موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثُ: شُروطُ التَّرجيحِ


للتَّرجيحِ شُروطٌ هيَ [563] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/147)، ((التعارض والترجيح)) للبرزنجي (2/128)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2424). :
1- ألَّا يُمكِنَ الجَمعُ بَينَ الدَّليلَينِ بوَجهٍ مَقبولٍ، فإن أمكَنَ الجَمعُ فلا تَعارُضَ ولا تَرجيحَ؛ لأنَّ في الجَمعِ إعمالًا للدَّليلَينِ، وهو أَولى مِن إهمالِ أحَدِهما [564] قال الشَّاطِبيُّ: (التَّعارُضُ إمَّا أن يُعتَبَرَ مِن جِهةِ ما في نَفسِ الأمرِ، وإمَّا مِن جِهةِ نَظَرِ المُجتَهدِ؛ أمَّا مِن جِهةِ ما في نَفسِ الأمرِ فغَيرُ مُمكِنٍ بإطلاقٍ... وأمَّا مِن جِهةِ نَظَرِ المُجتَهدِ فمُمكِنٌ بلا خِلافٍ، إلَّا أنَّهم إنَّما نَظَروا فيه بالنِّسبةِ إلى كُلِّ مَوضِعٍ لا يُمكِنُ فيه الجَمعُ بَينَ الدَّليلَينِ، وهو صَوابٌ؛ فإنَّه إن أمكَنَ الجَمعُ فلا تَعارُضَ؛ كالعامِّ مَعَ الخاصِّ، والمُطلَقِ مَعَ المُقَيَّدِ، وأشباهِ ذلك). ((الموافقات)) (5/342). وقال صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ: (إذا تَعارَضَ دَليلانِ فإن لم يُمكِنِ العَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنهما بوَجهٍ دونَ وجهٍ، صُيِّرَ إلى التَّرجيحِ، وإن أمكَنَ العَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنهما مِن وجهٍ دونَ وجهٍ، صُيِّرَ إليه؛ لأنَّه أولى مِنَ العَمَلِ بأحَدِهما دونَ الثَّاني؛ إذ فيه إعمالُ الدَّليلَينِ، والإعمالُ أَولى مِنَ الإهمالِ). ((نهاية الوصول)) (8/3662). ، ومِثالُه: حَديثُ أبي أيُّوبَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (إذا أتَيتُمُ الغائِطَ فلا تَستَقبِلوا القِبلةَ ولا تَستَدبِروها ببَولٍ ولا غائِطٍ، ولَكِنْ شَرِّقوا أو غَرِّبوا) [565] أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) واللفظ له. ؛ حَيثُ يُفيدُ المَنعَ مِنِ استِقبالِ القِبلةِ واستِدبارِها عِندَ قَضاءِ الحاجةِ. وقَولُ ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: (رَقِيتُ على بَيتِ حَفصةَ فرَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقضي حاجَتَه مُستَقبِلَ الشَّامِ مُستَدبِرَ الكَعبةِ) [566] أخرجه الترمذي (11). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (11). وأخرجه البخاري (148)، ومسلم (266) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ مُسلِمٍ: رَقيتُ على بَيتِ أختي حَفصةَ، فرَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاعِدًا لحاجَتِه، مُستَقبِلَ الشَّامِ، مُستَدبِرَ القِبلةِ. ؛ حَيثُ أفادَ فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَوازَ استِدبارِ الكَعبةِ، فلا يُصارُ هنا إلى تَرجيحِ أحَدِ الدَّليلَينِ على الآخَرِ؛ لأنَّ الجَمعَ بَينَهما مُمكِنٌ بحَملِ المَنعِ في الصَّحراءِ، والجَوازِ في البُنيانِ؛ قال ابنُ الأثيرِ: (وهذا الحَديثُ حُجَّةٌ لِما ذَهَبَ إليه الشَّافِعيُّ ومَن قال بقَولِه في التَّفريقِ بَينَ الصَّحاري والبُنيانِ؛ فإنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قدِ استَقبَلَ بَيتَ المَقدِسِ مُستَدبِرَ الكَعبةِ في البُنيانِ فوقَ ظَهرِ البَيتِ، كما ذَكَرَ ابنُ عُمَرَ، وقد عَلَّلَ الفرقَ: بأنَّ الفضاءَ والصَّحراءَ مَوضِعُ الصَّلاةِ، ومُتَعَبَّدٌ للمَلائِكةِ والإنسِ والجِنِّ، والقاعِدُ فيه مُستَقبِلًا ومُستَدبِرًا لها مُستَهدَفٌ لأبصارِ المُصَلِّينَ، وهذا المَعنى مَأمونٌ في الأبنيةِ. وفي العَمَلِ بذلك جَمعٌ بَينَ الأخبارِ، والعَمَلِ بها، وفي العَمَلِ بحَديثِ أبي أيُّوبَ تَعَطُّلٌ لبَعضِ الأخبارِ، وإسقاطُ العَمَلِ بها) [567] يُنظر: ((الشافي في شرح مسند الشافعي)) (1/175). .
2- أن يَكونَ التَّعارُضُ بَينَ الأدِلَّةِ القابِلةِ للتَّعارُضِ لكَونِها يَدخُلُها التَّرجيحُ، فلا تَرجيحَ بَينَ دَليلٍ قَطعيٍّ ودَليلٍ ظَنِّيٍّ؛ لعَدَمِ وُقوعِ التَّعارُضِ بَينَهما؛ لأنَّ الظَّنَّ لا يُعارِضُ القَطعَ [568] قال ابنُ قُدامةَ: (ولا يُتَصَوَّرُ التَّرجيحُ بَينَ عِلمٍ وظَنٍّ؛ لأنَّ ما عُلِمَ كَيف يُظَنُّ خِلافُه؟ وظَنُّ خِلافِه شَكٌّ، فكَيف يُشَكُّ فيما يُعلَمُ؟). يُنظر: ((روضة الناظر)) (2/390). .
3- أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ ثابِتَ الحُجِّيَّةِ، فإنِ انتَفت حُجِّيَّةُ أحَدِهما لضَعفِه أو عَدَمِ ثُبوتِه سَقَطَ الِاستِدلالُ به، ولا مَجالَ للتَّرجيحِ، بَل يُعمَلُ بالثَّابِتِ [569] قال الرَّازيُّ: (لا يَصِحُّ التَّرجيحُ بَينَ أمرَينِ إلَّا بَعدَ تَكامُلِ كَونِهما طَريقَينِ لَوِ انفرَدَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما فإنَّه لا يَصِحُّ تَرجيحُ الطَّريقِ على ما ليس بطَريقٍ). يُنظر: ((المَحصول)) (5/397). .
4- أن يَكونَ المُرَجِّحُ قَويًّا، بحَيثُ يَجعَلُ المُجتَهِدُ يَغلِبُ على ظَنِّه أنَّ أحَدَ الدَّليلَينِ أقوى مِنَ الآخَرِ، فإن كان المُرَجِّحُ ضَعيفًا عِندَ المُجتَهِدِ فلا تَرجيحَ به، كما سيَأتي في خِلافِ العُلَماءِ في بَعضِ المُرَجِّحاتِ كما هو الحالُ في التَّرجيحِ بكَثرةِ الأدِلَّةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ وغَيرِ ذلك مِمَّا يَراه بَعضُ المُجتَهِدينَ لا يَصلُحُ مُرَجِّحًا.

انظر أيضا: