موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: أقسامُ الحَرامِ


المَفسَدةُ النَّاتِجةُ عنِ الفِعلِ: إمَّا أن تَكونَ راجِعةً إلى ذاتِ الفِعلِ، فيُسَمَّى حَرامًا لذاتِه. وإمَّا أن تَكونَ راجِعةً لأمرٍ يَتَعَلَّقُ بالمُحَرَّمِ، فيُسَمَّى حَرامًا لغيرِه.
ومِن هنا يَنقَسِمُ الحَرامُ إلى قِسمينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: الحَرامُ لذاتِه
وهو ما حَرَّمَه الشَّارِعُ بأصلِه ابتِداءً؛ لِما فيه مِن ضَرَرٍ ذاتيٍّ، فمَنشَأُ حُرمَتِه عَينُ ذلك المَحَلِّ؛ فهو يَشتَمِلُ على مَفسَدةٍ ومَضَرَّةٍ راجِعةٍ إلى الذَّاتِ.
ومِثالُه: أكلُ الميتةِ، والدَّمُ، والخِنزيرُ، وشُربُ الخَمرِ، والزِّنا، وقَتلُ النَّفسِ، وزَواجُ المَحارِمِ.
حُكمُه: المُحَرَّمُ لذاتِه غيرُ مَشروعٍ أصلًا، ويَتَرَتَّبُ على ذلك أنَّ التَّعاقُدَ عليه يَكونُ باطِلًا، فلا يَتَرَتَّبُ عليه أثَرٌ شَرعيٌّ، ولا يَصلُحُ سَبَبًا شرعيًّا؛ لعَدَمِ صَلاحيَّةِ المَحَلِّ لظُهورِ الحُكمِ الشَّرعيِّ فيه.
وعلى ذلك: فالصَّلاةُ بغيرِ طَهارةٍ باطِلةٌ، وزَواجُ المَحارِمِ باطِلٌ، فلا يَثبُتُ النَّسَبُ ولا الإرثُ.
ولا يُباحُ المُحَرَّمُ لذاتِه إلَّا إذا وُجِدَتِ الضَّرورةُ، مِثل: أكلِ الميتةِ؛ فإنَّه لا يَجوزُ إلَّا إذا خاف الإنسانُ على نَفسِه الهلاكَ [555] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/252)، ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 43). .
القِسمُ الثَّاني: الحرامُ لغَيرِه
وهو ما حَرَّمَه الشَّارِعُ لأُمورٍ خارِجةٍ عن ذاتِه، وكان مَنشَأُ الحُرمةِ غيرَ المَحَلِّ، كأن تَكونَ مَفسَدَتُه ناشِئةً مِن وصفٍ قامَ به لا مِن ذاتِه، أي: أنَّه مَشروعٌ في أصلِه، ولَكِنِ اقتَرَنَ به أمرٌ آخَرُ بسَبَبِ مَفسَدةٍ وضَرَرٍ للنَّاسِ، فحَرَّمَه الشَّارِعُ لهذا السَّبَبِ [556] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/252)، ((أصول الفقه)) للبرديسي (ص: 78). .
وأمثِلتُه كثيرةٌ؛ منها:
1- الصَّلاةُ في ثَوبٍ مَغصوبٍ؛ فإنَّ الصَّلاةَ في الأصلِ مَشروعةٌ وواجِبةٌ على المُكلَّفِ، ولَكِن لَمَّا اقتَرَنَ بها المُنكَرُ، وهو الانتِفاعُ بالثَّوبِ المَغصوبِ، أصبَحَت مُحَرَّمةً بسَبَبِه.
2- البيعُ وقتَ النِّداءِ لصَلاةِ الجُمُعةِ؛ فإنَّ البيعَ في الأصلِ مَشروعٌ، ولَكِن لَمَّا اقتَرَنَ به مُنكَرٌ، وهو الانشِغالُ عنِ السَّعيِ إلى صَلاةِ الجُمُعةِ بغيرِه صارَ مُحَرَّمًا.
وهذا المَذكورُ بخِلافِ القِسمِ الأوَّلِ؛ فإنَّ المَحَلَّ خَرَجَ عن قابليَّةِ الفِعلِ مُطلَقًا [557] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 52)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/252). .
حُكمُه: يُنظَرُ إلى المُحَرَّمِ لغيرِه مِن جِهَتينِ:
فمِن جِهةِ أصلِه وذاتِه فهو مَشروعٌ؛ لعَدَمِ وُجودِ المَفسَدةِ والمَضَرَّةِ فيه.
ومِن جِهةِ ما اقتَرَنَ به فهو حَرامٌ؛ لِما يَتَرَتَّبُ عليه مِن مَفسَدةٍ ومَضَرَّةٍ، وهو أمرٌ خارِجيٌّ عنِ المَحَلِّ أوِ الفِعلِ [558] ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/355). .
الفرقُ بينَ القِسمينِ:
ويَنتُجُ عن تَقسيمِ الحَرامِ إلى حَرامٍ لذاتِه وحَرامٍ لغيرِه، الاختِلافُ في الفسادِ والبُطلانِ [559] يُنظر: مطلَبُ: هل النَّهيُ يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه وبُطلانَه؟ .
ويَنتُجُ عن تَقسيمِ الحَرامِ إلى حَرامٍ لذاتِه وحَرامٍ لغيرِه أيضًا: جَوازُ استِباحةِ المُحَرَّمِ في بَعضِ الحالاتِ: فالمُحَرَّمُ لذاتِه يُباحُ مِن أجلِ المُحافَظةِ على الضَّروريَّاتِ، وهي حِفظُ الدِّينِ والمالِ والنَّفسِ والعَقلِ والعِرضِ، فيُباحُ شُربُ الخَمرِ للحِفاظِ على الحياةِ عِندَ التَّهلُكةِ، ويُرَخَّصُ بالكُفرِ ظاهرًا للحِفاظِ على النَّفسِ عِندَ الإكراهِ بالقَتلِ.
أمَّا المُحَرَّمُ لغيرِه فإنَّه يُباحُ مِن أجلِ الحِفاظِ على الضَّروريَّاتِ السَّابقةِ، ومِن أجلِ الحِفاظِ على الحاجيَّاتِ أيضًا، وهي التي يُؤَدِّي تَركُها إلى مَشَقَّةٍ بالغةٍ على المُكلَّفِ؛ مِثلُ كَشفِ العَورةِ، فيُباحُ للحِفاظِ على الحياةِ أحيانًا في حالةِ الضَّرورةِ، ويُباحُ للطَّبيبِ مِن أجلِ الاستِشفاءِ مِنَ الأمراضِ [560] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 44)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/356). .

انظر أيضا: