موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: شُروطُ تَحَقُّقِ الاختِلافِ


يُشتَرَطُ في تَحَقُّقِ الخِلافِ عِدَّةُ شُروطٍ هيَ [226] يُنظَر: ((الأساس)) لمحمود عبد الرحمن (2/ 82 - 92). ويُنظَر أيضًا: ((الاحتجاج بالخلاف حقيقته وحكمه)) لاسامة الشيبان (ص: 29- 31). :
1- أن يَكونَ صادِرًا مِمَّن يُعتَبَرُ خِلافُه، أي: مِن مُجتَهِدٍ في العِلمِ الذي تُنسَبُ إليه تلك المَسألةُ، فلا يُعتَدُّ بخِلافِ مَن ليسَ كذلك، كالشِّيعةِ، والخَوارِجِ [227] يُنظَر: ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 12-15). .
وذلك مِثلُ ما قاله النَّوَويُّ في شَرحِه لحَديثِ حامِلِ المِسكِ [228] لَفظُه: عن أبي موسى، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالِحِ والجَليسِ السُّوءِ كحامِلِ المِسكِ، ونافِخِ الكيرِ؛ فحامِلُ المِسكِ إمَّا أن يُحذيَك، وإمَّا أن تَبتاعَ منه، وإمَّا أن تَجِدَ منه ريحًا طَيِّبةً، ونافِخُ الكيرِ إمَّا أن يُحرِقَ ثيابَك، وإمَّا أن تَجِدَ ريحًا خَبيثةً)). أخرجه البخاري (5534)، ومسلم (2628) واللَّفظُ له. : (وفيه طَهارةُ المِسكِ واستِحبابُه وجَوازُ بَيعِه، وقد أجمَعَ العُلَماءُ على جَميعِ هذا، ولم يُخالِفْ فيه مَن يُعتَدُّ به. ونُقِلَ عنِ الشِّيعةِ نَجاستُه، والشِّيعةُ لا يُعتَدُّ بهم في الإجماعِ) [229] ((شرح مسلم)) (16/ 178). .
2- أن لا يَكونَ مَسبوقًا بإجماعٍ في تلك المَسألةِ، فلو سُبِقَ بإجماعٍ فيها يَكونُ الخِلافُ المَحكيُّ خارِقًا للإجماعِ.
ومِثلُ ذلك ما ذَكَرَه الخَطَّابيُّ، فقال: (قد أجمَع أهلُ العِلمِ على أنَّ الوِترَ ليسَ بفريضةٍ، إلَّا أنَّه يُقالُ: إنَّ في رِوايةِ الحَسَنِ بنِ زيادٍ، عن أبي حَنيفةَ، أنَّه قال: هو فريضةٌ، وأصحابُه لا يَقولونَ بذلك، فإن صَحَّت هذه الرِّوايةُ فإنَّه مَسبوقٌ بالإجماعِ فيه) [230] ((معالم السنن)) (1/ 286). .
3- ألَّا يَكونَ قد حَدَثَ إجماعٌ بَعدَ الخِلافِ؛ لأنَّ ذلك يَرفعُ الخِلافَ، سَواءٌ كان الخِلافُ مُستَقِرًّا، أو في مُهلةِ النَّظَرِ، ويَكونُ الإجماعُ كاشِفًا عنِ القَطعِ بصِحَّةِ أحَدِ الأقوالِ، وخَطَأِ ما عَداه.
ومِن أمثِلةِ ذلك: حُكمُ الوُضوءِ مِن أكلِ ما مَسَّته النَّارُ، فقال النَّوويُّ بَعدَ ذِكرِ الخِلافِ في المَسألةِ: (هذا الخِلافُ الذي حَكَيناه كان في الصَّدرِ الأوَّلِ، ثُمَّ أجمَعَ العُلَماءُ بَعدَ ذلك على أنَّه يجِبُ الوُضوءُ بأكلِ ما مَسَّته النَّارُ. واللهُ أعلَمُ) [231] ((شرح مسلم)) (4/ 43). .
4- أن لا يَثبُتَ رُجوعُ القائِلِ عن قَولِه، فإن ثَبَتَ رُجوعُه فلا يُحكى عنه إلَّا مَقرونًا بحِكايةِ الرُّجوعِ، وبَيانِ أنَّه قَولٌ هَجَره القائِلُ، وانتَقَلَ إلى غَيرِه.
ومِن ذلك أنَّ رِبَا الفَضلِ كان جائِزًا عِند عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، تَمَسُّكًا بعُمومِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا رِبا إلَّا في النَّسيئةِ)) [232] أخرجه البخاري (2179)، ومسلم (1596) من حديثِ أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، فلَمَّا لَقِيَه أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضِيَ اللهُ عنه، وأخبَرَه عن حُرمَتِه، رَجَعَ عنه [233] يُنظَر: ((فيض الباري)) للكشميري (3/ 463). .
فعن عَمرِو بنِ دينارٍ أنَّ أبا صالِحٍ الزَّيَّاتَ أخبَرَه أنَّه سَمِعَ أبا سَعيدٍ الخُدريَّ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: (الدِّينارُ بالدِّينارِ، والدِّرهَمُ بالدِّرهَمِ). فقُلتُ له: فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ لا يَقولُه. فقال أبو سَعيدٍ: سَألتُه فقُلتُ: سَمِعتَه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو وجَدتَه في كِتابِ اللهِ؟ قال: كُلُّ ذلك لا أقولُ، وأنتُم أعلَمُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنِّي، ولَكِنِّي أخبَرَني أسامةُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا رِبا إلَّا في النَّسيئةِ)) [234] أخرجه البخاري (2178، 2179)، ومسلم (1596) من حديثِ أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
5- ألَّا يَكونَ الخِلافُ المَحكيُّ خِلافَ اختيارٍ كصِيَغِ دُعاءِ الاستِفتاحِ وألفاظِ التَّشَهُّدِ في الصَّلاةِ.
6- أن لا يَنسَحِبَ الخِلافُ على أكثَرَ مِمَّا حُكيَ فيه، كالخِلافِ في خِتانِ الإناثِ؛ فإنَّه ليسَ في أصلِ المَشروعيَّةِ، بَل في دَرَجَتِها.

انظر أيضا: