موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّالِثُ: ثُمَّ


ثُمَّ [2518] في (ثُمَّ) أربَعُ لُغاتٍ، (ثُمَّ) وهيَ الأصلُ، و(فُمَّ) بإبدالِ الثَّاءِ فاءً، و (ثُمَّتْ) بتاءِ التَّأنيثِ السَّاكِنةِ، و(ثُمَّتَ) بتاءِ التَّأنيثِ المُتَحَرِّكةِ. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/351)، ((ارتشاف الضرب من لسان العرب)) لأبي حيان (4/1989)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/217). تُفيدُ التَّرتيبَ والتَّعقيبَ، فهيَ توافِقُ الفاءَ في إفادَتِها التَّرتيبَ، أي: أنَّ المَعطوفَ بثُمَّ حَصَلَ بَعدَ المَعطوفِ عليه، وتُخالِفُ الفاءَ في أنَّها تُفيدُ التَّراخيَ، وهو تَأخُّرُ حُصولِ الثَّاني عنِ الأوَّلِ في الزَّمانِ بخِلافِ الفاءِ؛ فإنَّها تُفيدُ التَّعقيبَ والفَوريَّةَ، فإذا قال أحَدٌ: جاءَني زَيدٌ ثُمَّ عَمرٌو، فإنَّما يُفهَمُ منه ما يُفهَمُ مِن قَولِه: جاءَني زَيدٌ وبَعدَه عَمرٌو، والقَولُ بأنَّها للتَّرتيبِ اختيارُ جُمهورِ النُّحاةِ [2519] قال المُراديُّ: (وثُمَّ: للتَّرتيبِ بانفِصالٍ، أي: بمُهلةٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ، وما أوهَمَ خِلافَه يُؤَوَّلُ). ((توضيح المقاصد والمسالك)) (2/998). والأُصوليِّينَ [2520] قال المَرداويُّ عَمَّا تُفيدُه ثُمَّ: (قَولُه: (بمُهلةٍ) أي: بتَراخٍ، وهذا هو الصَّحيحُ، وعليه الجُمهورُ، وقَطَعوا به). ((التحبير)) (2/622). ، ومِنهمُ الشَّاشيُّ [2521] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 203). ، والجَصَّاصُ [2522] يُنظر: ((الفصول)) (1/91). ، والشِّيرازيُّ [2523] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 65). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [2524] يُنظر: ((البرهان)) (1/52). ، والسَّرَخسيُّ [2525] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/209)، ، وغَيرُهم [2526] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/40)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/111)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/311)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 101)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/94)، ((الكافي)) للسغناقي (2/901)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/131). .
ومِثالُ إفادَتِها التَّرتيبَ والتَّراخيَ: فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [2527] يُنظر: ((شرح الأُشموني على ألفية ابن مالك)) (3/138). ، وقَولُه تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 121-122] [2528] يُنظر: ((شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك)) (ص: 373). .
والتَّرتيبُ الذي تُفيدُه (ثُمَّ) على ثَلاثةِ أنواعٍ [2529] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/233،232)، ((دلالة حروف العطف وأثرها في اختلاف الفقهاء)) لمحمد الطويل (ص: 51-53). :
1- التَّرتيبُ المَعنَويُّ، ويُسَمَّى بالتَّرتيبِ في الزَّمانِ:
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ [التوبة: 6] ؛ فإبلاغُ المَأمَنِ إنَّما يَكونُ بَعدَ سَماعِ كَلامِ اللَّهِ تعالى.
2- التَّرتيبُ الذِّكْريُّ، ويُسَمَّى التَّرتيبَ في الإخبارِ:
ومِن أمثِلَتِه [2530] يُنظر: ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (6/737). : قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 11 - 17] الآية، فـ "ثُمَّ" حَرفُ تَرتيبٍ، والمُرَتَّبُ به -الذي هو كَونُه مِنَ الذينَ آمَنوا- لا تَرَتُّبَ له على ما قَبلَه إلَّا مُطلَقُ التَّرتيبِ الذِّكريِّ.
ومِن ذلك أيضًا قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 153-154] الآية، فالتَّرتيبُ فيه بـ"ثُمَّ" ذِكْريٌّ أيضًا.
3- التَّرتيبُ في الرُّتبةِ، أي: تَفاوُتُ رُتَبِ الفِعلِ أو رُتَبِ الفاعِلينَ:
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ؛ فقد ذُكِرَ الاهتِداءُ في الآيةِ الكَريمةِ بَعدَ التَّوبةِ والإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وهذا التَّأخيرُ ليس في الزَّمانِ، وإنَّما في الرُّتبةِ، فرُتبةُ الإيمانِ أعلى وأفضَلُ.
وقد تُستَعمَلُ بمَعنى الواوِ مَجازًا كما في قَولِ اللهِ سُبحانَه: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] ؛ لأنَّه لا يَجوزُ أن يَكونَ شاهدًا بَعدَ أن لَم يَكُنْ شاهدًا [2531] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/32)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/40)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/111)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/428)، .
وقيلَ: لا تَدُلُّ على التَّرتيبِ، وهو اختيارُ قُطرُبٍ [2532] يُنظر: ((همع الهوامع)) للسيوطي (3/195). ، وقيل: لا تَدُلُّ على التَّراخي، وهو اختيارُ الفَرَّاءِ [2533] يُنظر: ((همع الهوامع)) للسيوطي (3/195). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:
يَتَفرَّعُ على مَعنى (ثُمَّ) عَدَدٌ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال لوكيلِه: بِعْ هذا ثُمَّ هَذا. وجَبَ التَّرتيبُ؛ لاستِعمالِه (ثُمَّ) وهيَ تُفيدُ التَّرتيبَ، وقد يَكونُ له غَرَضٌ في بَيعِ أحَدِهما قَبلَ الآخَرِ [2534] يُنظر: ((التمهيد)) (ص: 217)، ((الكوكب الدري)) (ص: 340) كِلاهما للإسنوي. .
2- إذا قال: وقَفتُ على زَيدٍ ثُمَّ عَمرٍو، أو قال: أوصَيتُ إلى زَيدٍ ثُمَّ عَمرٍو. فلا بُدَّ مِنَ التَّرتيبِ، وقياسُ كَونِها للِانفِصالِ أن لا يَصِحَّ تَصَرُّفُ الوكيلِ والوَصيِّ مُتَّصِلًا بوِلايةِ الأوَّلِ، وأن يَكونَ الوَقفُ مُنقَطِعًا في لَحظةٍ، وخالَف القاضي أبو عاصِمٍ في ذلك [2535] قال ابنُ السُّبكيّ: (مَأخَذُ أبي عاصِمٍ أنَّ الوقفَ إنشاءٌ، فلا يُعقَلُ فيه تَرتيبٌ، وليس ذلك مِن ثَمَّ؛ كَذا نَبَّهَ عليه الوالِدُ رَحِمَه اللهُ تعالى في كِتابِ الطَّوالِع المُشرِقة). ((الأشباه والنظائر)) (2/219). ، فلَم يَقُلْ بالتَّرتيبِ في ذلك [2536] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/219)، ((التمهيد)) (ص: 217)، ((الكوكب الدري)) (ص: 340) كلاهما للإسنوي. قال الشِّربينيُّ: (ولَو وَقَف على زَيدٍ ثُمَّ عَمرٍو ثُمَّ بَكرٍ ثُمَّ الفُقَراءِ، فماتَ عَمرٌو قَبلَ زَيدٍ، ثُمَّ ماتَ زَيدٌ. قال الماوَرديُّ والرُّويانيُّ: لا شَيءَ لبَكرٍ، ويَنتَقِلُ الوَقفُ مِن زيدٍ إلى الفُقَراءِ؛ لأنَّه رَتَّبَه بَعدَ عَمرٍو، وعَمرٌو بمَوتِه أوَّلًا لَم يَستَحِقَّ شَيئًا، فلَم يَجُزْ أن يَتَمَلَّكَ بَكرٌ عنه شَيئًا. وقال القاضي في فتاويه: الأظهَرُ أنَّه يُصرَفُ إلى بَكرٍ؛ لأنَّ استِحقاقَ الفُقَراءِ مَشروطٌ بانقِراضِه، كما لَو وقَف على ولَدِه ثُمَّ وَلَدِ ولَدِه ثُمَّ الفُقَراءِ، فماتَ ولَدُ الولَدِ، ثُمَّ الولَدُ، يَرجِعُ إلى الفُقَراءِ، ويوافِقُه فتوى البَغَويِّ في مَسألةٍ طَويلةٍ، حاصِلُها: أنَّه إذا ماتَ واحِدٌ مِن ذُرِّيَّةِ الواقِفِ في وقفِ التَّرتيبِ قَبلَ استِحقاقِه للوَقفِ لحَجبِه بمَن فوقَه، يُشارِكُ ولَدُه مِن بَعدِه عِندَ استِحقاقِه. قال الزَّركَشيُّ: وهذا هو الأقرَبُ). ((مغني المحتاج)) (3/ 539). ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/ 532)، ((بحر المذهب)) للروياني (7/ 232). .
3- جَوازُ تَأخيرِ البَيانِ عن وقتِ الخِطابِ، المُستَفادُ مِن قَولِ اللهِ تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18-19] ؛ حَيثُ عَطَف البَيانَ بـ (ثُمَّ) التي تُفيدُ التَّراخيَ، فدَلَّ على جَوازِ تَأخيرِ البَيانِ عن وقتِ الخِطابِ [2537] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/399)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/325)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/726)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 208)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 193). .

انظر أيضا: