موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: نَسخُ مَفهومِ الموافقةِ والنَّسخُ به


اختَلَف الأصوليُّونَ في نَسخِ مَفهومِ الموافقةِ والنَّسخِ به، والرَّاجِحُ أنَّه يَجوزُ أن يُنسَخَ ويُنسَخَ به. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [453] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/512). ، واختارَه ابنُ قُدامةَ [454] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/268). ، والقَرافيُّ [455] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 315). ، وابنُ تيميَّةَ [456] يُنظر: ((المسودة)) (ص: 222). . ونَسَبَ المَرداويُّ جَوازَ النَّسخِ به إلى الأئِمَّةِ الأربَعةِ ومُعظَمِ الأصوليِّينَ [457] يُنظر: ((التحبير)) (6/3078). .
ونُقِلَ الِاتِّفاقُ على جَوازِ نَسخِه والنَّسخِ به، ومِمَّن نَقَلَه: الرَّازيُّ [458] قال: (أمَّا كَونُه مَنسوخًا فقدِ اتَّفقوا على جَوازِ نَسخِ الأصلِ والفحوى مَعًا... وأمَّا كَونُه ناسِخًا فمُتَّفَقٌ عليه). ((المَحصول)) (3/360). ، والآمِديُّ [459] قال: (اتَّفقَ الكُلُّ على جَوازِ النَّسخِ بفحوى الخِطابِ، كدَلالةِ قَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] على تَحريمِ الضَّربِ وغَيرِه مِن أنواعِ الأذى، وعلى جَوازِ نَسخِ حُكمِه. وإنَّما اختَلَفوا في جَوازِ نَسخِ الأصلِ دونَ الفحوى، والفحوى دونَ الأصلِ). ((الإحكام)) (3/165). ، والهِنديُّ [460] قال: (أمَّا مَفهومُ الموافقةِ فقدِ اتَّفقَ الكُلُّ على أنَّه يَجوزُ به نَسخُ كُلِّ ما يَجوزُ نَسخُه؛ لأنَّ دَلالَتَه إن كانت لَفظيَّةً فظاهِرٌ، وإن كانت مَعنَويَّةً فكذلك؛ لأنَّها قَطعيَّةٌ غَيرُ قابِلةٍ للتَّأويلِ، فهيَ كَدَلالةِ النَّصِّ. فأمَّا نَسخُه مَعَ نَسخِ الأصلِ فهذا أيضًا مِمَّا لا نِزاعَ فيه، وهو ظاهِرٌ. وأمَّا نَسخُ الأصلِ بدونِ الفحوى، أو نَسخُ الفحوى بدونِ الأصلِ، فقدِ اختَلَفوا فيه). ((نهاية الوصول)) (6/2379). .
ونَقَلَ القَرافيُّ الِاتِّفاقَ على جَوازِ النَّسخِ به [461] قال: (ويَجوزُ نَسخُ الفحوى -الذي هو مَفهومُ الموافَقةِ- تَبَعًا للأصلِ... ويَجوزُ النَّسخُ به وِفاقًا). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 315). .
ورَدَّ الزَّركَشيُّ بمَنعِ هذا الِاتِّفاقِ، فقال: (نَقَلَ الآمديُّ والإمامُ فخرُ الدِّينِ الِاتِّفاقَ على أنَّه يُنسَخُ به ما يُنسَخُ بمَنطوقِه، وهو عَجيبٌ؛ فإنَّ في المَسألةِ وجهَينِ لأصحابِنا وغَيرِهم) [462] ((البحر المحيط)) (5/301). .
قال البِرْماويُّ: (قُلتُ: فإن كانت حِكايَتُه الِاتِّفاقَ بناءً على أنَّه ليس مِن بابِ القياسِ، فلا انتِقادَ عليهما بالمَنعِ تَفريعًا على أنَّه قياسٌ) [463] ((الفوائد السنية)) (4/1829). .
ومِثالُ المَسألةِ: أنَّ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] نَبَّهَ على تَحريمِ ضَربِ الوالِدَينِ بطَريقِ الأَولى، فلَو فُرِضَ أنَّ ضَربَهما كان مُباحًا قَبلَ هذا التَّنبيهِ كان هو ناسِخًا لإباحةِ الضَّربِ، ولَو فُرِضَ أنَّ إباحةَ ضَربِهما شُرِعَت بَعدَ التَّنبيهِ المَذكورِ كانت ناسِخةً له، فهو -أي التَّنبيهُ- ناسِخٌ في الصُّورةِ الأولى، مَنسوخٌ في الصُّورةِ الثَّانيةِ [464] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/337). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه يُفهَمُ مِنَ اللَّفظِ، فهو كالمَنطوقِ أو أقوى مِنه، وإذا كان كالنَّصِّ فيُنسَخُ ويُنسَخُ به [465] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/425)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/269)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/301)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/172). .
2- أنَّ ما ثَبَتَ باللَّفظِ ليس مِن شَرطِه أن توجَدَ صيغةُ اللَّفظِ فيه، ألَا تَرى أنَّه لو قال: اقتُلوا أهلَ الذِّمَّةِ؛ لأنَّهم كُفَّارٌ. جازَ قَتلُ عَبَدةِ الأوثانِ بهذا اللَّفظِ، وإن لم يتناوَلْهم اللَّفظُ مِن طَريق الصِّيغةِ، لَكِن مِن طَريقِ العِلَّةِ والتَّنبيهِ، كذلك هاهنا [466] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/828). .
وقيلَ: لا يَجوزُ النَّسخُ به؛ لأنَّه قياسٌ جَليٌّ، والقياسُ لا يَكونُ ناسِخًا. وهو مَذهَبُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [467] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/512)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/106). .

انظر أيضا: