موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: تَتبُّعُ رُخَصِ المَذاهِبِ


المُرادُ بتَتَبُّعِ الرُّخَصِ أن يَأخُذَ المُكَلَّفُ في مَسألةٍ ما بأخَفِّ الأقوالِ فيها، دونَ اعتِبارٍ للقَولِ الرَّاجِحِ [485] يُنظَر: ((التمذهب)) للرويتع (2/ 994). . وهذا خُلاصةُ ما عَبَّرَ عنه العُلَماءُ.
قال المَحَلِّيُّ: (أن يَأخُذَ المُكَلَّفُ مِن كُلٍّ مِنَ المَذاهبِ ما هو الأهونُ فيما يَقَعُ مِنَ المَسائِلِ) [486] ((شرح المحلي على جمع الجوامع)) (2/ 441). .
وقال المَرداويُّ: (كُلَّما وجَدَ رُخصةً في مَذهَبٍ عَمِلَ بها، ولا يَعمَلُ بغَيرِها في ذلك المَذهَبِ) [487] ((التحبير)) (8/ 4090). .
أمَّا حُكمُ تَتبُّعِ رُخَصِ المَذاهِبِ فالمُختارُ: أنَّه لا يَجوزُ تَتَبُّعُ رُخَصِ المَذاهِبِ. وهو الصَّحيحُ عِندَ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [488] يُنظَر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/ 371). ويُنظَر أيضًا: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/ 351). ، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ المالِكيَّةِ: ابنُ جُزَيٍّ [489] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) (ص: 197). ، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ: ابنُ الصَّلاحِ [490] يُنظَر: ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص: 111). ، والرَّمليُّ [491] يُنظَر: ((فتاوى الرملي)) (4/ 378). ، وتاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ [492] يُنظَر: ((جمع الجوامع)) بشرحه ((تشنيف المسامع)) للزركشي (4/ 620). ، ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنابِلةِ [493] يُنظَر: ((التحبير)) للمرداوي (8/ 4091)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/ 1563). : ابنُ تَيميَّةَ [494] يُنظَر: ((المسودة)) (ص: 518). ، وابنُ مُفلِحٍ [495] يُنظَر: ((أصول الفقه)) (4/ 1563). . وحُكيَ الإجماعُ على ذلك، ومِمَّن حَكاه ابنُ عبدِ البَرِّ [496] قال ابنُ عبدِ البَرِّ بَعدَ نَقلِه قَولَ سُلَيمانَ التَّيميِّ: (إن أخَذتَ برُخصةِ كُلِّ عالمٍ اجتَمَعَ فيك الشَّرُّ كُلُّه). قال: (هذا إجماعٌ لا أعلَمُ فيه خِلافًا. والحَمدُ لِلَّهِ). ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/927). ويُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 227)، ((الموافقات)) للشاطبي (5/ 135). ، وابنُ حَزمٍ [497] قال: (اتَّفَقوا على أنَّه لا يَحِلُّ لِمُفتٍ ولا لِقاضٍ أن يَحكُمَ بما يَشتَهي مِمَّا ذَكَرنا في قِصَّةٍ، وبما اشتَهى مِمَّا يُخالِفُ ذلك الحُكمَ في أُخرى مِثلِها، وإن كان كِلا القَولَينِ مِمَّا قال به جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ ما لَم يَكُنْ ذلك لِرُجوعٍ عن خَطَأٍ لاحَ لَه إلى صَوابٍ بانَ له). ((مراتب الإجماع)) (ص: 51). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالرَّدِّ إليه وإلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال اللهُ تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59] ، وتَتَبُّع الإنسانِ للرُّخَصِ مُضادٌّ للرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى وإلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [498] يُنظَر: ((التمذهب)) للرويتع (2/ 1012). .
2- أنَّ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ مُؤَدٍّ إلى إسقاطِ التَّكليفِ في كُلِّ مَسألةٍ مُختَلَفٍ فيها؛ لأنَّ حاصِلَ الأمرِ مَعَ القَولِ بالتَّخييرِ أنَّ للمُكَلَّفِ أن يَفعَلَ إن شاءَ، ويَترُكَ إن شاءَ، وهو عَينُ إسقاطِ التَّكليفِ، بخِلافِ ما إذا تَقَيَّدَ بالتَّرجيحِ؛ فإنَّه مُتَّبِعٌ للدَّليلِ، فلا يَكونُ مُتَّبِعًا للهَوى ولا مُسقِطًا للتَّكليفِ [499] يُنظَر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/ 83). .
وقيلَ: تَتبُّعُ الرُّخَصِ جائِزٌ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [500] يُنظَر: ((تيسير التحرير)) لابن الهمام (4/ 254)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/ 351). ، ونُسِبَ إلى أبي إسحاقَ المَرْوَزيِّ [501] يُنظَر: ((جمع الجوامع)) بشرحه ((تشنيف المسامع)) (4/ 620). وفي نِسبَتِه إلى أبي إسحاقَ نَظَرٌ؛ قال الزَّركَشيُّ: (وكَلامُ المُصَنِّفِ يَقتَضي أنَّ أبا إسحاقَ يُجَوِّزُ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ، وهو مَمنوعٌ؛ فقد رَأيتُ في "فتاوى الحَناطي": مَن تَتبَّع الرُّخَصَ قال أبو إسحاقَ المَروَزيُّ: يَفسُقُ). ((تشنيف المسامع)) (4/ 621). ويُنظَر: ((حاشية العطار على جمع الجوامع)) (2/ 441). .
وجاءَ في " قَراراتِ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ [502] يُنظَر: ((قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي))، الدورات (2-24)، القرارات (1-238) (ص: 224). في دَورةِ مُؤتَمَرِه الثَّامِنِ المُنعَقِدِ مِن (1) إلى (7) مُحَرَّم (1414 هـ):
لا يَجوزُ الأخذُ برُخَصِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ لمُجَرَّدِ الهَوى؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى التَّحَلُّلِ مِنَ التَّكليفِ، وإنَّما يَجوزُ الأخذُ بالرُّخَصِ بالضَّوابِطِ التَّاليةِ:
1- أن تَكونَ أقوالُ الفُقَهاءِ التي يتَرَخَّصُ بها مُعتَبَرةً شَرعًا، ولم توصَفْ بأنَّها مِن شَواذِّ الأقوالِ.
2- أن تَقومَ الحاجةُ إلى الأخذِ بالرُّخصةِ دَفعًا للمَشَقَّةِ، سَواءٌ كانت حاجةً عامَّةً للمُجتَمَعِ أم خاصَّةً فرديَّةً.
3- أن يَكونَ الآخِذُ بالرُّخَصِ ذا قُدرةٍ على الاختيارِ أو أن يَعتَمِدَ على مَن هو أهلٌ لذلك.
4- ألَّا يَتَرَتَّبَ على الأخذِ بالرُّخَصِ الوُقوعُ في التَّلفيقِ المَمنوعِ.
5- ألَّا يَكونَ الأخذُ بذلك القَولِ ذَريعةً للوُصولِ إلى غَرَضٍ غَيرِ مَشروعٍ.
6- أن تَطمَئِنَّ نَفسُ المُتَرَخِّصِ للأخذِ بالرُّخصةِ.

انظر أيضا: