موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: مَناهِجُ العُلَماءِ في تَرتيبِ طُرُقِ دَفعِ التَّعارُضِ


إذا ظَهَرَ عِندَ المُجتَهدِ تَعارُضٌ بَينَ الأدِلَّةِ، بأن دَلَّ أحَدُ الدَّليلَينِ على خِلافِ ما دَلَّ عليه الآخَرُ، فإنَّه يَجِبُ دَفعُ هذا التَّعارُضِ، ويَكونُ ذلك بإحدى طُرُقٍ ثَلاثٍ: هيَ الجَمعُ بَينَ الأدِلَّةِ، أوِ التَّرجيحُ، أوِ النَّسخُ، وقدِ اختَلَفت مَناهِجُ العُلَماءِ في تَرتيبِ هذه الطُّرُقِ، وحاصِلُ خِلافِهم مَنهَجانِ:
أوَّلًا: مَنهَجُ جُمهورِ الأصوليِّينَ
ذَهَبَ جُمهورُ الأصوليِّينَ إلى تَقديمِ الجَمعِ بَينَ الدَّليلَينِ إعمالًا لهما، وهو أَولى مِن إعمالِ أحَدِهما وإبطالِ الآخَرِ، فإن تَعَذَّرَ الجَمعُ وعُلِم التَّاريخُ، فيُلجَأُ إلى النَّسخِ، فيُحكَمُ بنَسخِ المُتَأخِّرِ مِنهما للمُتَقدِّمِ، وإن لم يُعلَمِ التَّاريخُ رُجِّحَ أحَدُهما بإحدى طُرُقِ التَّرجيحِ، فإن تَعَذَّرَ التَّرجيحُ تَعَيَّن التَّوقُّفُ أوِ التَّخييرُ، فيَكونُ التَّرتيبُ عِندَ الجُمهورِ عِندَ التَّعارُضِ: الجَمعُ أوَّلًا، ثُمَّ النَّسخُ، ثُمَّ التَّرجيحُ [56] يُنظر: (المستصفى)) للغزالي (ص: 3376)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 258)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/1019)، ((المحصول)) للرازي (5/410)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/80)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3665-3668)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/576) و (3/687)، ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 110). ومِمَّن نَصَّ على ذلك: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ؛ حَيثُ قال: (إذا تَعارَضَ خَبَرانِ وأمكَنَ الجَمعُ بَينَهما وتَرتيبُ أحَدِهما على الآخَرِ في الِاستِعمالِ، فُعِل، وإن لم يُمكِنْ ذلك وأمكَنَ نَسخُ أحَدِهما بالآخَرِ، فُعِل... فإن لم يُمكِنْ ذلك رُجِّحَ أحَدُهما على الآخَرِ بوجهٍ مِن وُجوهِ التَّرجيحَ). ((اللمع)) (ص: 83). وقال السَّمعانيُّ: (إذا تَعارَضَ خَبرانِ فلا يَخلو إمَّا أن يُمكِنَ الجَمعُ بَينَهما، أو يُمكِنَ تَرتيبُ أحَدِهما على الآخَرِ في الِاستِعمالِ؛ فإنَّه يُفعَلُ أيضًا، فإن لم يُمكِنْ وأمكَنَ نَسخُ أحَدِهما بالآخَرِ فإنَّه يُفعَلُ، فإن لم يُمكِنْ رُجِّحَ أحَدُهما على الآخَرِ بوجهٍ مِن وُجوه التَّرجيحِ). ((قواطع الأدلة)) (1/404). قال ابنُ عَقيلٍ: (مَهما أمكَنَ الجَمعُ فلا نَسخَ، فإذا لم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَهما كان الحُكمُ للأخيرةِ). ((الواضِح)) (4/180). وقال القَرافيُّ: (إذا تَعارَضَ دَليلانِ فالعَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنهما مِن وَجهٍ أَولى مِنَ العَمَلِ بأحَدِهما دونَ الآخَرِ، وهما إن كانا عامَّينِ مَعلومَينِ والتَّاريخُ مَعلومٌ، نَسَخ المُتَأخِّرُ المُتَقدِّمَ، وإن كان مَجهولًا سَقَطا، وإن عُلِمَتِ المُقارَنةُ خُيِّر بَينَهما، وإن كانا مَظنونَينِ فإن عُلِمَ المُتَأخِّرُ نَسَخَ المُتَقدِّمَ، وإلَّا رَجَعَ إلى التَّرجيحِ). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 421). .
ثانيًا: مَنهَجُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [57] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/13)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (2/236).
وقد تَبِعوا في طَريقَتِهم في دَفعِ التَّعارُضِ التَّدَرُّجَ الآتيَ:
النَّسخُ: وذلك عِندَ مَعرِفةِ المُتَقدِّمِ مِنَ المُتَأخِّرِ وقابِليَّةِ الدَّليلِ لذلك، فإن لم يَكُنْ لَجَؤوا إلى التَّرجيحِ، وذلك عِندَما يَكونُ لأحَدِ الدَّليلَينِ مَزيَّةٌ يَتَرَجَّحُ بها على الآخَرِ، فيُقدَّمُ حينَئِذٍ؛ لأنَّ تَركَ العَمَلِ بالرَّاجِحِ خِلافُ المَعقولِ والإجماعِ، فإن تَعَذَّر التَّرجيحُ لَجَؤوا إلى الجَمعِ، وذلك إذا لم يَتَبَيَّنْ تَقدُّمُ أحَدِ الدَّليلَينِ ولا رُجحانُه، فإنَّهم يَجمَعونَ بَينَهما، فإن تَعَذَّرَ الجَمعُ يُحكَمُ بتَساقُطِ الأدِلَّةِ، ويُعدَلُ عنها إلى أدِلَّةٍ أخرى أدوَنَ مِنها رُتبةً، فإن لم يوجَدْ أدنى في المَسألةِ عُمِلَ بالأصلِ المُقَرَّرِ.
وعليه يَكونُ التَّرتيبُ عِندَهم على النَّحوِ التَّالي: النَّسخُ، ثُمَّ التَّرجيحُ، ثُمَّ الجَمعُ، فإن لم يُمكِنِ الجَمعُ تَتَساقَطُ الأدِلَّةُ، ويَكونُ العَمَلُ بالأدنى، ثُمَّ العَمَلُ بالأصلِ المُقَرَّرِ في المَسألةِ [58] وقد صَرَّحَ بهذا التَّرتيبِ الكَثيرُ مِنَ الحَنَفيَّةِ، مِنهمُ الكَمالُ بنُ الهُمامِ؛ حَيثُ قال: (حُكمُه النَّسخُ إن عُلِمَ المُتَأخِّرُ، وإلَّا فالتَّرجيحُ، ثُمَّ الجَمعُ، وإلَّا تُرِكا إلى ما دُونَهما على التَّرتيبِ إن كان، وإلَّا قُرِّرَتِ الأصولُ). ((التحرير)) (ص: 362). ويُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/3). ومِنهمُ ابنُ عبدِ الشَّكورِ؛ حَيثُ قال: (حُكمُه النَّسخُ إن عُلِمَ المُتَقدِّمُ، وإلَّا فالتَّرجيحُ إن أمكَنَ، وإلَّا فالجَمعُ بقَدرِ الإمكانِ، وإن لم يُمكِنْ تَساقَطَا، فالمَصيرُ في الحادِثةِ إلى ما دونَهما مَرتَبةً إن وُجِدَ، وإلَّا فالعَمَلُ بالأصلِ). ((مسلم الثبوت)) (2/152). ومِنهم صَدرُ الشَّريعةِ، فقال: (إذا تَساوَيَا قوَّةً ففي الكِتابِ والسُّنَّةِ يُحمَلُ ذلك على نَسخِ أحَدِهما الآخَرَ؛ إذ لا تَناقُضَ بَينَ أدِلَّةِ الشَّرعِ؛ لأنَّه دَليلُ الجَهلِ، فإن عُلِمَ التَّاريخُ، وإلَّا يُطلَبِ المُخَلِّصُ، ويُجمَعْ بَينَهما ما أمكَنَ، ويُسَمَّى عَمَلًا بالشَّبَهَينِ، فإن تَيَسَّرَ فبها، وإلَّا يُترَكْ، ويُصارُ مِنَ الكِتابِ إلى السُّنَّةِ، ومِنها إلى القياسِ وأقوالِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم إن أمكَنَ ذلك، وإلَّا يَجِبْ تَقريرُ الأصلِ على ما كان في سُؤرِ الحِمارِ عِندَ تَعارُضِ الآثارِ). ((التنقيح)) ضمن شرحه ((التوضيح)) (2/206-209). ويُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/449)، ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 107). .

انظر أيضا: