موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: نَسخُ الإجماعِ والنَّسخُ به


الرَّاجِحُ أنَّ الإجماعَ لا يُنسَخُ، ولا يَجوزُ أن يَكونَ ناسِخًا، وهو قَولُ عامَّةِ الأصوليِّينَ [411] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 314)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/176)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1160)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1717)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/169). ، مِنهم إمامُ الحَرَمَينِ [412] يُنظر: ((التلخيص)) (2/531). ، والرَّازيُّ [413] يُنظر: ((المحصول)) (3/357). ، والقَرافيُّ [414] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (6/2499)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 314). ، والهنديُّ [415] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (6/2366). ، والطُّوفيُّ [416] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (2/330). . وقال ابنُ عَقيلٍ: (ما عَرَفتُ مُخالِفًا فأحكيَ قَولَه) [417] ((الواضح)) (4/317). .
والدَّليلُ على أنَّ الإجماعَ لا يُنسَخُ:
أنَّ النَّسخَ لا يَكونُ إلَّا في عَهدِ النُّبوَّةِ، والإجماعُ لم يَنعَقِدْ دَليلًا إلَّا بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لم يَنعَقِدْ في زَمانِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَتى وُجِدَ قَولُه فلا عِبرةَ بقَولِ غَيرِه. وإذا لم يَنعَقِدْ إلَّا بَعدَ وفاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يُمكِنْ نَسخُه؛ لأنَّ النَّاسِخَ له لا يَخلو إمَّا أن يَكونَ كِتابًا، أو سُنَّةً، أو إجماعًا، أو قياسًا، والكُلُّ باطِلٌ.
أمَّا الكِتابُ والسُّنَّةُ فلم يُمكِنْ نَسخُ الإجماعِ بهما لتَعَذُّرِهما بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وأمَّا الإجماعُ فلم يُمكِنْ نَسخُ الإجماعِ به؛ لأنَّ هذا الإجماعَ الثَّانيَ إمَّا أن يَكونَ عن دَليلٍ، أو عن غَيرِ دَليلٍ، فإن كان عن دَليلٍ فقد غَفلَ عنه الإجماعُ الأوَّلُ، فكان خَطَأً. وإن كان عن غَيرِ دَليلٍ، بَطَل الثَّاني؛ لأنَّه خَطَأٌ، والإجماعُ لا يَكونُ خَطَأً، فاستَحالَ النَّسخُ بالإجماعِ.
وأمَّا القياسُ فلا يُمكِنُ نَسخُ الإجماعِ به أيضًا؛ لأنَّ مِن شَرطِ العَمَلِ به أن لا يَكونَ مُخالِفًا للإجماعِ.
فيَتَعَذَّرُ نَسخُ الإجماعِ مُطلَقًا؛ لأنَّه لَوِ انتَسَخَ لكان انتِساخُه بواحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ، والكُلُّ باطِلٌ [418] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 314)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2366)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/330)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/284)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/518). .
والأدِلَّةُ على أنَّ الإجماعَ لا يَجوزُ أن يَكونَ ناسِخًا:
1- أنَّ المَنسوخَ إنَّما يَكونُ نَصًّا؛ لِما قد ذُكِرَ قَبلُ مِن أنَّ الإجماعَ لا يَكونُ مَنسوخًا، وإذا انحَصَرَ المَنسوخُ في كَونِه نَصًّا فلَو نُسِخَ بالإجماعِ للَزِمَ مُضادَّةُ النَّصِّ للإجماعِ؛ لأنَّ النَّاسِخَ والمَنسوخَ لا بُدَّ أن يَتَضادَّا، لَكِنَّ الإجماعَ لا يُضادُّ النَّصَّ، ولا يَنعَقِدُ على خِلافِه؛ لأنَّ ذلك يَقتَضي بُطلانَه؛ لانعِقادِه على مُخالَفةِ الدَّليلِ [419] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/332). .
2- أنَّ المَنسوخَ بالإجماعِ: إمَّا أن يَكونَ نَصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا، والكُلُّ باطِلٌ:
أمَّا الكِتابُ والسُّنَّةُ فلا يُمكِنُ أن يَنسَخَهما الإجماعُ؛ لأنَّه يَقتَضي وُقوعَ الإجماعِ على خِلافِ النَّصِّ، وخِلافُ النَّصِّ خَطَأٌ، والإجماعُ لا يَكونُ خَطَأً.
وأمَّا الإجماعُ فلا يُمكِنُ أن يَنسَخَه الإجماعُ؛ لأنَّ الإجماعَ المُتَأخِّرَ إمَّا أن يَقتَضيَ أنَّ الإجماعَ الأوَّلَ قد وقَعَ خَطَأً، أو يَقتَضيَ أنَّه كان صَوابًا ولَكِن إلى هذه الغايةِ. والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأنَّ الإجماعَ لا يَكونُ خَطأً، ولَو جازَ ذلك لما كان المَنسوخُ به أَولى مِنَ النَّاسِخِ، وإن كان صَوابًا حينَ وقَعَ، ولَكِن كان مُؤَقَّتًا فلا يَخلو ذلك الإجماعُ المُتَقدِّمُ المُفيدُ للحُكمِ المُؤَقَّتِ مِن أن يَكونَ مُطلَقًا أو مُؤَقَّتًا؛ فإن كان مُطلَقًا استَحالَ أن يُفيدَ الحُكمَ مُؤَقَّتًا، وإن كان مُؤَقَّتًا إلى غايةٍ فذلك الإجماعُ يَنتَهي عِندَ حُصولِ تلك الغايةِ بنَفسِه، فلا يَكونُ الإجماعُ المُتَأخِّرُ رافِعًا له.
وأمَّا القياسُ فلا يُمكِنُ أن يَنسَخَه الإجماعُ؛ لأنَّ مِن شَرطِ القياسِ أن لا يَكونَ مُخالِفًا للإجماعِ، وهذه المَسألةُ لا تُتَصَوَّرُ إلَّا إذا اقتَضى القياسُ حُكمًا، ثُمَّ أجمَعوا على خِلافِ حُكمِ ذلك القياسِ، فحينَئِذٍ يَزولُ حُكمُ ذلك القياسِ بَعدَ ثُبوتِه؛ لتَراخي الإجماعِ عنه، وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ شَرطَ صِحَّةِ القياسِ عَدَمُ الإجماعِ، فإذا وُجِدَ الإجماعُ زالَ شَرطُ صِحَّةِ القياسِ، وزَوالُ الحُكمِ لزَوالِ شَرطِه لا يَكونُ نَسخًا [420] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/357)، ((التحصيل)) لسراج الدين الأرموي (2/27)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (6/2499)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/519). .
وقيلَ: يَجوزُ أن يَكونَ الإجماعُ ناسِخًا. وهو مَنقولٌ عن بَعضِ المُعتَزِلةِ [421] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (2/52). ، ونُسِبَ إلى عيسى بنِ أبانَ [422] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/357)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (6/2499). ، وبِه قال الخَطيبُ البَغداديُّ [423] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/339). .

انظر أيضا: