موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّاني: الفاءُ


الفاءُ هيَ أحَدُ حُروفِ العَطفِ، وتُفيدُ التَّرتيبَ والتَّعقيبَ [2503] التَّعقيبُ: هو وُقوعُ الثَّاني بَعدَ الأوَّلِ بلا مُهلةٍ، ويَكونُ في كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه، فيُقالُ: تَزَوَّجَ خالِدٌ فوُلِدَ له، إذا لَم يَكُنْ بَينَهما إلَّا مُدَّةُ الحَملِ. قال أبو الحُسَينِ البَصريُّ عنِ الفاءِ: (تُفيدُ التَّعقيبَ المُمكِنَ بَينَ الفِعلَينِ، كقَولِك: دَخَلتُ البَصرةَ فالكوفةَ، يُفيدُ أنَّ دُخولَك الكوفةَ كان بَعدَ دُخولِك البَصرةَ بزَمانٍ يَسيرٍ جَرَتِ العادةُ بمِثلِه، وليس يَجِبُ أن يَكونَ بَينَهما مِنَ الزَّمانِ اليَسيرِ مِثلُ ما يَكونُ بَينَ لقاءِ زَيدٍ وعَمرٍو إذا قُلتَ: لَقيتُ زَيدًا فعَمرًا؛ لأنَّه يُمكِنُ في هذا مِنَ الزَّمانِ اليَسيرِ ما لا يُمكِنُ في ذلك). ((المعتمد)) (1/32). ويُنظر: ((البحر المحيط)) (3/154:152)، ((تشنيف المسامع)) (1/531) كلاهما للزركشي، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/125)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/148). عِندَ جُمهورِ النُّحاةِ [2504] قال سيبَويهِ عنِ الفاءِ: (تَضُمُّ الشَّيءَ إلى الشَّيءِ كما فعَلَتِ الواوُ، غَيرَ أنَّها تَجعَلُ ذلك متَّسِقًا بَعضُه في إثرِ بَعضٍ؛ وذلك قَولُك: مَرَرتُ بعَمرٍ فزَيدٍ فخالِدٍ، وسَقَطَ المَطَرُ بمَكانِ كَذا وكَذا فمَكانِ كَذا وكَذا). ((الكِتاب)) (4/217). ويُنظر: ((شرح كتاب سيبويه)) للسيرافي (5/92). وقال ابنُ الحاجِبِ: (الفاءُ للتَّعقيبِ مِن غَيرِ مُهلةٍ). ((أمالي ابن الحاجب)) (1/123). وقال بدرُ الدِّينِ المراديُّ: (مَعناها التَّعقيبُ. فإذا قُلتَ: قامَ زَيدٌ فعَمرٌو، دَلَّت على أنَّ قيامَ عَمرٍو بَعدَ زَيدٍ بلا مُهلةٍ. فتُشارِكَ ثُمَّ في إفادةِ التَّرتيبِ، وتُفارِقُها في أنَّها للِاتِّصالِ، وثُمَّ تُفيدُ الانفِصالَ. هذا مَذهَب البَصريِّينَ، وما أوهَمَ خِلافَ ذلك تأوَّلوه). ((الجنى الداني)) (ص: 61). وقال أيضًا: (الفاءُ للتَّرتيبِ باتِّصالٍ، أي: بلا مُهلةٍ، فهيَ للتَّعقيبِ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ، وما أوهَمَ خِلافَه يُؤَوَّلُ). ((تَوضيح المَقاصد والمسالك)) (2/998). ويُنظر: ((الكناش في فنَّي النحو والصرف)) لابن شاهنشاه (2/146). وقال الآمِديُّ: (فأمَّا "الفاءُ" فمُقتَضاها إيجابُ الثَّاني بَعدَ الأوَّلِ مِن غَيرِ مُهلةٍ، هذا مِمَّا اتَّفقَ الأُدَباءُ على نَقلِه عن أهلِ اللُّغةِ). ((الإحكام)) (1/68). والأُصوليِّينَ [2505] قال الإسنَويُّ: (الفاءُ تَقتَضي تَشريكَ ما بَعدَها لِما قَبلَها في حَكَمِه، والجُمهورُ على أنَّها تَدُلُّ على التَّرتيبِ بلا مُهلةٍ، ويُعَبَّرُ عنه بالتَّعقيبِ، كَأنَّ الثَّانيَ أخَذ بعَقِبِ الأوَّلِ). ((التمهيد)) (ص: 214). ونَقَلَ البَيضاويُّ الإجماعَ على أنَّ الفاءَ تُفيدُ التَّعقيبَ، فقال: (الفاءُ للتَّعقيبِ إجماعًا). ((منهاج الوصول)) (ص: 102). ومِمَّن نَقَل هذا الإجماعَ الرَّازيُّ. يُنظر: ((المَحصول)) (1/373)، وفيه نَظَرٌ لوُجودِ الخِلافِ في مَعنى الفاءِ، فقال بدرُ الدِّينِ المراديُّ: (وقدِ اتَّضَحَ بما ذَكَرتُه مِن هذه الأقوالِ أنَّ ما نَقَلَه بَعضُهم مِنَ الإجماعِ على أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ، غَيرُ صحيحٍ). ((الجنى الداني)) (ص: 63). وقال ابنُ السُّبكيِّ: (استَدَلَّ في الكِتابِ على أنَّها للتَّعقيبِ بإجماعِ أهلِ اللُّغةِ على ذلك. وقد قَلَّدَ في نَقلِ هذا الإجماعِ الإمامَ، وليس بجَيِّدٍ؛ فقد ذَهَبَ الجَرميُّ إلى أنَّها للتَّرتيبِ إلَّا في الأماكِنِ والمَطَرِ، فلا تَرتيبَ). ((الإبهاج)) (3/886). وقال الإسنَويُّ: (استَدَلَّ المُصَنِّفُ عليه بالإجماعِ، وليس كذلك؛ فقد ذَهَبَ الفَرَّاءُ إلى أنَّ ما بَعدَها يَجوزُ أن يَكونَ سابِقًا، وذَهَبَ الجَرْميُّ إلى أنَّها إذا دَخَلَت على الأماكِنِ أوِ المَطَرِ فلا تُرَتِّبُ؛ تَقولُ: نَزَلنا نَجدًا فتِهامةَ، ونَزَلَ المَطَرُ نَجدًا فتِهامةَ، وإن كانت تِهامةُ في هذا سابِقةً). ((نهاية السول)) (ص: 142). ، ومِنهمُ القاضي أبو يَعلى [2506] يُنظر: ((العدة)) (1/ 198). ، وأبو المَعالي الجُوَينيُّ [2507] يُنظر: ((البرهان)) (1/ 51)، ((التلخيص في أصول الفقه)) (1/ 228). ، والسَّرَخسيُّ [2508] يُنظر:)) أصول السرخسي)) (1/ 207). ، والرَّازيُّ [2509] يُنظر: ((المحصول)) (1/ 370). ، وابنُ النَّجَّارِ [2510] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) (1/ 233). .
تَقولُ: جاءَ زَيدٌ فالأُستاذُ. أي: أنَّ زَيدًا سَبَقَ الأُستاذَ في المَجيءِ.
والتَّرتيبُ إمَّا: في المَعنى بأن يَكونَ المَعطوفُ حَدَث عَقِبَ المَعطوفِ عليه بلا مُهلةٍ، كقَولِنا: ضَرَبتُه فوقَعَ، ونادَيتُه فأجابَ. أو في الذِّكرِ، أي: أنَّ أحَدَهما لَم يَسبِقِ الآخَرَ، وإنَّما هو تَرتيبٌ في البَيانِ أوِ اللَّفظِ، كَعَطفِ المُفصَّلِ على المُجمَلِ، تَقولُ: تَوضَّأْ فاغسِلْ وَجهَك ثُمَّ يَدَيك، ثُمَّ امسَحْ رَأسَك ثُمَّ اغسِلْ رِجلَيك. فإنَّ الفاءَ هنا لَم تُفِدْ تَرتيبًا، وإنَّما عَطَفتِ التَّفصيلَ مِن أفعالِ الوُضوءِ على المُجمَلِ، وهو الأمرُ بالوُضوءِ. ومِنه قَولُ اللهِ تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] [2511] يُنظر: ((الجنى الداني)) لبدر الدين المرادي (ص: 63). ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/125،124)، ((موسوعة اللغة العربية)) على موقع الدرر السنية (https://dorar.net/arabia/735). .
الدَّليلُ:
أنَّ الفاءَ لَو لَم تَكُنْ للتَّعقيبِ لَما دَخَلَت على الجَزاءِ إذا لَم يَكُنِ الجَزاءُ بلَفظِ الماضي أوِ المُضارِعِ، لَكِنَّها تَدخُلُ عليه، فهيَ إذًا للتَّعقيبِ، وبَيانُ المُلازَمةِ أنَّ جَزاءَ الشَّرطِ قد يَكونُ بلَفظِ الماضي، كقَولِك: مَن دَخَلَ داري أكرَمتُه، أو بلَفظِ المُضارِعِ: مَن دَخَلَ أُكرِمُه، وقد لا يَكونُ كذلك، وحينَئِذٍ لا بُدَّ مِن ذِكرِ الفاءِ، كقَولِك: مَن دَخل داري فلَه دِرهَمٌ، وإذا أوجَبَ دُخولَ الفاءِ على الجَزاءِ وثَبَتَ أنَّ الجَزاءَ لا بُدَّ وأن يَحصُلَ عَقيبَ الشَّرطِ عَلِمنا أنَّ الفاءَ إذَن للتَّعقيبِ [2512] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/198)، ((أصول السرخسي)) (1/207)، ((المحصول)) للرازي (1/373)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/888،887). قال القَرافيُّ: (وَجهُ الاستِدلالِ بدُخولِه في الجَزاءِ على أنَّها للتَّعقيبِ: أنَّ النُّحاةَ قالوا: إذا لم تَدخُلِ الفاءُ في هذه المَواطِنِ لا يَرتَبِطُ الجَزاءُ بالشَّرطِ، ويتَعَجَّلُ، فإذا قال: إن دَخَلتَ الدَّارَ أنتَ حُرٌّ، عَتَق الآنَ؛ لعَدَمِ الفاءِ الموجِبةِ لارتِباطِ عِتقِه بدُخولِ الدَّارِ، فالفاءُ حينَئِذٍ هيَ الموجِبةُ لتَأخُّرِه عَقِبَ الشَّرطِ، وارتِباطِه به، فلَو لَم تَكُنْ للتَّعقيبِ لَما حَصَلَ هذا المَعنى بَينَ الشَّرطِ وجَزائِه). ((نفائس الأصول)) (3/1011). .
وإذا ثَبَتَ أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ، فحَيثُ ورَدَ ولَم تُفِدْه، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا [الأعراف: 4] ، والبَأسُ لا يَتَأخَّرُ عنِ الإهلاكِ؛ فيَجِبُ حَملُه على التَّجَوُّزِ، أو تَأويلُه جَمعًا بَينَ النَّقلِ والِاستِعمالِ [2513] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/426). .
وقيلَ: إن دَخَلَت على الأماكِنِ والمَطَرِ فلا تُفيدُ التَّرتيبَ، وهو اختيارُ الجَرْميِّ [2514] يُنظر: ((ارتشاف الضرب من لسان العرب)) لأبي حيان الأندلسي (4/ 1985)، ((الجنى الداني في حروف المعاني)) للمرادي (ص: 63)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/886)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 215). .
وتَختَصُّ الفاءُ بعَطفِ ما لا يَصلُحُ كَونُه صِلةً -لعَدَمِ الضَّميرِ- على ما هو صِلةٌ، كقَولِ القائِلِ: (الذي يَطيرُ فيَغضَبُ زَيدٌ: الذُّبابُ)، ولَو عَطَفتَ بغَيرِ الفاءِ لَم يَجُزْ، فلا يَجوزُ (ويَغضَبُ) أو (ثُمَّ يَغضَبُ) (بالواوِ، وثُمَّ)؛ لأنَّ (يَغضَبُ زَيدٌ) جُملةٌ لا عائِدَ فيها على (الذي)، وشَرطُ ما يُعطَفُ على الصِّلةِ أن يَصلُحَ وُقوعُه صِلةً، وأمَّا الفاءُ فلأنَّها يُجعَلُ ما بَعدَها مَعَ ما قَبلَها في حُكمِ جُملةٍ واحِدةٍ؛ لإشعارِها بالسَّبَبيَّةِ [2515] يُنظر: ((توضيح المقاصد والمسالك)) لبدر الدين المرادي (2/1000)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/325)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 678). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:
يَتَفرَّعُ على مَعنى الفاءِ عَدَدٌ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال: إن دَخَلتِ الدَّارَ فكَلَّمتِ زَيدًا فأنتِ طالِقٌ. فيُشتَرَطُ في وُقوعِ الطَّلاقِ تَقديمُ الدُّخولِ على الكَلامِ تَفريعًا على إفادةِ الفاءِ التَّعقيبَ [2516] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/889)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 215)، ((الفروق)) للقرافي (1/84). .
2- لَو قال شَخصٌ لخَيَّاطٍ: انظُرْ إلى هذا الثَّوبِ أيَكفيني قَميصًا؟ فنَظَرَ فقال: نَعَم، فقال: فاقطَعْه، فقَطَعَه، فإذا هو لا يَكفيه؛ فإنَّه يَضمَنُ، كما لَو قال: إن كَفاني قَميصًا فاقطَعْه، فإذا هو لا يَكفيه؛ فإنَّه يَضمَنُ؛ وذلك لأنَّ الفاءَ للوَصلِ والتَّعقيبِ، فبذِكرِه تَبَيَّن أنَّه شارِطٌ للكِفايةِ في الإذنِ؛ لأنَّه أمَرَه بقَطعٍ مُرَتَّبٍ على الكِفايةِ، فصارَ كَأنَّه قال: إن كَفاني قَميصًا فاقطَعْه. والمُعَلَّقُ بالشَّرطِ مَعدومٌ قَبلَ وُجودِ الشَّرطِ، فإذا لم يَكفِه قَميصًا كان القَطعُ حاصِلًا بغَيرِ إذنٍ، فكان موجِبًا للضَّمانِ، بخِلافِ ما لَو قال: اقطَعْه فقَطَعه فإذا هو لا يَكفيه: لا يَضمَنُ؛ لأنَّ قَولَه: اقطَعْه، إذَنْ مُطلَقٌ، فلا يَكونُ القَطعُ بَعدَه موجِبًا للضَّمانِ؛ لأنَّ الغُرورَ بمُجَرَّدِ الخَبَرِ إذا لَم يَكُنْ في ضِمنِ عَقدِ ضَمانٍ لا يوجِبُ الضَّمانَ على الغارِّ، كما لَو قال: هذا الطَّريقُ آمِنٌ، فسَلَكَ فيه فأخَذَ اللُّصوصُ مَتاعَه، لا يَضمَنُ [2517] يُنظر: ((الكافي شرح البزدوي)) للسغناقي (2/893)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/128). .

انظر أيضا: