موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: مُصطَلَحُ النَّسخِ بَينَ المُتَقدِّمينَ والمُتَأخِّرينَ


يَختَلِفُ مُصطَلَحُ النَّسخِ عِندَ المُتَأخِّرينَ عنه عِندَ المُتَقدِّمينَ، وما سَبَقَ مِن تَعريفٍ للنَّسخِ إنَّما هو عِندَ المُتَأخِّرينَ، أمَّا عِندَ المُتَقدِّمينَ مِنَ السَّلَفِ فقد كان مَفهومُه أوسَعَ، فكانوا يُطلِقونَه أيضًا على تَقييدِ المُطلَقِ، وتَخصيصِ العامِّ، وبَيانِ المُجمَلِ، ورَفعِ ما قد يُتَوهَّمُ مِنَ الآيةِ، وهو غَيرُ مُرادٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (لَفظُ "النَّسخِ" مُجمَلٌ؛ فالسَّلَفُ كانوا يَستَعمِلونَه فيما يُظَنُّ دَلالةُ الآيةِ عليه مِن عُمومٍ أو إطلاقٍ أو غَيرِ ذلك، كما قال مَن قال: إنَّ قَولَه: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102] ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 78] نُسِخَ بقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وليس بَينَ الآيَتَينِ تَناقُضٌ، لَكِنْ قد يَفهَمُ بَعضُ النَّاسِ مِن قَولِه: حَقَّ تُقَاتِهِ وحَقَّ جِهَادِهِ الأمرَ بما لا يَستَطيعُه العَبدُ، فيُنسَخُ ما فَهِمَه هذا كما يَنسَخُ اللهُ ما يُلقي الشَّيطانُ ويُحكِمُ اللهُ آياتِه. وإن لم يَكُنْ نَسخُ ذلك نَسخَ ما أنزَلَه بَل نَسخَ ما ألقاه الشَّيطانُ، إمَّا مِنَ الأنفُسِ أو مِنَ الأسماعِ أو مِنَ اللِّسانِ. وكذلك يَنسَخُ اللهُ ما يَقَعُ في النُّفوسِ مِن فَهمِ مَعنًى، وإن كانتِ الآيةُ لم تَدُلَّ عليه، لَكِنَّه مُحتَمِلٌ) [80] ((مجموع الفتاوى)) (14/101). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (الذي يَظهَرُ مِن كَلامِ المُتَقدِّمينَ أنَّ النَّسخَ عِندَهم في الإطلاقِ أعَمُّ مِنه في كَلامِ الأصوليِّينَ؛ فقد يُطلِقونَ على تَقييدِ المُطلَقِ نَسخًا، وعلى تَخصيصِ العُمومِ بدَليلٍ مُتَّصِلٍ أو مُنفصِلٍ نَسخًا، وعلى بَيانِ المُبهَمِ والمُجمَلِ نَسخًا، كما يُطلِقونَ على رَفعِ الحُكمِ الشَّرعيِّ بدَليلٍ شَرعيٍّ مُتَأخِّرٍ نَسخًا؛ لأنَّ جَميعَ ذلك مُشتَرَكٌ في مَعنًى واحِدٍ، وهو أنَّ النَّسخَ في الِاصطِلاحِ المُتَأخِّرِ اقتَضى أنَّ الأمرَ المُتَقدِّمَ غَيرُ مُرادٍ في التَّكليفِ، وإنَّما المُرادُ ما جيءَ به آخِرًا؛ فالأوَّلُ غَيرُ مَعمولٍ به، والثَّاني هو المَعمولُ به.
وهذا المَعنى جارٍ في تَقييدِ المُطلَقِ؛ فإنَّ المُطلَقَ مَتروكُ الظَّاهِرِ مَعَ مُقَيِّدِه؛ فلا إعمالَ له في إطلاقِه، بَلِ المُعمَلُ هو المُقَيَّدُ، فكَأنَّ المُطلَقَ لم يُفِدْ مَعَ مُقَيِّدِه شَيئًا؛ فصارَ مِثلَ النَّاسِخِ والمَنسوخِ، وكذلك العامُّ مَعَ الخاصِّ؛ إذ كان ظاهِرُ العامِّ يَقتَضي شُمولَ الحُكمِ لجَميعِ ما يَتَناولُه اللَّفظُ، فلمَّا جاءَ الخاصُّ أخرَجَ حُكمَ ظاهِرِ العامِّ عنِ الِاعتِبارِ؛ فأشبَهَ النَّاسِخَ والمَنسوخَ؛ إلَّا أنَّ اللَّفظَ العامَّ لم يُهمَلْ مَدلولُه جُملةً، وإنَّما أُهمِلَ مِنه ما دَلَّ عليه الخاصُّ، وبَقيَ السَّائِرُ على الحُكمِ الأوَّلِ، والمُبيَّنُ مَعَ المُبهَمِ، كالمُقَيَّدِ مَعَ المُطلَقِ، فلَمَّا كان كذلك استُسهِلَ إطلاقُ لَفظِ النَّسخِ في جُملةِ هذه المَعاني؛ لرُجوعِها إلى شَيءٍ واحِدٍ) [81] ((الموافقات)) (3/344). .
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في قَولِ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] : إنَّه ناسِخٌ لقَولِ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [الشورى: 20] [82] أخرجه النَّحَّاسُ في ((الناسخ والمنسوخ)) (ص: 654) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عنِ الضَّحَّاكِ (عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: وقَولُه تعالى مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ [الشورى: 20] مَن كان مِنَ الأبرارِ يُريدُ بعَمَلِه الصَّالِحِ ثَوابَ الآخِرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] أي: في حَسَناتِه، وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا [الشورى: 20] أي: مِن كان مِنَ الفُجَّارِ يُريدُ بعَمَلِه الحَسَنِ الدُّنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران: 145] ، ثُمَّ نُسِخَ ذلك في سورةٍ سُبحانَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ). .
فهذا إخبارٌ، والأخبارُ لا يَدخُلُها النَّسخُ، إنَّما هو تَقييدٌ لمُطلَقٍ؛ إذ كان قَولُه: نُؤْتِهِ مِنْهَا مُطلَقًا، ومَعناه مُقَيَّدٌ بالمَشيئةِ، وهو قَولُه في الآيةِ الأخرى: لِمَنْ نُرِيدُ [83] يُنظر: ((الموافقات)) (3/345). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في قَولِ اللهِ تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224 - 226] : هو مَنسوخٌ بقَولِه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الشعراء: 227] [84] أخرجه أبو داود (5016)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (871)، والبيهقي (21151)، ولفظُ أبي داودَ والبيهقيِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء: 224] ، فنَسَخَ مِن ذلك واستَثنى، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الشعراء: 227] . حَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5016)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5016). .
ومَعنى ذلك أنَّه تَخصيصٌ للعُمومِ قَبلَه، ولَكِنَّه أطلَقَ عليه لَفظَ النَّسخِ؛ إذ لم يُعتَبَرْ فيه الِاصطِلاحُ الخاصُّ [85] يُنظر: ((الموافقات)) (3/347). .
قال مَكِّيُّ: (قد ذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ في أشياءَ كَثيرةٍ في القُرآنِ فيها حَرفُ الِاستِثناءِ؛ أنَّه قال: مَنسوخٌ) [86] ((الإيضاح)) (ص: 373). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في قَولِ اللهِ تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] : إنَّه ناسِخٌ لقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] [87] أخرجه أبو داود (2817)، والبيهقي (19182) واللفظ لهما، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (348). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2817)، وحَسَّن إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2817). ، فإن كان المُرادُ أنَّ طَعامَ أهلِ الكِتابِ حَلالٌ وإن لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليه، فهو تَخصيصٌ للعُمومِ، وإن كان المُرادُ أنَّ طَعامَهم حَلالٌ بشَرطِ التَّسمية فهو أيضًا مِن بابِ التَّخصيصِ، لَكِنَّ آيةَ الأنعامِ هيَ آيةُ العُمومِ المَخصوصِ في الوَجهِ الأوَّلِ، وفي الثَّاني بالعَكسِ [88] يُنظر: ((الموافقات)) (3/354). .
قال الشَّاطِبيُّ: (الأمثِلةُ هنا كَثيرةٌ توضِّحُ لَك أنَّ مَقصودَ المُتَقدِّمينَ بإطلاقِ لَفظِ النَّسخِ بَيانُ ما في تَلَقِّي الأحكامِ مِن مُجَرَّدِ ظاهرِه إشكالٌ وإيهامٌ لمَعنًى غَيرِ مَقصودٍ للشَّارِعِ؛ فهو أعَمُّ مِن إطلاقِ الأصوليِّينَ؛ فليُفهَمْ هذا، وبِاللهِ التَّوفيقُ) [89] ((الموافقات)) (3/364). .
ومِن هنا اختَلَف النَّقلُ عن أبي مُسلِمٍ الأصفهانيِّ في جَوازِ النَّسخِ وعَدَمِه، فحُكيَ عنه مَنعُ النَّسخِ بَينَ الشَّرائِعِ، ونُقِلَ عنه أيضًا مَنعُ النَّسخِ في القُرآنِ الكَريمِ، وتَحقيقُ مَذهَبِه: أنَّه لم يُخالِفْ جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ القائِلينَ بجَواز النَّسخِ عَقلًا وشَرعًا في الحَقيقةِ ونَفسِ الأمرِ، ولَكِنَّ المُخالَفةَ في المُصطَلَحِ [90] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/115)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/533)، ((حاشية البناني)) (2/88). .
قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (الإنصافُ أنَّ الخِلافَ بَينَ أبي مُسلِمٍ والجَماعةِ لَفظيٌّ؛ وذلك أنَّ أبا مُسلِمٍ يَجعَلُ ما كان مُغَيًّا في عِلمِ اللهِ تعالى كما هو مُغَيًّا باللَّفظِ، ويُسَمِّي الجَميعَ تَخصيصًا، ولا فرقَ عِندَه بَينَ أن يَقولَ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] وأن يَقولَ: صوموا مُطلَقًا، وعِلمُه مُحيطٌ بأنَّه سَيُنزِلُ: لا تَصوموا وقتَ اللَّيلِ. والجَماعةُ يَجعَلونَ الأوَّلَ تَخصيصًا، والثَّانيَ نَسخًا. ولَو أنكَرَ أبو مُسلِمٍ النَّسخَ بهذا المَعنى لَزِمَه إنكارُ شَريعةِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يَقولُ: كانت شَريعةُ السَّابِقينَ مُغَيَّاةً إلى مَبعَثِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وبِهذا يَتَّضِحُ لَك الخِلافُ الذي حَكاه بَعضُهم في أنَّ هذه الشَّريعةَ مُخَصِّصةٌ للشَّرائِعِ أو ناسِخةٌ، وهذا مَعنى الخِلافِ) [91] ((رفع الحاجب)) (4/47). .
وقال المَحَلِّيُّ: (النَّسخُ واقِعٌ عِندَ كُلِّ المُسلِمينَ... وسَمَّاه أبو مُسلِمٍ الأصفهانيُّ مِنَ المُعتَزِلةِ تَخصيصًا؛ لأنَّه قَصَرَ الحُكمَ على بَعضِ الأزمانِ، فهو تَخصيصٌ في الأزمانِ، كالتَّخصيصِ في الأشخاصِ. فقيلَ: خالَف في وُجودِه حَيثُ لم يذكُرْه باسمِه المَشهورِ، فالخُلفُ الذي حَكاه الآمِديُّ وغَيرُه عنه مِن نَفيِه وُقوعَه لَفظيٌّ؛ لِما تقَدَّم مِن تَسميَتِه تَخصيصًا) [92] ((البدر الطالع)) (1/467). .

انظر أيضا: