاهرٍ أو مَعنًى، ويَستَحسِنُ مالِكٌ أن يُخَصَّ بالمَصلَحةِ) [2000] ((أحكام القرآن)) (2/278). ويُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/197). .
وأشارَ الغَزاليُّ إلى وُجودِ اتِّفاقٍ عليه؛ حَيثُ قال في مَسألةِ قَتلِ الزِّنديقِ: (فهذا لَو قَضَينا به يَعني: قَتلَ الزِّنديقِ فحاصِلُه استِعمالُ مَصلَحةٍ في تَخصيصِ عُمومٍ، وذلك لا يُنكِرُه أحَدٌ) [2001] ((المستصفى)) (ص: 176). .
الأدِلَّةُ:
1- فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجِعْرانةِ مُنصَرَفَه مِن حُنَينٍ، وفي ثَوبِ بِلالٍ فِضَّةٌ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقبِضُ منها، يُعطي النَّاسَ، فقال: يا مُحَمَّدُ، اعدِلْ! قال: ويلَك ومَن يَعدِلُ إذا لم أكُنْ أعدِلُ؟! لَقد خِبتَ وخَسِرتَ إن لَم أكُنْ أعدِلُ! فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: دَعْني، يا رَسولَ اللهِ فأقتُلَ هذا المُنافِقَ، فقال: مَعاذَ اللَّهِ أن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أنِّي أقتُلُ أصحابي)) [2002] أخرجه البخاري (3138) مختصرًا بنحوه، ومسلم (1063) واللفظ له. .
فقد تَركَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَتلَ هؤلاء المُنافِقينَ؛ لمَصلَحةِ تَأليفِ القُلوبِ عليه لئَلَّا تَنفِرَ عنه؛ ولذلك قال: ((مَعاذَ اللَّهِ أن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أنِّي أقتُلُ أصحابي)) [2003] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/199). .
ولذلك تَرجَمَ البخاريُّ للحَديثِ بقَولِه: (بابُ مَن تَرَك قِتالَ الخَوارِجِ؛ للتَّألُّفِ ولئَلَّا يَنفِرَ النَّاسُ عنه) قال ابنُ حَجَرٍ: (أشارَ إلى أنَّه لَوِ اتَّفقَت حالةٌ مِثلُ حالةِ المَذكورِ، فاعتَقدَت فِرقةٌ مَذهَبَ الخَوارِجِ مَثَلًا ولَم يَنصِبوا حَربًا أنَّه يَجوزُ للإمامِ الإعراضُ عنهم إذا رَأى المَصلَحةَ في ذلك، كَأن يَخشى أنَّه لَو تَعَرَّضَ للفِرقةِ المَذكورةِ لَأظهَرَ مَن يُخفي مِثلَ اعتِقادِهم أمرَه وناضَلَ عنهم، فيَكونُ ذلك سَبَبًا لخُروجِهم ونَصبِهمُ القِتالَ للمُسلِمينَ مَعَ ما عُرِف مِن شِدَّةِ الخَوارِجِ في القِتالِ وثَباتِهم وإقدامِهم على المَوتِ) [2004] ((فتح الباري)) (12/291). .
2- فِعلُ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ رَضِيَ اللهُ عنهم، وقد تَكَرَّرَ ذلك مِنهم في وقائِعَ كَثيرةٍ، حَكَموا فيها بناءً على تَخصيصِ النَّصِّ بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ [2005] يُنظر: ((تخصيص النص بالمصلحة المرسلة)) للسيد راضي (ص: 525). .
ومِن أمثِلةِ ذلك: توقُّفُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في قِسمةِ الأرضِ المَفتوحةِ على الفاتِحينَ، مَعَ ما ثَبَتَ مِن قِسمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لخَيبَرَ؛ لمَّا رَأى ذلك مُنافيًا لِما قَصَدَت إليه الشَّريعةُ مِنَ العَدلِ بَينَ الأجيالِ بَعضِها وبَعضٍ؛ فعن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (أمَا والذي نَفسي بيَدِه لَولا أن أترُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا [2006] أي: شَيئًا واحِدًا، والمَعنى: أنَّهم يستوون في الفقرِ والحِرمانِ؛ إذ لا شَيءَ لهم يَرجِعونَ إليه؛ ولذلك قال: لَكِنِّي أترُكُها خِزانةً لهم يَقتَسِمونَها، أي: يَنتَفِعونَ بفوائِدِها مَعَ بَقاءِ أصلِها لهم، كالعِراقِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/123)، ((التوضيح)) لابن الملقن (15/268). ليس لهم شَيءٌ، ما فُتِحَت عليَّ قَريةٌ إلَّا قَسَمتُها كما قَسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيبَرَ، ولَكِنِّي أترُكُها خِزانةً لهم يَقتَسِمونَها) [2007] أخرجه البخاري (4235). .
فلَمَّا رَأى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه المَصلَحةَ في إبقاءِ الأرضِ وفَرضِ الخَراجِ عليها، فَعَله؛ فهو قد فَهِمَ أنَّ هذا الأمرَ مُفوَّضٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باعتِبارِه إمامًا يَختارُ الأصلَحَ للأُمَّةِ، ولَولا ذلك ما ساغَ له أن يُخالِفَ حُكمَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [2008] يُنظر: ((الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية)) لشلبي (ص: 153). .
قال ابنُ قُدامةَ: (قِسمةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيبَرَ كان في بَدءِ الإسلامِ، وشِدَّةِ الحاجةِ، فكانتِ المَصلَحةُ فيه، وقد تَعَيَّنَتِ المَصلَحةُ فيما بَعدَ ذلك في وقَفِ الأرضِ، فكان ذلك هو الواجِبَ) [2009] ((المغني)) (4/189). .
وقيلَ: لا يَجوزُ تَخصيصُ النَّصِّ بالمَصلَحةِ. وقد قال بهذا كُلُّ مَن لَم يَقُلْ بحُجِّيَّةِ المَصالِحِ المُرسَلةِ [2010] يُنظر: ((تخصيص النص بالمصلحة المرسلة)) للسيد راضي (ص: 523). ، وبه قال بَعضُ المُعاصِرينَ [2011] يُنظر: ((أثر تخصيص العام بالمصلحة المرسلة)) للمرزوقي (ص: 465)، ((تخصيص النص بالمصلحة المرسلة)) للسيد راضي (ص: 523). .
شُروطُ التَّخصيصِ بالمَصلَحةِ:
سَبَقَ -في دَليلِ المَصلَحةِ المُرسَلةِ- ذِكرُ شُروطِ الاستِدلالِ بالمَصلَحةِ المُرسَلةِ، وهذه الشُّروطُ يَجِبُ تَوافُرُها في التَّخصيصِ بالمَصلَحةِ، حتَّى لا يَكونَ التَّخصيصُ بها بابًا للتَّشريعِ بالهَوى والتَّشَهِّي، ويُمكِنُ إيجازُ هذه الشُّروطِ على النَّحوِ التَّالي:
1- أن تَكونَ المَصلَحةُ حَقيقيَّةً ولَيسَت مَصلَحةً وهميَّةً.
2- أن تَكونَ مَصلَحةً عامَّةً ولَيسَت مَصلَحةً شَخصيَّةً.
3- أن لا يُعارِضَ التَّشريعُ لهذه المَصلَحةِ حُكمًا أو مَبدَأً ثَبَتَ بالنَّصِّ أوِ الإجماعِ أو مَصلَحةً أعظَمَ منها.
4- أن تَكونَ في مَواضِعِ الاجتِهادِ، لا في المَواضِعِ التي يَتَعَيَّنُ فيها التَّوقيفُ، كأُصولِ العِباداتِ.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
1- استِعمالُ التَّخديرِ الطِّبِّيّ في العَمَليَّاتِ الجِراحيَّةِ:
ورَدَ النَّهيُ العامُّ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كُلِّ مُسكِرٍ، فعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا، فماتَ وهو يُدمِنُها لَم يَتُبْ، لَم يَشرَبْها في الآخِرةِ)) [2012] أخرجه البخاري (5575) بنحوه مختصرًا، ومسلم (2003) واللفظ له. .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((كُلُّ شَرابٍ أسكَرَ فهو حَرامٌ)) [2013] أخرجه البخاري (242)، ومسلم (2001). .
ولا شَكَّ أنَّ المُخَدِّراتِ مُفسِدةٌ للعَقلِ والفِكرِ والبَدَنِ، والكَرامةِ الإنسانيَّةِ؛ حَيثُ تَهتَزُّ شَخصيَّةُ الإنسانِ، ويُصبِحُ مَوضِعَ الهُزءِ والسُّخريَّةِ، وفريسةً للأمراضِ المُتَعَدِّدةِ [2014] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلته)) لوهبة الزحيلي (7/5511). ، وإنَّما يَتَناوَلُها الفُجَّارُ لِما فيها مِنَ النَّشوةِ والطَّرَبِ، وهيَ تُجامِعُ الشَّرابَ المُسكِرَ في ذلك، فالخَمرُ توجِبُ الحَرَكةَ والخُصومةَ، وهذه توجِبُ الفُتورَ والذِّلَّةَ، وفيها مَعَ ذلك مِن فسادِ المِزاجِ والعَقلِ، وفَتحِ بابِ الشَّهوةِ، وما توجِبُه مِنَ الدِّياثةِ [2015] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/211). .
ومِن هنا تَدخُلُ المُخَدِّراتُ في التَّحريمِ بلا شَكٍّ؛ فقد قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: (الخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ) [2016] أخرجه البخاري (4619)، ومسلم (3032). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ ما يُغَيِّبُ العَقلَ فإنَّه حَرامٌ وإن لَم تَحصُلْ به نَشوةٌ ولا طَرَبٌ؛ فإنَّ تَغَيُّبَ العَقلِ حَرامٌ بإجماعِ المُسلِمينَ) [2017] ((مجموع الفتاوى)) (34/211). .
ويُستَثنى مِن عُمومِ النَّهيِ: استِعمالُ التَّخديرِ الطِّبِّيِّ لمَصلَحةِ المَريضِ؛ حَيثُ إنَّه لا يُمكِنُ إجراءُ الجِراحاتِ الطِّبِّيَّةِ إلَّا به.
قال النَّوويُّ: (ما يُزيلُ العَقلَ مِن غَيرِ الأشرِبةِ، كالبَنجِ، حَرامٌ ... ولَوِ احتيجَ في قَطعِ اليَدِ المُتَآكِلةِ إلى زَوالِ عَقلِه هَل يَجوزُ ذلك؟ يُخَرَّجُ على الخِلافِ في التَّداوي بالخَمرِ، قُلتُ: الأصَحُّ الجَوازُ ... ولَوِ احتاجَ إلى دَواءٍ يُزيلُ العَقلَ لغَرَضٍ صحيحٍ جازَ تَناوُلُه قَطعًا) [2018] ((روضة الطالبين)) (10/171). .
وقال ابنُ اللَّحَّامِ: (وقال القاضي في الجامِعِ الكَبيرِ: إن زالَ عَقلُه بالبَنجِ، نَظرتَ؛ فإن تَداوى به فهو مَعذورٌ) [2019] ((القواعد والفوائد الأصولية)) (ص: 62). .
2- ما يَجوزُ بَيعُه مَعَ الغَرَرِ:
ورَدَ العُمومُ في نَهيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الغَرَرِ؛ فعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ)) [2020] أخرجه مسلم (1513). .
والنَّهيُ عن بَيعِ الغَرَرِ أصلٌ عَظيمٌ مِن أُصولِ كِتابِ البُيوعِ، فيَدخُلُ تَحتَه مَسائِلُ كَثيرةٌ جِدًّا؛ كبَيعِ المَجهولِ، وما لا يُقدَرُ على تَسليمِه، وما لَم يَتِمَّ مِلكُ البائِعِ عليه، وبَيعِ السَّمَكِ في الماءِ الكَثيرِ، واللَّبَنِ في الضَّرعِ، وبَيعِ الحَملِ في البَطنِ، وما أشبَهَ ذلك.
ويُستَثنى مِن بَيعِ الغَرَرِ أمرانِ:
1- ما يَدخُلُ في المَبيعِ تَبَعًا بحَيثُ لَو أُفرِدَ لَم يَصِحَّ بَيعُه، مِثلُ: بيعِ أساسِ الدَّارِ، والدَّابَّةِ التي في ضَرعِها اللَّبَنُ، والحامِلِ.
2- ما يُتَسامَحُ بمِثلِه، إمَّا لحَقارَتِه، أو للمَشَقَّةِ في تَمييزِه وتَعيينِه، مِثلُ الجُبَّةِ المَحشوَّةِ، والشُّربِ مِنَ السِّقاءِ [2021] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/156)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/357). .
وقد بَيَّنَ الشَّاطِبيُّ أنَّ وَجهَ الاستِثناءِ فيه بناءً على المَصلَحةِ القاضيةِ برَفعِ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عنِ المُكَلَّفينَ، فقال: (قد نَهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن بَيعِ الغَرَر، وذَكَر منه أشياءَ... وإذا أخَذنا بمُقتَضى مُجَرَّدِ الصِّيغةِ امتَنَعَ علينا بَيعُ كَثيرٍ مِمَّا هو جائِزٌ بَيعُه وشِراؤُه؛ كبَيعِ الجَوزِ واللَّوزِ في قِشرِها... بَل كان يَمتَنِعُ كُلُّ ما فيه وجهٌ مُغَيَّبٌ؛ كالدِّيارِ، والحَوانيتِ المُغَيَّبةِ الأُسُسِ، والأنقاضِ، وما أشبَهَ ذلك مِمَّا لا يُحصى، ولَم يَأتِ فيه نَصٌّ بالجَوازِ، ومِثلُ هذا لا يَصِحُّ فيه القَولُ بالمَنعِ أصلًا؛ لأنَّ الغَرَرَ المَنهيَّ عنه مَحمولٌ على ما هو مَعدودٌ عِندَ العُقَلاءِ غَرَرًا مُتَرَدِّدًا بَينَ السَّلامةِ والعَطَبِ؛ فهو مِمَّا خُصَّ بالمَعنى المَصلَحيِّ، ولا يُتَّبَعُ فيه اللَّفظُ بمَجرَّدِه) [2022] ((الموافقات)) (3/417). .
3- قَبولُ شَهادةِ الصِّبيانِ بَعضِهم على بَعضٍ في الجِراحِ في أماكِنِهمُ الخاصَّةِ، وقَبلَ أن يَتَفرَّقوا.
قال مالِكٌ: (الأمرُ المُجتَمَعُ عليه عِندَنا أنَّ شَهادةَ الصِّبيانِ تَجوزُ فيما بَينَهم مِنَ الجِراحِ، ولا تَجوزُ على غَيرِهم، وإنَّما تَجوزُ شَهادَتُهم فيما بَينَهم مِنَ الجِراحِ وحدَها، لا تَجوزُ في غَيرِ ذلك، إذا كان ذلك قَبلَ أن يَتَفرَّقوا، أو يُخَبَّبوا أو يَعلَموا. فإنِ افتَرَقوا فلا شَهادةَ لهم إلَّا أن يَكونوا قد أشهَدوا العُدولَ على شَهادَتِهم قَبلَ أن يَتَفرَّقوا) [2023] ((الموطأ)) (2/726). .
وقَبولُ شَهادَتِهم يُعَدُّ تَخصيصًا لقَولِ اللهِ تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة: 282] ، وكَلِمةُ رِجَالِكُمْ المُرادُ بها البالِغونَ مِن ذُكورِكُم؛ لأنَّ الطِّفلَ لا يُقالُ له رَجُلٌ، وكذا المَرأةُ لا يُقالُ لها رَجُلٌ أيضًا، وإنَّما أمَر اللهُ تعالى بإشهادِ البالِغِ؛ لأنَّه الذي يَصِحُّ أن يُؤَدِّيَ الشَّهادةَ [2024] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/333). .
ووجهُ التَّخصيصِ هنا أنَّ العَدالةَ والبُلوغَ شَرطٌ في أداءِ الشَّهادةِ، إلَّا أنَّ مالِكًا استَثنى مِن ذلك حالةَ شَهادةِ بَعضِهم على بَعضٍ في الجِراحِ قَبلَ أن يَتَفرَّقوا لمَصلَحةِ حِفظِ الدِّماءِ، ولَوِ اشتُرِطَت شَهادةُ البالِغينَ هنا لَضاعَتِ الحُقوقُ؛ إذ ليس مِن عادةِ الكِبارِ أن يَحضُروا مَجالِسَ الصِّغارِ، فهذه مَصلَحةٌ لا يَشهَدُ لعَينِها نَصٌّ خاصٌّ، ولَكِن شَهِدَ لجِنسِها مَجموعُ النُّصوصِ التي اعتَبَرَت صَونَ الحُقوقِ، خاصَّةً إذا تَعَلَّقَت بالدِّماءِ [2025] يُنظر: ((المصالح المرسلة)) لمحمد بوركاب (ص: 478). .
قال ابنُ رُشدٍ: (وإجازةُ مالِكٍ لذلك هو مِن بابِ إجازَتِه قياسَ المَصلَحةِ) [2026] ((بداية المجتهد)) (4/246). .

انظر أيضا: