موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ السَّادِسُ: حُكمُ التِزامِ المُقَلِّدِ مَذهَبًا مُعَيَّنًا


لا يجِبُ على المُقَلِّدِ التِزامُ مَذهَبٍ مُعَيَّنٍ؛ فالمُقَلِّدُ لا مَذهَبَ له، بَل له أن يُقَلِّدَ أيَّ مُجتَهِدٍ شاءَ.
وقدِ اختارَ هذا المَذهَبَ مِنَ الحَنَفيَّةِ: ابنُ الهُمامِ [503] يُنظَر: ((التحرير في أصول الفقه)) (ص: 551- 552). ، واختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ: ابنُ برهان [504] يُنظَر: ((الوصول إلى الأصول)) (2/369- 370)، ويُنظَر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 374). ، والزَّركَشيُّ [505] يُنظَر: ((البحر المحيط)) (8/ 375). ، وهو ظاهرُ مَذهَبِ أحمَدَ [506] يُنظَر: ((العدة)) (4/ 1226). ، وعليه جُمهورُ الحَنابِلةِ [507] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 222). ، ومِنهمُ ابنُ النَّجَّارِ [508] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) (4/ 574). ، وعَزاه ابنُ تيميَّةَ إلى جَماهيرِ العُلَماءِ [509] قال: (جَماهيرُ العُلَماءِ لا يوجِبونَ على أحَدٍ أن يَلتَزِمَ قَولَ شَخصٍ بعَينِه غَيرَ الرَّسولِ في كُلِّ شَيءٍ؛ إذ في ذلك تَنزيلُ ذلك الشَّخصِ مَنزِلةَ الرَّسولِ، وليس لأحَدٍ أن يُنزِلَ أحَدًا مَنزِلةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فالرَّجُلُ إذا اتَّبَعَ قَولَ بَعضِ الأئِمَّةِ في مَسألةٍ، وقَولَ آخَرَ في مَسألةٍ أُخرى، إمَّا لظُهورِ دَليلِ ذلك له، وإمَّا لتَرجيحِ بَعضِ العُلَماءِ الذينَ يَسوغُ لَه تَقليدُهم قَولَ هذا في هذه، وقَولَ هذا في هذه، لَم يَكُنْ على فاعِلِ ذلك مَلامٌ، ولم يَكُنْ ذلك الذي التَزَمَ قَولَ واحِدٍ بعَينِه أحسَنَ حالًا منه، بَل هذا أحسَنُ حالًا مِن ذلك؛ لأنَّ الأئِمَّةَ الذينَ تُوُفُّوا -كأبي حَنيفةَ، ومالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأحمدَ، وغَيرِهم- لا يُمكِنُ كَثيرًا مِنَ العامَّةِ بَل ولا أكثَرَهم أن يَعرِفوا مَراتِبَهم في العِلمِ والدِّينِ، بَلِ الخاصَّةُ مِنَ العُلَماءِ الذينَ لا هَوى لهم قد يَتَعَذَّرُ عليهم كَثيرٌ مِن ذلك، فكيف لمَن يَتَّبِعُ الظَّنَّ وما تَهوى الأنفُسُ؟!). ((جامع المسائل)) (8/ 440). ومِن أهلِ العِلمِ مِن ذَكَر شُروطًا لجَوازِ ذلك، فقال ابنُ جُزيٍّ: (يَجوزُ تَقليدُ المَذاهِبِ في النَّوازِلِ، والانتِقالُ مِن مَذهَبٍ إلى مَذهَبٍ بثَلاثةِ شُروطٍ: أحَدُها: أن يَعتَقِدَ فيمَن يُقَلِّدُه العِلمَ والفَضلَ. الثَّاني: لا يَتَّبعُ رُخَصَ المَذاهِبِ. الثَّالِثُ: لا يَجمَعُ بَينَ المَذاهبِ على وجهٍ يُخالِفُ الإجماعَ، كمَن تَزَوَّجَ بغَيرِ صَداقٍ ولا وليٍّ ولا شُهودٍ، فإنَّ هذه الصُّورةَ لَم يَقُلْ بها أحَدٌ). ((تقريب الوصول)) (ص: 197). ويُنظَر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 432)، ((نفائس الأصول)) (9/ 3964). وقال النَّوويُّ: (الذي يَقتَضيه الدَّليلُ أنَّه لا يَلزَمُه التَّمَذهُبُ بمَذهَبٍ، بَل يَستَفتي مَن شاءَ، أو مَنِ اتَّفقَ، لَكِن مِن غَيرِ تَلقُّطٍ للرُّخَصِ). ((روضة الطالبين)) (11/ 117). .
وذلك لأنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم لم يُنكِروا على العامَّةِ تَقليدَ بَعضِهم في بَعضِ المسائِلِ، وكذلك الأئِمَّةُ لم يَأمُروا أصحابَهم بالتِزامِ مَذهَبٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ المَنقولُ عنهم تَقريرُهمُ النَّاسَ على العَمَلِ بفتوى بَعضِهم بعضًا [510] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 374)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/ 252). .
وقيلَ: يَجِبُ على المُقَلِّدِ التِزامُ مَذهَبٍ مُعَيَّنٍ، ووَجهُه أنَّه ما قَلَّدَه إلَّا لاعتِقادِه بأنَّه حَقٌّ، فوجَبَ أن يَعمَلَ بمُقتَضى اعتِقادِه. وهو مَذهَبُ بَعضِ المالِكيَّةِ، ومِنهم عُلَيشٌ [511] يُنظَر: ((فتح العلي المالك)) (1/ 60). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، ومِنهم أبو الحَسَنَ الكِيَا [512] يُنظَر: ((روضة الطالبين)) للنووي (11/ 117)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 374). ، ووَجهٌ عِندَ الحَنابِلةِ [513] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 222). ، واختارَه مِنهمُ ابنُ رَجَبٍ [514] يُنظَر: ((الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة)) -ضمن مجموع رسائله- (2/ 626). .
مَسألةٌ:
مَن عاصَرَ مُفتيًا أفتى بشَيءٍ، وصادَف فتواه مُخالَفةً لمَذهَبِ الإمامِ الذي تَقَلَّدَه، فهَل يَتَّبعُ المُفتيَ؛ لأنَّه لا يُخالِفُه إلَّا بَعدَ اعتِقادِ تَأويلِه، أوِ الإمامَ المُتَقدِّمَ؛ لظُهورِ كَلامِه؟
والاختيارُ اتِّباعُ مُفتي الزَّمانِ، ومِمَّنِ اختارَه الجُوَينيُّ [515] ((غياث الأمم)) (ص: 418- 419). . وقد عَمِلَ بذلك الشَّيخُ شِهابُ الدِّينِ أبو شامةَ [516] ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 354). حَيثُ قدَّمَ فتوى ابنِ عبدِ السَّلامِ في تَزويجِ الصَّغيرةِ على ظاهرِ نَصِّ الشَّافِعيِّ، وصَنَّف فيه تَصنيفًا. .
وذلك لأنَّ مُفتيَ الزَّمانِ بتَأخُّرِه سَبَر مَذهَبَ مَن كان قَبلَه، ونَظَرُه في التَّفاصيلِ أسَدُّ مِن نَظَرِ المُقَلِّدَ على الجُملةِ، ولأنَّ مُفتيَ الزَّمانِ الذي يوجَدُ لا يَعسُرُ تَقليدُه وتَطويقُه أحكامَ الوقائِعِ [517] ((غياث الأمم)) (ص: 418- 419). .

انظر أيضا: