موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأولى: في طُرُقِ التَّرجيحِ التي تَرجِعُ إلى الرُّواةِ


لمَّا كانتِ الأدِلَّةُ النَّقليَّةُ تَشمَلُ القُرآنَ والسُّنَّةَ، وكان القُرآنُ الكَريمُ مُتَواتِرًا مِن حَيثُ الثُّبوتُ، فمِن ثَمَّ لا تَرجيحَ فيه لآيةٍ على أخرى؛ للقَطعِ بأنَّ كُلَّه مِن عِندِ اللهِ، أمَّا السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ فلِكَونِها لَيسَت كُلُّها مَقطوعًا بها لا مِن حَيثُ سَنَدُها [584] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 372)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2437). ولا مِن حَيثُ دَلالَتُها، فإنَّه يَدخُلُها التَّرجيحُ مِن حَيثُ السَّنَدُ باعتِبارِ الرُّواةِ وأحوالِهم، وأشهَرُ هذه الوُجوهِ التي يُرَجَّحُ بها باعتِبارِ السَّنَدِ:
أوَّلًا: التَّرجيحُ بكِبَرِ الرَّاوي
إذا تَعارَضَ حَديثانِ ولم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَهما ولا مَعرِفةُ المُتَأخِّرِ مِنهما ليُحكَمَ بالنَّسخِ، وكان راوي أحَدِهما قد رَوى الحَديثَ بَعدَ بُلوغِه، والآخَرُ كان صَغيرًا، أو تَحَمَّله أحَدُهم وهو بالِغٌ، وتَحَمَّله الآخَرُ قَبلَ البُلوغِ؛ فإنَّه تُرَجَّحُ رِوايةُ الكَبيرِ الذي تَحَمَّلَ أو رَوى في البُلوغِ؛ وذلك لأنَّ الكَبيرَ أضبَطُ للحَديثِ مِنَ الصَّغيرِ، ولأنَّ الغالِبَ أن يَكونَ أقرَبَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَعَ شِدَّةِ الِاحتِرازِ عنِ الكَذِبِ، فيَحتاطُ في النَّقلِ أكثَرَ بخِلافِ الصَّبيِّ، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ [585] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 83)، ، والسَّمعانيُّ [586] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/404). ، وابنُ السُّبكيِّ [587] يُنظر: ((الإبهاج)) (7/2787:2784). .
ومِثالُه: تَرجيحُ رِوايةِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ على رِوايةِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ قال: ((أتى بي أبي إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي نَحَلتُ ابني هذا غُلامًا، فقال: أكُلَّ بَنيكَ نَحَلتَ؟ قال: لا، قال: فاردُدْه)) [588] أخرجه البخاري (2586)، ومسلم (1623). .
وفي رِوايةِ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قالتِ امرَأةُ بَشيرٍ: انحَلِ ابني غُلامَكَ وأشهِدْ لي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ ابنةَ فُلانٍ سَألَتني أن أنحَلَ ابنَها غُلامي، وقالت: أشهِدْ لي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ألَه إخوةٌ؟ قال: نَعَم، قال: أفكُلَّهم أعطَيتَ مِثلَ ما أعطَيتَه؟ قال: لا، قال: فليس يَصلُحُ هذا، وإنِّي لا أشهَدُ إلَّا على حَقٍّ)) [589] أخرجه مسلم (1624). .
قال الطَّحاويُّ: (فكان الذي في هذا الحَديثِ إخبارَ بَشيرٍ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُؤالَ امرَأتِه إيَّاه ما سَألَته أن يَنحَلَه ابنَها، وإشهادَه على ذلك، وأنَّ الذي كان مِن جَوابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما كان له في استِرشادٍ أرشَدَه، لا في عَطيَّةٍ كانت تَقدَّمَت مِنه قَبلَ ذلك، وكان هذا مِن جابِرٍ أَولى بما في هذه الآثارِ؛ لمَوضِعِ جابِرٍ مِنَ السِّنِّ والعِلمِ، وجَلالةِ مِقدارِه فيه، ولأنَّ النُّعمانَ كان يَومئِذٍ صَغيرًا ليس مَعَه مِنَ الضَّبطِ لِما سَمِعَه مِثلُ ما مَعَ جابِرٍ في ذلك) [590] ((شرح مشكل الآثار)) (13/77). .
ثانيًا: التَّرجيحُ بكَونِ الرَّاوي مُتَأخِّرَ الإسلامِ
إذا تَعارَضَ حَديثانِ، وكان راوي أحَدِهما مُتَأخِّرَ الإسلامِ؛ فإنَّه يُرَجَّحُ حَديثُه، ومِمَّنِ اختارَه الشِّيرازيُّ [591] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 84). ، والسَّمعانيُّ [592] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/406). ، والآمِديُّ [593] الآمِديُّ ذَكَرَ في التَّرجيحِ بما يَعودُ إلى الرَّاوي: التَّرجيحَ بتَقدُّمِ الإسلامِ لزيادةِ أصالَتِه في الإسلامِ، وذَكَر في التَّرجيحِ بما يَعودُ إلى أمرٍ خارِجٍ: التَّرجيحَ بتَأخُّرِ الإسلامِ. يُنظر: ((الإحكام)) (4/267،244). ، وابنُ جُزيٍّ [594] يُنظر: ((تقريب الوصول)) (ص: 200). ؛ وذلك لأنَّه يَحفظُ آخِرَ الأمرَينِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما أنَّ سَماعَ المُتَأخِّرِ مُتَحَقِّقُ التَّأخُّرِ، وسَماعُ المُتَقدِّمِ يَحتَمِلُ التَّأخُّرَ والتَّقدُّمَ، فما تَأخَّرَ بيَقينٍ أَولى، فالذي لا احتِمالَ فيه أَولى مِمَّا فيه احتِمالٌ، فتُقدَّمُ رِوايةُ المُتَأخِّرِ [595] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص:84)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/406)، ((المحصول)) للرازي (5/425)، ((الإحكام)) للآمدي (4/267)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 424). ؛ ولِهذا قال عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (كانوا يَأخُذونَ بالأحدَثِ فالأحدَثِ مِن أمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [596] أخرجه مسلم (1113) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: وكان صَحابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَّبِعونَ الأحدَثَ فالأحدَثَ مِن أمرِه. .
وأيضًا: فعن جَريرٍ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: "رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بال ثُمَّ تَوضَّأ ومَسَحَ على خُفَّيه" [597] أخرجه البخاري (387)، ومسلم (272) واللَّفظُ له. ، قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: كان يُعجِبُهم هذا الحَديثُ؛ لأنَّ إسلامَ جَريرٍ كان بَعدَ نُزولِ المائِدة [598] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/247). .
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك [599] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/343،342)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/343). : تَقديمُ حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه في نَقضِ الوُضوءِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ؛ حَيثُ رُجِّحَ على حَديثِ طَلقِ بنِ عَليٍّ الحَنَفيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه سُئِلَ عن مَسِّ الذَّكَرِ هَل يَنقُضُ الوُضوءَ، فقال: ((هَل هو إلَّا بَضعةٌ مِنك؟)) [600] أخرجه أحمد (../23)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/352) واللفظ لهما، والدارقطني (1/273). صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (1/238)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/306)، والصنعاني في ((العدة على الإحكام)) (1/199): صحيحٌ أو حَسَنٌ. ، وقد جاءَ في إحدى الرِّواياتِ عن طَلقٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((خَرَجنا وفدًا حتَّى قدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايَعناه وصَلَّينا مَعَه، فلَمَّا قَضى الصَّلاةَ جاءَ رَجُلٌ كَأنَّه بَدَويٌّ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما تَرى في رَجُلٍ مَسَّ ذَكَرَه في الصَّلاةِ؟ قال: وهَل هو إلَّا مُضغةٌ مِنكَ أو بَضعةٌ مِنكَ؟)) [601] أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) واللَّفظُ له. صَحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/76)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1120)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (1/131)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (165)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((تعليقة على العلل)) (83): حَسَنٌ أو صحيحٌ. ، وكان قُدومُ وفدِ بَني حَنيفةَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلَ سَنةٍ مِنَ الهجرةِ؛ حَيثُ كان المُسلِمونَ يَبنونَ مَسجِدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمَدينةِ، وأمَّا حَديثُ أبي هرَيرةَ في نَقضِ الوُضوءِ بمَسِّ الذَّكَرِ؛ فقد جاءَ بَعدَ ذلك؛ لأنَّ أبا هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مُتَأخِّرُ الإسلامِ، إذ أسلمَ سَنةَ سَبعٍ.
وقيلَ: المُتَقدِّمُ إذا كان مَوجودًا مَعَ المُتَأخِّرِ لم يَمتَنِعْ أن تَكونَ رِوايَتُه مُتَأخِّرةً عن رِوايةِ المُتَأخِّرِ، وأمَّا إذا عَلِمنا أنَّه ماتَ المُتَقدِّمُ قَبلَ إسلامِ المُتَأخِّرِ، أو عَلِمنا أنَّ أكثَرَ رِواياتِ المُتَقدِّمِ مُتَقدِّمٌ على رِوايةِ المُتَأخِّرِ؛ فهاهنا نَحكُمُ بالرُّجحانِ؛ لأنَّ النَّادِرَ يُلحَقُ بالغالِبِ [602] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/425). ، ومِمَّنِ اختارَه الرَّازيُّ [603] يُنظر: ((المحصول)) (5/425). ، وصَفِيُّ الدِّينِ الهِنْديُّ [604] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3698). .
وقيلَ: إنَّ تَأخُّرَ إسلامِ الرَّاوي لا يوجِبُ تَأخيرَ خَبَرِه عن خَبَرِ مَن تقدَّم إسلامُه؛ لأنَّ كُفرَ الكافِرِ لا يَمنَعُ صِحَّةَ سَماعِه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا جازَ أن يَكونَ الرَّاوي قد سَمِعَ ما رَواه في حالةِ كُفرِه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ رَواه بَعدَ إسلامِه، لم يَكُنْ في تَأخيرِ إسلامِه دَليلٌ على تَأخيرِ خَبَرِه [605] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1034،1033). ، ومِمَّنِ اختارَه الكَمالُ بنُ الهُمامِ [606] يُنظر: ((التحرير)) مع شرحه ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/165،164). ، وابنُ مُفلِحٍ [607] يُنظر: ((أصول الفقه)) (4/1589). .
وذَهَبَ بَعضُ الأصوليِّينَ إلى التَّسويةِ بَينَ رِوايةِ مُتَقدِّمِ الإسلامِ وروايةِ المُتَأخِّرِ [608] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/696)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 169). ، ومِمَّنِ اختارَه أبو يَعلى [609] يُنظر: ((قال أبو يعلى: (فأمَّا مَن تَأخَّرَ إسلامُه فإنَّه لا يوجِبُ ذلك تَأخيرَ خَبَرِه عن خَبَرِ مَن تقدَّم إسلامُه). ((العدة)) (3/1033). ويُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 311). ، وابنُ عَقيلٍ [610] يُنظر: ((الواضح)) (5/87). .
ثالِثًا: التَّرجيحُ بقوَّةِ الحِفظِ وشِدَّةِ الضَّبطِ
إذا رَوى راويانِ حَديثًا بلَفظَينِ مُتَعارِضَينِ، أو رَويا حَديثَينِ مُتَعارِضَينِ، وكان أحَدُ الرَّاويَينِ مَوصوفًا بالحِفظِ أوِ الضَّبطِ دونَ الآخَرِ، أو كان أحفَظَ وأضبَطَ مِنَ الآخَرِ؛ قُدِّمَت رِوايةُ الأحفَظِ والأضبَطِ على مُخالِفِه؛ لأنَّ مَدارَ القَبولِ في الرِّوايةِ على هذا الأمرِ [611] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/419)، ((الإحكام)) للآمدي (4/243)، ((شرح مختصر المنتهى)) للعضد (3/648)، ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص)) لحسن بخاري (ص: 201). قال إمامُ الحَرَمَينِ: (إذا رَوى راويانِ خَبَرينِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما ثِقةٌ مَقبولُ الرِّوايةِ لَوِ انفرَدَ، ولَكِن في أحَدِهما مَزيَّةٌ ظاهِرةٌ في قوَّةِ الحِفظِ والضَّبطِ والِاعتِناءِ بالوَعيِ، فهذا مِمَّا يُرى أهلُ الحَديثِ مُجمِعينَ على التَّقديمِ فيه). ((البرهان)) (2/186). .
ومِثالُه: حَديثُ وائِلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّيتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا افتَتَحَ الصَّلاةَ كَبَّرَ ورَفعَ يَدَيه حتَّى حاذَتا أذُنَيه، ثُمَّ يَقرَأُ بفاتِحةِ الكِتابِ، فلمَّا فرَغَ مِنها قال: "آمينَ" يَرفعُ بها صَوتَه)) [612] أخرجه أبو داود (932) مختصرًا، والترمذي (248) بلَفظ: "ومَدَّ بها صَوتَه"، والنسائي (879) واللَّفظُ له. صَحَّحه الدارقطني في ((السنن)) (1/686)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (879)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1188). ، وهو مِن رِوايةِ سُفيانَ الثَّوريِّ، وفي رِوايةٍ: ((... قال آمينَ، ويَخفِضُ بها صَوتَه)) [613] أخرجه الترمذي مُعَلَّقًا بَعدَ حَديثِ (248)، وأحمد (18843). قال الألبانيُّ في ((ضعيف سنن الترمذي)) (248): شاذٌّ، وذَكَرَ البخاري كما في ((سنن الترمذي)) (2/27) أنَّ حَديثَ سُفيانَ أصَحُّ من حديثِ شُعبةَ في هذا، وأخطَأ شُعبةُ في مَواضِعَ مِن هذا الحَديثِ، وقال: "وخَفض بها صَوتَه"، وإنَّما هو "ومَدَّ بها صَوتَه"، وذَكَرَ أبو زُرعةَ الرَّازيُّ كما في ((سنن الترمذي)) (2/27) أنَّ حَديثَ سُفيانَ في هذا أصَحُّ من حديثِ شُعبةَ، وقال الدارقطنيُّ في ((السنن)) (1/686): يُقالُ: إنَّ شُعبةَ وَهِم في قَولِه: "وأخفى بها صَوتَه"، والصَّوابُ: "ورَفعَ صَوتَه بآمينَ"، وقال ابنُ المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (3/581): خِلافُ ما عليه الأكثَرُ والأحفَظُ، وقال العِراقيُّ في ((طرح التثريب)) (2/268): خطَأٌ. . وهيَ مِن رِوايةِ شُعبةَ.
فوقَعَ الِاختِلافُ بَينَ سُفيانَ الثَّوريِّ وشُعبةَ في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "آمينَ"؛ فالثَّوريُّ يَقولُ: "رَفعَ بها صَوتَه"، وشُعبةُ يَقولُ: "خَفض بها صَوتَه"، وقد رَجَّحَ الحُفَّاظُ رِوايةَ الثَّوريِّ؛ لأنَّه أحفظُ مِن شُعبةَ. ومِمَّن ذَكَرَ أنَّ سُفيانَ الثَّوريَّ أحفظُ مِن شُعبةَ: أبو حاتِمٍ الرَّازيُّ، وأبو زُرعةَ [614] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (7/270). .
قال التِّرمِذيُّ: (سَمِعتُ مُحَمَّدًا يَقولُ: "حَديثُ سُفيانَ أصَحُّ من حديثِ شُعبةَ في هذا، وأخطَأ شُعبةُ في مَواضِعَ مِن هذا الحَديثِ، فقال: عن حُجْرٍ أبي العَنبَسِ، وإنَّما هو حُجرُ بنُ عَنبَسٍ، ويُكَنَّى أبا السَّكَنِ، وزاد فيه، عن عَلقَمةَ بنِ وائِلٍ، وليس فيه: عن عَلقَمةَ، وإنَّما هو حُجرُ بنُ عَنبَسٍ، عن وائِلِ بنِ حُجرٍ، وقال: وخَفضَ بها صَوته، وإنَّما هو: ومَدَّ بها صَوتَه". وسَألتُ أبا زَرعةَ عن هذا الحَديثِ، فقال: "حَديثُ سُفيانَ في هذا أصَحُّ") [615] ((سنن الترمذي)) (2/27)، ويُنظر: ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (3/145)، ((أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء)) لماهر الفحل (ص: 22). .
رابِعًا: التَّرجيحُ بفِقهِ الرَّاوي
إذا تَعارَضَت رِوايَتانِ ولم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَهما ولا مَعرِفةُ المُتَأخِّرِ مِنهما، فتُقدَّمُ رِوايةُ الفقيهِ ونَحوِه على غَيرِه، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: الشِّيرازيُّ [616] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 83). ، والسَّرَخسيُّ [617] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/253). ، وسِراجُ الدِّينِ الأُرْمويُّ [618] يُنظر: ((التحصيل)) (2/263). ، وابنُ السُّبكيِّ [619] يُنظر: ((الإبهاج)) (7/2758). ، والسُّيوطيُّ [620] يُنظر: ((تدريب الراوي)) (2/655). ، وآخَرونَ [621] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 83)، ((المحصول)) للرازي (5/415)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/397)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/2758)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 379)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/242،241). ؛ وذلك لأنَّ للفقيهِ مَرتَبةَ التَّمييزِ بَينَ ما يَجوزُ وبَينَ ما لا يَجوزُ، فإذا سَمِعَ ما لا يَجوزُ إجراؤُه على ظاهرِه بَحَثَ عنه، واطَّلَعَ على ما يَزولُ به الإشكالُ، بخِلافِ غَيرِ الفقيهِ فلا قُدرةَ له على ذلك، بل يَروي ما يَسمَعُه، كما أنَّ احتِمالَ الخَطَأِ في رِوايةِ الفقيهِ أقَلُّ، والضَّبطُ في رِوايَتِه أكثَرُ [622] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2445). .
قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (عن عَليِّ بنِ خَشرَمٍ، قال: "قال لَنا وكيعٌ: أيُّ الإسنادَينِ أحَبُّ إليكُمُ: الأعمَشُ عن أبي وائِلٍ عن عَبدِ اللَّهِ، أو سُفيانُ عن مَنصورٍ عن إبراهيمَ عن عَلقَمةَ عن عَبدِ الِلَّه؟ فقُلنا: الأعمَشُ عن أبي وائِلٍ، فقال: يا سُبحانَ اللَّهِ! الأعمَشُ شَيخٌ، وأبو وائِلٍ شَيخٌ، وسُفيانُ فَقيهٌ، ومَنصورٌ فقيهٌ، وإبراهيمُ فقيهٌ، وعَلقَمةُ فقيهٌ! وحَديثٌ يَتَداولُه الفُقَهاءُ خَيرٌ مِن أن يَتَداولَه الشُّيوخُ) [623] يُنظر: ((الكفاية)) (ص: 436). .
ومِثالُه: تَرجيحُ رِوايةِ مالِكٍ وسُفيانَ عن أبي حازِمٍ عن سَهلِ بنِ سَعدٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((زَوَّجتُكها بما مَعَك مِنَ القُرآنِ)) [624] أخرجه أبو داود (2111)، والترمذي (1114)، وأحمد (22850) مِن رِوايةِ مالِكٍ عن أبي حازِمٍ، وأخرجه الحميدي (957)، والطبراني (6/176) (5915) مِن رِوايةِ سُفيانَ عن أبي حازِمٍ. وأخرجه البخاري (5029) مِن رِوايةِ حَمَّاد عن أبي حازِمٍ، و(5132) مِن رِواية فضيلِ بنِ سُلَيمانَ، عن أبي حازِمٍ. ، على رِوايةِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي حازِمٍ وزائِدةَ عن أبي حازِمٍ عن سَهلٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((مَلَّكْتُكها بما مَعَك مِنَ القُرآنِ)) [625] أخرجه البخاري (5087) مِن رِوايةِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي حازِمٍ، عن أبي حازِمٍ. وأخرجه الطبراني (6/195) (5980) مِن رِوايةِ زائِدةَ، عن أبي حازِمٍ. وأخرجه مسلم (1425) من روايةِ يعقوبَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ القاريِّ عن أبي حازمٍ. ؛ وذلك لأنَّ مالِكًا وسُفيانَ أعلَمُ مِنهما وأوثَقُ وأضبَطُ [626] يُنظر: ((رفع الحاجب)) (4/612،611)، ((الأشباه والنظائر)) (2/199) كلاهما لابن السبكي، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/498). ودَفعَ الحَنَفيَّةُ هذا التَّرجيحَ بأنَّ البخاريَّ ومسلمًا أخرجا رِوايةَ ((مَلَّكْتُكها)) فتَقَوَّت بتَخريجِهما إيَّاها. يُنظر: ((إيثار الإنصاف)) لسبط بن الجوزي (ص: 149). .
ومِن ذلك: تَرجيحُ تَقديمِ رِوايةِ عُمَرَ وابنِه وابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ على رِوايةِ مَعقِلِ بنِ سِنانٍ ونَحوِه مِمَّن قَلَّت مُخالَطَتُهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّفقُّهِ عليه، رَضِيَ اللهُ عنهم جَميعًا، وكذلك الأمرُ فيمَن بَعدَ الصَّحابةِ مِنَ الرُّواةِ، فتُقَدَّمُ رِوايةُ إبراهيمَ النَّخعيِّ عن عَلقَمةَ عن ابنِ مَسعودٍ، على رِوايةِ الأعمَشِ عن أبي وائِلٍ عن ابنِ مَسعودٍ؛ فالأعمَشُ وأبو وائِلٍ أقَلُّ فِقهًا مِنَ النَّخَعيِّ وعَلقَمةَ [627] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 436)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 433). .
خامِسًا: التَّرجيحُ بكَونِ الرَّاوي صاحِبَ القِصَّةِ أو مُباشِرًا لها أو سَفيرًا فيها
فإذا كان أحَدُ الرَّاويَينِ صاحِبَ الواقِعةِ أو مُباشِرًا لها أو سَفيرًا فيها، فيَكونُ خَبَرُه راجِحًا على راوي الخَبَرِ الآخَرِ إذا لم يَكُنْ كذلك، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: الخَطيبُ البَغداديُّ [628] يُنظر: ((الكفاية في علم الرواية)) (ص: 435). ، وأبو يَعلى [629] يُنظر: ((العدة)) (3/1025). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [630] يُنظر: ((التلخيص)) (2/441). ، وأبو الخطَّابِ الكَلْوَذانيُّ [631] يُنظر: ((التمهيد)) (3/207). ؛ وذلك لأنَّ صاحِبَ القِصَّةِ أعلَمُ بظاهرِها وباطِنِها، وأشَدُّ إتقانًا بحِفظِ حُكمِها، فهو أعرَفُ مِن غَيرِه بحالِ الخَبَرَ الذي يَرويه، وأكثَرُ اهتِمامًا [632] يُنظر: ((الإشارة)) للباجي (ص: 84)، ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار)) لأبي بكر الهمداني (ص: 11). .
وقد رَجَّحَ الشَّافِعيُّ [633] يُنظر: ((معرفة السنن والآثار)) للبيهقي (7/185). رِوايةَ أبي رافِعٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزَوَّج مَيمونةَ وهو حَلالٌ [634] أخرجها الترمذي (841)، وأحمد (27197) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ الترمذيِّ: عن أبي رافِعٍ، قال: تَزَوَّجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَيمونةَ وهو حَلالٌ، وبَنى بها وهو حَلالٌ، وكُنتُ أنا الرَّسولَ فيما بَينَهما. صَحَّحها ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4130)، وابنُ القَيِّمِ في ((زاد المعاد)) (3/329)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/447)، وحسَّنها الترمذي، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/758)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27197). وقال الألبانيُّ في ((ضعيف سنن الترمذي)) (841): ضَعيفٌ، لَكِنَّ الشَّطرَ الأوَّلَ مِنه صحيحٌ عن طُرُقٍ أخرى، وذَكَر الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2/270) أنَّ فيه مَطَرًا الورَّاقَ: ليس عِندَهم مِمَّن يُحتَجُّ بحَديثِه. على رِوايةِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَزَوَّجها وهو مُحرِمٌ [635] أخرجها البخاري (1837)، ومسلم (1410). ؛ لأنَّ أبا رافِعٍ كان السَّفيرَ في ذلك، فكان أعرَفَ بالقِصَّةِ ومُباشِرًا لها [636] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/417،416)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3682،3681)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/2764،2763). .
وقيلَ: لا تَرجيحَ بكَون الرَّاوي صاحِبَ القِصَّةِ، ونَسَبَه أبو يَعلى وابنُ عَقيلٍ للجُرجانيِّ مِن أصحابِ أبي حَنيفةَ [637] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1025)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/82). قال ابنُ عَقيلٍ: (وخالَف في ذلك الجُرْجانيُّ مِن أصحابِ أبي حَنيفةَ، وقال: قد يَكونُ غَيرُ المُلابِسِ أعرَفَ بحالِ رَسولِ اللهِ وأقرَبَ. وهذا بَعيدٌ مِنَ القَولِ؛ لأنَّ البُعدَ مِنَ القِصَّةِ يُبعِدُ عن فَهمِها وفَهمِ حالِ مُلابِسِها في غالِبِ الأحوالِ، فلا عِبرةَ بما يَندُرُ). ((الواضِح)) (5/82). .
سادِسًا: التَّرجيحُ بكَثرةِ الرُّواةِ
إذا تَعارَضَ خَبرانِ قدِ استَوى رواتُهما في الصِّفاتِ المَطلوبةِ مِنَ العَدالةِ والثِّقةِ، وكان أحَدُهما أكثَرَ رواةً، فإنَّه يُقدَّمُ على الآخَرِ، كأن يَرويَ أحَدَ الخَبرَينِ صَحابيٌّ، والآخَرُ يَرويه صَحابيَّانِ، فيُقدَّمُ الأكثَرُ رواةً عِندَ جُمهورِ العُلَماءِ [638] قال إمامُ الحَرَمَينِ: (إذا تَعارَضَ خَبَرانِ نَصَّانِ نَقَلَهما الآحادُ، واستَوى الرُّواةُ في الصِّفاتِ المَرعيَّةِ في حُصولِ الثِّقةِ، ولَكِن كان أحَدُهما أكثَرَ رواةً، فالذي ذَهَبَ إلَيه الأكثَرونَ التَّرجيحُ بكَثرةِ العَدَدِ، وهو مَذهَبُ الفُقَهاءِ). ((البرهان)) (2/185). وقال الأسمنديُّ: (ومِنها كَثرةُ الرُّواةِ. وقدِ اختَلَفوا فيه: فذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّه لا يَقَعُ بها التَّرجيحُ، قالوا: الخَبَرُ إذا انحَطَّ ناقِلوه عن عَدَدِ التَّواتُرِ فالواحِدُ والأكثَرُ فيه سَواءٌ. وذَهَبَ عامَّةُ أهلِ الأصولِ إلى أنَّه يَقَعُ به التَّرجيحُ، وهو مَذهَبُ الكَرخيّ والشَّافِعيِّ رَحِمَهما اللهُ). ((بذل النظر)) (ص: 485). وقال الشَّوكانيُّ: (الصُّورةُ الأولى: التَّرجيحُ بكَثرةِ الرُّواةِ، فيُرَجَّحُ ما رواتُه أكثَرُ على ما رواتُه أقَلُّ؛ لقوَّةِ الظَّنِّ به، وإليه ذَهَب الجُمهورُ). ((إرشاد الفحول)) (2/264). وقال ابنُ عبدِ الشَّكورِ: (لا تَرجيحَ بكَثرةِ الأدِلَّةِ والرُّواةِ ما لم تَبلُغِ الشُّهرةَ عِند أبي حَنيفةَ وأبي يوسُفَ، خِلافًا للأكثَرِ). ((مسلم الثبوت)) (2/165). ، مِنهم أبو يَعلى [639] قال: (أحَدُها: أن يَكونَ أحَدُ الخَبرَينِ أكثَرَ رُواةً، فيَجِبُ تَقديمُه). ((العدة)) (3/1019). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [640] قال: (ما يَقَعُ به التَّرجيحُ: كَثرةُ الرُّواةِ في أحَدِ الحَديثَينِ وقِلَّتُه في الآخَرِ، مَعَ تَساوي الرُّواةِ في العَدالةِ والثِّقةِ). ((التلخيص)) (2/438). ، والسَّمعانيُّ [641] قال: (أن يَكونَ أحَدُ الخَبرَينِ أكثَرَ رُواةً، فتُقدَّمُ على الخَبَرِ الذي يَكونُ أقَلَّ رُواةً). ((قواطع الأدلة)) (1/405). .
الأدِلَّةُ [642] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1021-1022)، ((التبصرة)) لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 348)، ((أصول السرخسي)) (2/24)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/405)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/203-204)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/78:77). :
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إحدى صَلاتَيِ العَشيِّ -قال ابنُ سِيرينَ: سَمَّاها أبو هرَيرةَ، ولَكِن نَسِيتُ أنا- قال: فصَلَّى بنا رَكعَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ، فقامَ إلى خَشَبةٍ مَعروضةٍ في المَسجِدِ، فاتَّكَأ عليها كَأنَّه غَضبانُ، ووَضَع يَدَه اليُمنى على اليُسرى، وشَبَّك بَينَ أصابِعِه، ووضَع خَدَّه الأيمَنَ على ظَهرِ كَفِّه اليُسرى، وخَرَجَتِ السَّرَعانُ مِن أبوابِ المَسجِدِ، فقالوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ! وفي القَومِ أبو بَكرٍ وعُمَرُ، فهابا أن يُكَلِّماه، وفي القَومِ رَجُلٌ في يَدَيه طولٌ، يُقالُ له: ذو اليَدَينِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، أنسِيتَ أم قَصُرَت الصَّلاةُ؟ قال: لم أنسَ ولم تَقصُرْ، فقال: أكما يَقولُ ذو اليَدَينِ؟ فقالوا: نَعَمْ، فتَقدَّم فصَلَّى ما تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ...)) [643] أخرجه البخاري (482) واللَّفظُ له، ومسلم (573). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرجِعْ إلى قَولِ ذي اليَدَينِ حتَّى أخبَرَه بذلك غَيرُه، فرَجَعَ إلى قَولِهم.
2- أنَّ الشَّيءَ بَينَ الجَماعةِ الكَثيرةِ أحفَظُ مِنه بَينَ الجَماعةِ اليَسيرةِ، فخَبَرُ الجَماعةِ أَولى بالحِفظِ والضَّبطِ.
3- أنَّ الخَبَرَ إذا كان أكثَرَ رُواةً فهو أقرَبُ إلى الصَّوابِ وأبعَدُ مِنَ الخَطَأِ؛ فوجَبَ تَقديمُه والأخذُ به.
4- أنَّ كَثرةَ العَدَدِ لها تَأثيرٌ في إيجابِ العِلمِ؛ لأنَّ المُخبِرينَ إذا بَلَغوا عَدَدًا مَخصوصًا وقَعَ العِلمُ بمَخبَرِهم، وإذا كانت كَثرةُ العَدَدِ طَريقًا إلى العِلمِ وجَبَ أن يَكونَ الخَبَرُ الذي حَصَلت هذه المَزيَّةُ له أقوى مِنَ الخَبَرِ الذي لم يَحصُلْ فيه ذلك.
ومِثالُه: تَرجيحُ العُلَماءِ حَديثَ بُسرةَ بنتِ صَفوانَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن مَسَّ ذَكَرَه فليَتَوضَّأْ)) [644] أخرجه أبو داود (181) واللَّفظُ له، والترمذي (83)، والنسائي (164). صَحَّحه الإمام أحمد في ((مسائل أحمد لأبي داود)) (309)، ويحيى بن معين كما في ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/288)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/152)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1116)، والدارقطني في ((السنن)) (1/350). ، على حَديثِ طَلقِ بنِ حَبيبٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما هو بَضْعَةٌ مِنكَ)) [645] أخرجه من طرق أحمد (16286)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/352)، والدارقطني (1/271)، ولفظُ أحمَدَ: عن قَيسِ بنِ طَلقٍ، عن أبيه، قال: سَألَ رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيَتَوضَّأُ أحَدُنا إذا مَسَّ ذَكَرَه؟ قال: إنَّما هو بَضعةٌ مِنكَ، أو جَسَدِكَ. حَسَّنه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (16286). ورُوِيَ بلَفظِ: عن قَيسِ بنِ طَلقٍ، قال: حَدَّثَني أبي أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا نَبيَّ اللهِ، أيَتَوضَّأُ أحَدُنا إذا مَسَّ ذَكَرَه؟ قال: هَل هو إلَّا بَضعةٌ مِنكَ -أو مِن جَسَدِكَ-؟ أخرجه أحمَد (../23)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/352) واللفظ لهما، والدارقطني (1/273). صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (1/238)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/306)، والصنعاني في ((العدة على الإحكام)) (1/199): صحيحٌ أو حَسَنٌ. ورويَ بلَفظِ: عن قَيسِ بنِ طَلقِ بنِ عَليٍّ عن أبيه، قال: خَرَجنا وفدًا حتَّى قدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايَعناه وصَلَّينا مَعَه، فلَمَّا قَضى الصَّلاةَ جاءَ رَجُلٌ كَأنَّه بَدَويٌّ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما تَرى في رَجُلٍ مَسَّ ذَكَرَه في الصَّلاةِ؟ قال: وهَل هو إلَّا مُضغةٌ مِنكَ أو بَضعةٌ مِنكَ؟ أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) واللَّفظُ له. صَحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/76)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1120)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (1/131)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (165)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((تعليقة على العلل)) (83): حَسَنٌ أو صحيحٌ. ، فاختَلَفت طُرُقُ العُلَماءِ في دَفعِ التَّعارُضِ بَينَهما، ورَجَّحَ بَعضُهم حَديثَ بُسرةَ؛ لكَونِه أكثَرَ رُواةً [646] قال الحازِمي: (مِمَّا يُرَجَّحُ به أحَدُ الحَديثَينِ على الآخَرِ: كَثرةُ العَدَدِ في أحَدِ الجانِبَينِ، وهيَ مُؤَثِّرةٌ في بابِ الرِّوايةِ؛ لأنَّها تُقَرِّبُ مِمَّا يوجِبُ العِلمَ، وهو التَّواتُرُ، نَحوُ: استِدلالِ مَن ذَهَبَ إلى إيجابِ الوُضوءِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ بالأحاديثِ الوارِدةِ في البابِ؛ نَظَرًا إلى كَثرةِ العَدَدِ؛ لأنَّ حَديثَ الإيجابِ رَواه نَفرٌ مِنَ الصَّحابةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نَحوُ: عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، وأبي هرَيرةَ، وعائِشةَ، وأمِّ حَبيبةَ، وبُسرةَ، رَضِيَ اللهُ عنهم. وأمَّا حَديثُ الرُّخصةِ فلا يُحفَظُ مِن طَريقٍ يوازي هذه الطُّرُقَ أو يُقارِبُها، إلَّا من حديثِ طَلقِ بنِ عَليٍّ اليماميِّ، وهو حَديثٌ فردٌ في البابِ، ولَو سُلِّمَ أنَّ حَديثَ طَلقٍ يوازي تلك الأحاديثَ في الثُّبوتِ كان حَديثُ الجَماعةِ أَولى أن يَكونَ مَحفوظًا من حديثِ رَجُلٍ واحِدٍ). ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) (ص: 9). ويُنظر أيضًا: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 629،628). .
وقيلَ: لا يُرَجَّحُ بكَثرةِ الرُّواةِ، ومِمَّنِ اختارَ ذلك أبو حَنيفةَ، وأبو يوسُفَ، ورَجَّحَه السَّرَخسيُّ، وذلك فيما لم يَبلُغْ حَدَّ الشُّهرةِ أوِ التَّواتُرِ، فإن بَلَغَتِ الكَثرةُ حَدَّ التَّواتُرِ أوِ الشُّهرةِ فإنَّهم يوافِقونَ الجُمهورَ في التَّرجيحِ بها [647] قال السَّرَخسيُّ: (وهذا تَرجيحٌ بكَثرةِ القائِلينَ صارَ إلَيه مُحَمَّدٌ. وأبى ذلك أبو حَنيفةَ وأبو يوسُفَ، والصَّحيحُ ما قالا؛ فإنَّ كَثرةَ العَدَدِ لا يَكونُ دَليلَ قوَّةِ الحُجَّةِ). ((أصول السرخسي)) (2/24). قال ابنُ عبدِ الشَّكورِ: (لا تَرجيحَ بكَثرةِ الأدِلَّةِ والرُّواةِ ما لم تَبلُغِ الشُّهرةَ عِندَ أبي حَنيفةَ وأبي يوسُفَ، خِلافًا للأكثَرِ). ((مُسلِم الثُّبوت)) (2/165). .
سابِعًا: أن يَكونَ أحَدُ الرَّاويَينِ مُتَّفَقًا على عَدالَتِه والآخَرُ مُختَلَفًا فيه
إذا كان أحَدُ الرَّاويَينِ مُتَّفَقًا على عَدالَتِه والآخَرُ مُختَلَفًا فيه، فالمَصيرُ إلى المُتَّفَقِ عليه أَولى. والعِلَّةُ في ذلك ظاهرةٌ؛ حَيثُ إنَّ المُتَّفَقَ عليه مُقدَّمٌ على المُختَلَفِ فيه في كُلِّ شَيءٍ.
مِثالُه: حَديثُ بُسرَةَ بنتِ صَفوانَ في مَسِّ الذَّكَرِ [648] عن بُسرةَ بنتِ صَفوانَ، أنَّها سَمِعَتْ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن مَسَّ ذَكَرَه فليَتَوضَّأْ)). أخرجه أبو داود (181) واللَّفظُ له، والترمذي (83)، والنسائي (164). صَحَّحه الإمامُ أحمَد في ((مسائل أحمد لأبي داود)) (309)، ويحيى بن مَعين كما في ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/288)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/152)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1116)، والدارقطني في ((السنن)) (1/350). مَعَ ما يُعارِضُه من حديثِ طَلقٍ [649] عن قَيسِ بنِ طَلقٍ، قال: حَدَّثَني أبي أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا نَبيَّ اللهِ، أيَتَوضَّأُ أحَدُنا إذا مَسَّ ذَكَرَه؟ قال: هَل هو إلَّا بَضعةٌ مِنكَ -أو مِن جَسَدِكَ-؟ أخرجه أحمد (../23)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/352) واللفظ لهما، والدارقطني (1/273). صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (1/238)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/306)، والصنعاني في ((العدة على الإحكام)) (1/199): صحيحٌ أو حَسَنٌ. وعن قَيسِ بنِ طَلقِ بنِ عَليٍّ عن أبيه، قال: خَرَجنا وفدًا حتَّى قَدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايَعناه وصَلَّينا مَعَه، فلَمَّا قَضى الصَّلاةَ جاءَ رَجُلٌ كَأنَّه بَدَويٌّ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما تَرى في رَجُلٍ مَسَّ ذَكَرَه في الصَّلاةِ؟ قال: وهَل هو إلَّا مُضغةٌ مِنكَ أو بَضعةٌ مِنكَ. أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) واللَّفظُ له. صَحَّحه الطَّحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/76)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1120)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (1/131)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (165)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((تعليقة على العلل)) (83): حَسَنٌ أو صحيحٌ. ، فحَديثُ بُسرةَ رَواه مالِكٌ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بَكرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمرِو بنِ حَزمٍ، عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، وليس فيهم إلَّا مَن هو عَدلٌ صَدوقٌ مُتَّفَقٌ على عَدالَتِه، وأمَّا رواةُ حَديثِ طَلقٍ، وهم أيُّوبُ بنُ عُتبةَ اليماميُّ القاضي [650] يُنظر: ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (1/408). ، وقَيسُ بنُ طَلقٍ [651] يُنظر: ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (8/398). ، فقدِ اختُلِف في عَدالَتِهم، فالمَصيرُ إلى حَديثِ بُسرةَ أَولى [652] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 10)، ((شرح التبصرة والتذكرة)) للعراقي (2/110)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/433)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/ 2443). .
ثامِنًا: أن يَكونَ أحَدُ الحَديثَينِ مِمَّا اختَلَفتِ الرِّوايةُ فيه ولم تَختَلِفْ في الثَّاني
إذا كان أحَدُ الحَديثَينِ قدِ اختَلَفتِ الرِّوايةُ فيه ولم تَختَلِفْ في الثَّاني، فيُقدَّمُ الحَديثُ الذي لم تَختَلِفِ الرِّوايةُ فيه؛ لأنَّ ذلك دَليلٌ على حِفظِ الرِّوايةِ، وشِدَّةِ اهتِمامِهم بضَبطِها، فكان أَولى [653] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1031)، ((الإشارة)) للباجي (ص: 334)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 84)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/444)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 633). .
ومِثالُه: ما رَواه أنَسُ بنُ مالِكٍ في بابِ الزَّكاةِ في صَدَقةِ الإبِلِ [654] أخرجه البخاري (1454). إذا زادَت على عِشرينَ ومِائةٍ، ففي كُلِّ أربَعينَ ابنةُ لَبونٍ [655] بنتُ اللَّبونِ هيَ: التي تَمَّت لها سَنَتانِ ودَخَلَت في الثَّالِثةِ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ أمَّها قد وضَعَت حَملَها ولَها لَبَنٌ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/433). ، وفي كُلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ [656] الحِقَّةُ هيَ: التي لها ثَلاثُ سِنينَ ودَخَلَت في الرَّابِعةِ؛ لأنَّها قدِ استَحَقَّت أن يَطرُقَها الفَحلُ؛ ولِهذا قال: طَروقةُ الفَحلِ. واستَحَقَّت أن يُحمَلَ عليها وتُركَبَ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/433). ، وهو حَديثٌ صحيحٌ رَواه ثُمامةُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ أنَسٍ، ورَواه عن ثُمامةَ ابنُه عَبدُ اللَّهِ وحَمَّادُ بنُ سَلَمةَ، ورَواه عنهما جَماعةٌ، وكُلُّهم قدِ اتَّفَقوا على هذا الحُكمِ مِن غَيرِ اختِلافٍ بَينَهم.
ورَوى عاصِمُ بنُ ضَمرةَ، عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه في الإبِلِ إذا زادَت على عِشرينَ ومِائةٍ، قال: تُرَدُّ الفرائِضُ إلى أوَّلِها، فإذا كَثُرَتِ الإبِلُ ففي كُلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ [657] أخرجه الفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (3/179)، والبيهقي (7343) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البَيهَقيِّ: فإذا زادَت على عِشرينَ ومِائةٍ، قال: تُرَدُّ الفرائِضُ إلى أوَّلِها، فإذا كَثُرَتِ الإبِلُ ففي كُلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ. قال البيهقي في ((السنن الصغير)) (2/47). . كذا رَواه سُفيانُ عن أبي إسحاقَ عن عاصِمٍ عن عليٍّ، ورَواه شَريكٌ عن أبي إسحاقَ عن عاصِمٍ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: إذا زادَتِ الإبِلُ عن عِشرينَ ومِائةٍ ففي كُلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ، وفي كُلِّ أربَعينَ ابنةُ لَبونٍ [658] أخرجه الشَّافِعيُّ في ((الأم)) (8/419)، والبيهقي (7345) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن عليٍّ، قال: إذا زادَتِ الإبِلُ على عِشرينَ ومِائةٍ، ففي كُلِّ خَمسينَ حِقَّةٌ، وفي كُلِّ أربَعينَ بنتُ لَبونٍ. وأخرجه مِن طَريقِ معمرٍ عن أبى إسحاقَ السَّبيعيِّ عن عاصِمِ بنِ ضَمرةَ عن عليِّ بنِ أبى طالِبٍ: عبدُ الرَّزَّاقِ (6794)، وابن حزم في ((المحلى)) (6/38). ذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ حَزمٍ. . فهذه الرِّوايةُ موافِقةٌ لحَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ، والرِّوايةُ الأولى تُخالِفُه، وحَديثُ أنَسٍ لم تَختَلِفِ الرِّوايةُ فيه، وحَديثُ عليٍّ اختَلَفتِ الرِّوايةُ فيه، فالمَصيرُ إلى حَديثِ أنَسٍ أولى [659] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 14)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 634،633). .
تاسِعًا: أن يَكونَ أحَدُ الرَّاويَينِ لم يَضطَرِبْ لَفظُه، والآخَرُ قدِ اضطَرَبَ لَفظُه
إذا كان أحَدُ الرَّاويَينِ لم يَضطَرِبْ لَفظُه، والآخَرُ قدِ اضطَرَبَ لَفظُه، فيُرجَّحُ خَبَرُ مَن لم يَضطَرِبْ لَفظُه؛ لأنَّه يَدُلُّ على حِفظِه وضَبطِه [660] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 15)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/1029)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 84)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/406)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/352)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 308)، ((الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح)) (2/474)، .
ومِثالُه: حَديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَرفعُ يَدَيه حَذوَ مَنكِبَيه إذا افتَتَحَ الصَّلاةَ وإذا كَبَّرَ للرُّكوعِ، وإذا رَفعَ رَأسَه مِنَ الرُّكوعِ رَفعَهما كذلك أيضًا...)) [661] أخرجه البخاري (735) واللَّفظُ له، ومسلم (390). ، فهذا حَديثٌ ورَدَ عن ابنِ عُمَرَ مِن غَيرِ وَجهٍ، ومِمَّن رَواه الزُّهريُّ عن سالِمٍ، ولم يُختَلَفْ عليه فيه، ولا اضطِرابَ في مَتنِه، فكان أَولى بالمَصيرِ إليه من حديثِ البَراءِ بنِ عازِبٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ كان إذا افتَتَحَ الصَّلاة رَفعَ يَدَيه إلى قَريبٍ مِن أذُنَيه، ثُمَّ لا يَعودُ)) [662] أخرجه أبو داود (750) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/224)، والدارقطني (2/49). قال الإمام أحمد كما في ((الخلافيات)) للبيهقي (1713): لا يصح، وضعفه النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/354)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/480)، والألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)) (750)، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/160): معلول، وقال ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (2/451): واه مضطرب. ؛ لأنَّ في هذا الحَديثِ يَزيدَ بنَ أبي زيادٍ، وقدِ اضطَرَبَ فيه، قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: كان يَزيدُ يَروي هذا الحَديثَ ولا يَذكُرُ فيه: ثُمَّ لا يَعودُ، ثُمَّ دَخَلتُ الكوفةَ فرَأيتُ يَزيدَ بنَ أبي زيادٍ يَرويه، وقد زادَ فيه: ثُمَّ لا يَعودُ، وكان لُقِّنَ فتَلَقَّنَ [663] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 15)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/1031،1030). .
عاشِرًا: أن يَكونَ أحَدُ الحَديثَينِ مُتَّفَقًا على رَفعِه، والآخَرُ قدِ اختُلِف في رَفعِه ووَقفِه على الصَّحابيِّ
إذا كان أحَدُ الحَديثَينِ مُتَّفَقًا على رَفعِه، والآخَرُ قدِ اختُلِف في رَفعِه ووقفِه على الصَّحابيِّ، فيَجِبُ تَرجيحُ ما لم يُختَلَفْ فيه على ما اختُلِف فيه؛ لأنَّ المُتَّفَقَ على رَفعِه حُجَّةٌ مِن جَميعِ جِهاتِه، والمُختَلَفُ في رَفعِه على تَقديرِ الوَقفِ هَل يَكونُ حُجَّةً أم لا؟ فيه خِلافٌ، والأخذُ بالمُتَّفَقِ عليه أقرَبُ إلى الحيطةِ، لأنَّه أبعَدُ عنِ الخَطَأِ والسَّهوِ [664] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 15)، ((الإشارة)) للباجي (ص: 333)، ((الإحكام)) للآمدي (4/248)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/692)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/1592). .
مِثالُه: أنَّ عُبادةَ بنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه رَوى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا صَلاةَ لمَن لم يَقرَأْ بفاتِحةِ الكِتابِ)) [665] أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394). ، وهو مُدَوَّنٌ في الصِّحاحِ مُتَّفَقٌ على رَفعِه دالٌّ على أنَّ المَأمومَ يَقرَأُ خَلفَ الإمامِ، فإنِ احتَجَّ المُعارِضُ لذلك بما رَوى يَحيى بنُ سَلامٍ، قال: ثنا مالِكُ بنُ أنَسٍ ثنا وهبُ بنُ كَيسانَ عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كُلُّ صَلاةٍ لا يُقرَأُ فيها بأمِّ الكِتابِ فهيَ خِداجٌ إلَّا أن يَكونَ وراءَ الإمامِ)) [666] أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1300) باختلاف يسير، والدارقطني (2/114)، والبيهقي في ((الخلافيات)) (1834) واللفظ لهما. قال الألباني في ((إرواء الغليل)) (2/273): لا يَصِحُّ، وقال ابنُ عبد البر في ((الاستذكار)) (1/513): لا يصِحُّ إلَّا مَوقوفًا على جابِرٍ. وصَحَّ مَوقوفًا عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أخرجه الترمذي (313)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1301)، والبيهقي (2938)، ولفظُ الترمذيِّ: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ يَقولُ: مَن صَلَّى رَكعةً لم يَقرَأْ فيها بأمِّ القُرآنِ، فلم يُصَلِّ، إلَّا أن يَكونَ وراءَ الإمامِ. صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (313)، وقال البَيهَقيُّ: مَحفوظٌ، وهو الصَّحيحُ غَيرَ مَرفوعٍ، وقد رَفعَه بَعضُ الضُّعَفاءِ مِمَّا لا يَحِلُّ رِوايُتَه على طَريقِ الِاحتِجاجِ به، وقال ابنُ عبدِ البر في ((التمهيد)) (11/48): الصَّحيحُ أنَّه مِن قَولِ جابِرٍ. ؛ فإنَّه لم يَرفَعْه عن مالِكٍ غَيرُ يَحيى بنِ سَلامٍ، وهو في الموطَّأِ مَوقوفٌ، وقد قيلَ: وَهِمَ يَحيى بنُ سَلامٍ عن مالِكٍ في رَفعِه، ولم يُتابَعْ عليه، ويَحيى كَثيرُ الوَهمِ [667] يُنظر: ((الكامل في ضعفاء الرجال)) لابن عدي (9/125)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/2787)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/181). .
أحَدَ عَشَرَ: أن يَكونَ أحَدُ الحَديثَينِ مُسنَدًا، والآخَرُ مُرسَلًا أو مُختَلَفًا في وَصلِه وإرسالِه
إذا كان أحَدُ الحَديثَينِ مُسنَدًا والآخَرُ مُرسَلًا، فالمُسنَدُ أَولى، وكذلك إذا كان أحَدُ الحَديثَينِ مُتَّفَقًا على اتِّصالِه، والآخَرُ يوصِلُه بَعضُهم ويُرسِلُه آخَرونَ؛ فالأخذُ بالمُسنَدِ المُتَّفَقِ على اتِّصالِه أولى مِنَ الأخذِ بالمُختَلَفِ في إرسالِه واتِّصالِه؛ فأكثَرُ النَّاسِ على تَركِ الِاحتِجاجِ بالمُرسَلِ، والمُتَّصِلُ مُتَّفَقٌ عليه فلا يُقاوِمُه، ولأنَّ المُسنَدَ عَدالةُ راويه مَعلومةٌ مِن جِهةِ الظَّاهرِ لمَعرِفتِنا به، والمُرسَلُ عَدالةُ الرَّاوي مُستَدَلٌّ عليها مِن جِهةِ أنَّه لا يَروي إلَّا عن عَدلٍ عِندَه، فكان المَعلومُ أَولى مِنَ المُستَدَلِّ عليه، ولأنَّ الِاتِّفاقَ على الشَّيءِ يوجِبُ له قوَّةً، ويَدُلُّ على ثُبوتِه وتمكُّنِه في بابِه، والِاختِلافُ فيه يوجِبُ له ضَعفًا، ويَدُلُّ على تَزَلزُلِه في بابِه ما لم يَقُمِ البُرهانُ القاطِعُ على ثُبوتِه، فيَكونُ المُختَلَفُ فيه حينَئِذٍ أضعَفَ مِنَ المُتَّفَقِ عليه، ومِمَّنِ اختارَه: أبو يَعلى [668] يُنظر: ((العدة)) (3/1032). ، وابنُ عَقيلٍ [669] يُنظر: ((الواضح)) (5/86). ، والآمِديُّ [670] يُنظر: ((الإحكام)) (4/245). ، وآخَرونَ [671] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/180)، ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) للحازمي (ص: 15)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/408)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 486)، ((المحصول)) للرازي (5/422)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3692)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/692). .
ومِثالُه: عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافرٍ، ولا ذو عَهدٍ في عَهدِه)) [672] أخرجه أبو داود (4530) واللفظ له، والنسائي (4734)، وأحمد (993) صَحَّحه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (9/159)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4530)، وصحَّح إسنادَه محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/460)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/212)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (993). وقَولُه: ((لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافِرٍ)). أخرجه البخاري (111) بلَفظ: ((... ولا يُقتَلُ مُسلِمٌ بكافِرٍ)). ، فهذا حَديثٌ مُسنَدٌ عارَضَه حَديثٌ مُرسَلٌ، وهو ما رُويَ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ البَيلَمانيِّ: ((أنَّ رَجُلًا من المسلِمين قتَلَ رجلًا من أهلِ الكتابِ، فرُفِع إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أنا أحَقُّ مَن وفى بذِمَّتِه، ثُمَّ أمَرَ به فقُتِلَ [673] أخرجه ابن أبي شيبة (28031)، والدارقطني (4/157)، والبيهقي (16017) واللفظ له. قال الإمام الشافعي في ((الأم)) (9/128)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (13/55): مُنقَطِعٌ، وقال الإمامُ أحمَد كما في ((شرح الزركشي على الخرقي)) (6/65): ليس له إسنادٌ، وقال البَيهَقيُّ: مُنقَطِعٌ، وراويه غَيرُ ثِقةٍ. ). فرَجَّحَ أكثَرُ أهلِ العِلمِ الخَبَرَ المسنَدَ على المرسَلِ، وقالوا: لا يُقتَلُ مُسلِمٌ بكافِرٍ؛ لأنَّ حَديثَ عليٍّ مُسنَدٌ صحيحٌ، وحَديثَ ابنِ البَيلَمانيِّ مُرسَلٌ لا حُجَّةَ فيه [674] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/467)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/262). .
ومِثالُه أيضًا: ما جاءَ عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ به، فإذا صَلَّى قائِمًا فصَلُّوا قيامًا... وإذا صَلَّى جالِسًا فصَلُّوا جُلوسًا أجمَعونَ)) [675] أخرجه البخاري (689) واللَّفظُ له، ومسلم (411). . وهو حَديثٌ مُسنَدٌ يُعارِضُه حَديثٌ مُرسَلٌ رُوِيَ عن عامِرٍ الشَّعبيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَؤُمَّنَّ النَّاسَ أحَدٌ بَعدي جالِسًا)) [676] أخرجه من طرق مالك في ((الموطأ - رواية محمد بن الحسن الشيباني)) (158) واللفظ له، وعبد الرزاق (4088)، والبيهقي (5141). ضعفه جدًا العراقي في ((طرح التثريب)) (2/340)، وضعفه الصنعاني في ((العدة على الإحكام)) (2/135)، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (6/143)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (27/295): لا يصِحُّ، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/387): لم يَصِحَّ. . والرَّاجِحُ هو حَديثُ أنَسٍ؛ لأنَّ حَديثَ الشَّعبيِّ مُرسَلٌ [677] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/62). . قال الدَّارَقُطنيُّ: (والحَديثُ مُرسَلٌ لا تَقومُ به حُجَّةٌ) [678] ((سنن الدارقطني)) (2/ 253). .
وقيلَ: يُقدَّمُ المُرسَلُ، ومِمَّنِ اختارَه الجُرجانيُّ، وعيسى بنُ أبانَ [679] يُنظر: ((الواضح في أصول الفقه)) لابن عقيل (5/ 86)، ((المحصول)) للرازي (5/ 422). .
وقيلَ: يَستَويانِ، ومِمَّنِ اختارَه القاضي عبدُ الجبَّارِ [680] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/ 422). .

انظر أيضا: