موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: الجَهلُ بالدَّليلِ


فالمُجتَهِدُ قد يَجهَلُ دَليلَ المَسألةِ، فلا يَصِلُ إليه النَّصُّ، وفي الوقتِ نَفسِه يَكونُ قد وصَلَ إلى غَيرِه مِنَ المُجتَهِدينَ.
قال ابنُ جُزَيٍّ: (وأكثَرُ ما يَجيءُ في الأخبارِ؛ لأنَّ بَعضَ المُجتَهِدينَ يَبلُغُه الحَديثُ فيَقضي به، وبَعضُهم لا يَبلُغُه فيَقضي بخِلافِه؛ فيَنبَغي للمُجتَهِدِ أن يُكثِرَ مِن حِفظِ الحَديثِ ورِوايَتِه لتَكونَ أقوالُه على مُقتَضى الأحاديثِ النَّبَويَّةِ) [296] ((تقريب الوصول)) (ص: 202). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن لم يَبلُغْه الحَديثُ لم يُكَلَّفْ أن يَكونَ عالِمًا بموجِبِه، وإذا لم يَكُنْ قد بَلَغَه وقد قال في تلك القَضيَّةِ بموجِبِ ظاهرِ آيةٍ أو حَديثٍ آخَرَ، أو بموجِبِ قياسٍ، أو موجِبِ استِصحابٍ؛ فقد يوافِقُ ذلك الحَديثَ تارةً ويُخالِفُه أخرى. وهذا السَّبَبُ هو الغالِبُ على أكثَرِ ما يوجَدُ مِن أقوالِ السَّلَفِ مُخالِفًا لبَعضِ الأحاديثِ؛ فإنَّ الإحاطةَ بحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم تَكُنْ لأحَدٍ مِنَ الأمَّةِ. وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحَدِّثُ أو يُفتي أو يَقضي أو يَفعَلُ الشَّيءَ، فيَسمَعُه أو يَراه مَن يَكونُ حاضِرًا، ويُبَلِّغُه أولئك أو بَعضُهم لمَن يُبَلِّغونَه، فيَنتَهي عِلمُ ذلك إلى مَن يَشاءُ اللهُ مِنَ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعدَهم، ثُمَّ في مَجلِسٍ آخَرَ قد يُحَدِّثُ أو يُفتي أو يَقضي أو يَفعَلُ شَيئًا، ويَشهَدُه بَعضُ مَن كان غائِبًا عن ذلك المَجلِسِ ويُبَلِّغونَه لمَن أمكَنَهم، فيَكونُ عِندَ هؤلاء مِنَ العِلمِ ما ليسَ عِندَ هؤلاء، وعِندَ هؤلاء ما ليسَ عِندَ هؤلاء، وإنَّما يَتَفاضَلُ العُلَماءُ مِنَ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم بكَثرةِ العِلم أو جَودَتِه. وأمَّا إحاطةُ واحِدٍ بجَميعِ حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهذا لا يُمكِنُ ادِّعاؤُه قَطُّ، واعتُبِر ذلك بالخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ الذينَ هم أعلَمُ الأمَّةِ بأمورِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسُنَّتِه وأحوالِه، خُصوصًا الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه، الذي لم يَكُنْ يُفارِقُه حَضَرًا ولا سَفَرًا، بَل كان يَكونُ مَعَه في غالِبِ الأوقاتِ حتَّى إنَّه يَسمُرُ عِندَه باللَّيلِ في أمورِ المُسلِمينَ، وكذلك عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَثيرًا ما يَقولُ: دَخَلتُ أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ، وخَرَجتُ أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ [297] عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: (وُضِعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عَلى سَريرِه، فتَكنَّفَهُ النَّاسُ يَدعونَ ويُثنونَ ويُصَلُّونَ عليه قَبلَ أن يُرفَعَ، وأنا فيهِم. قال: فلَم يَرُعْني إلَّا برَجُلٍ قَد أخَذَ بمَنْكِبي من وَرائي، فالتَفَتُّ إليه فإذا هو عَليٌّ، فتَرحَّمَ عَلى عُمَرَ وقال: ما خَلَّفْتُ أحَدًا أحَبَّ إلَيَّ أن ألقى اللهَ بمِثلِ عَمَلِه مِنكَ! وايمُ اللهِ إن كُنتُ لأظُنُّ أن يَجعَلَكَ اللهُ مَعَ صاحِبَيكَ، وذاكَ أنِّي كُنتُ أُكَثِّرُ أسمَعُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: جِئتُ أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ، ودَخَلتُ أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ). أخرجه البخاري (3685)، ومسلم (2389) واللَّفظُ له. [298] ((مجموع الفتاوى)) (20/ 233- 234). .
مِثالُه: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كُنَّا في مَجلسٍ عِندَ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، فأتى أبو موسى الأشعَريُّ مُغضَبًا حتَّى وقَف، فقال: أنشُدُكُمُ اللَّهَ هَل سَمِعَ أحَدٌ مِنكُم رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «الاستِئذانُ ثَلاثٌ؛ فإن أُذِن لك، وإلَّا فارجِعْ؟» قال أُبَيٌّ: وما ذاكَ؟ قال: استَأذَنتُ على عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أمسِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فلم يُؤذَنْ لي، فرَجَعتُ، ثُمَّ جِئتُه اليَومَ فدَخَلتُ عليه، فأخبَرتُه أنِّي جِئتُ أمسِ فسَلَّمتُ ثَلاثًا، ثُمَّ انصَرَفتُ. قال: قد سَمِعناك ونَحنُ حينَئِذٍ على شُغلٍ، فلو ما استَأذَنتَ حتَّى يُؤذَنَ لك! قال: استَأذَنتُ كَما سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فواللهِ لأوجِعَنَّ ظَهرَك وبَطنَك، أو لتَأتيَنَّ بمَن يَشهَدُ لك على هذا. فقال أُبَيُّ بنُ كَعبٍ: فواللهِ لا يَقومُ مَعَك إلَّا أحدَثُنا سِنًّا. قُم يا أبا سَعيدٍ! فقُمتُ حتَّى أتَيتُ عُمَرَ فقُلتُ: قد سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ هذا) [299] أخرجه البخاري (6245) بنحوه، ومسلم (2153) واللفظ له. .

انظر أيضا: