موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: حُكمُ الإفتاءِ


يَدورُ حُكمُ الإفتاءِ بَينَ الوُجوبِ العَينيِّ والكِفائيِّ، والاستِحبابِ والكَراهةِ، والإباحةِ، بَل والحُرمةِ أحيانًا؛ نظرًا لاختِلافِ دَرَجةِ الحاجةِ إليها، وحالِ المُفتي، وغَيرِ ذلك، كما سيَأتي تَفصيلُه.
الحالةُ الأولى: كَونُ الإفتاءِ مِن فُروضِ الكِفاياتِ
وهذا هو الأصلُ فيه؛ أنَّه مِن فُروضِ الكِفاياتِ التي يَجِبُ أن يَقومَ به طائِفةٌ مِنَ المُسلِمينَ، وإلَّا أثِمَ الجَميعُ؛ لأنَّه لا بُدَّ للمُسلِمينَ مِمَّن يُبَيِّنُ لهم أحكامَ دينِهم، ويُفتيهم فيما يَعرِضُ لهم، ويَدُلُّهم على ما يَحِلُّ وما لا يَحِلُّ.
ومِمَّن نَصَّ على كَونِه مِن فُروضِ الكِفايةِ: الرَّافِعيُّ [531] يُنظَر: ((العزيز شرح الوجيز)) (12/ 419). ، والنَّوَويُّ [532] يُنظَر: ((المجموع)) (1/ 45). ، والمَحَلِّيُّ [533] يُنظَر: ((شرح المنهاج)) (4/ 215). ، والسُّيوطيُّ [534] يُنظَر: ((آداب الفتيا)) (ص: 68). .
الحالةُ الثَّانيةُ: كَونُ الإفتاءِ مِنَ الواجِباتِ العَينيَّةِ
يَتَعَيَّنُ الإفتاءُ على العالِمِ المسؤولِ إذا تَوافرَت شُروطٌ، وهيَ:
1- أن لا يوجَدَ في بَلَدِه غَيرُه مِمَّن يَتَمَكَّنُ مِنَ الجَوابِ؛ قال النَّوويُّ: (فإذا استُفتيَ وليس في النَّاحيةِ غَيرُه، تَعَيَّن عليه الجَوابُ) [535] ((المجموع)) (1/ 45). .
قال الرَّافِعيُّ: (ومَهما لم يَكُنْ في المَوضِعِ إلَّا واحِدٌ يَصلُحُ للفتوى، تَعَيَّنَ عليه أن يُفتيَ، وإن كان هناكَ غَيرُه فهو مِن فُروضِ الكِفاياتِ) [536] ((العزيز شرح الوجيز)) (12/ 419). .
2- أن يَكونَ عالِمًا بما سُئِلَ عنه، وإلَّا لم يَتَعَيَّنْ عليه الجَوابُ؛ لِما عليه مِنَ المَشَقَّةِ في تَحصيلِه.
3- ألَّا يَكونَ هناكَ مانِعٌ مِن تَعيُّنِ الجَوابِ عليه، كأن تَكونَ المَسألةُ اجتِهاديَّةً لا نَصَّ فيها للشَّارِعِ، أو عن أمرٍ لا مَنفَعةَ فيه للسَّائِلِ، أو غَيرِ ذلك.
قال الشَّاطِبيُّ: (فيَلزَمُ الجَوابُ إذا كان عالِمًا بما سُئِلَ عنه مُتَعَيِّنًا عليه في نازِلةٍ واقِعةٍ أو في أمرٍ فيه نَصٌّ شَرعيٌّ بالنِّسبةِ إلى المُتَعَلِّمِ لا مُطلَقًا، ويَكونُ السَّائِلُ مِمَّن يَحتَمِلُ عَقلُه الجَوابَ، ولا يُؤَدِّي السُّؤالُ إلى تَعَمُّقٍ ولا تَكَلُّفٍ، وهو مِمَّا يُبنى عليه عَمَلٌ شَرعيٌّ، وأشباهُ ذلك، وقد لا يَلزَمُ الجَوابُ في مَواضِعَ، كما إذا لم يَتَعَيَّنْ عليه، أوِ المَسألةُ اجتِهاديَّةٌ لا نَصَّ فيها للشَّارِعِ، وقد لا يَجوزُ، كما إذا لم يَحتَمِلْ عَقلُه الجَوابَ، أو كان فيه تَعَمُّقٌ، أو أكثَرَ مِنَ السُّؤالاتِ التي هيَ مِن جِنسِ الأغاليطِ، وفيه نَوعُ اعتِراضٍ) [537] ((الموافقات)) (5/ 373). .
وقال البُهوتيُّ: (ولِمُفتٍ رَدُّ الفُتيا إن خاف غائِلَتَها، أو كان بالبَلَدِ أهلٌ للفتَيا عالِمٌ قائِمٌ مَقامَه؛ لفِعلِ السَّلَفِ، ولِعَدَمِ تَعَيُّنِ الإفتاءِ إذَنْ، وإلَّا يَكُنْ بالبَلَدِ عالِمٌ يَقومُ مَقامَه لم يَجُزْ له رَدُّ الفُتيا؛ لتَعَيُّنِها عليه) [538] ((شرح المنتهى)) (3/ 484). .
الحالةُ الثَّالِثةُ: كَونُ الإفتاءِ مُحَرَّمًا
وذلك في حَقِّ مَن لم يَكُنْ عالِمًا بالحُكمِ [539] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) (5/ 14). ، فلا يَجوزُ له أن يُفتيَ والحالةُ هذه؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن كان جاهلًا به حَرُمَ عليه الإفتاءُ بلا عِلمٍ، فإن فَعَل فعليه إثمُه وإثمُ المُستَفتي) [540] ((إعلام الموقعين)) (5/ 3). .
 قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] .
الحالةُ الرَّابِعةُ: كَونُ الإفتاءِ مَكروهًا
قد يَكونُ الإفتاءُ مَكروهًا، وذلك إذا كان المُفتي في حالِ غَضَبٍ شَديدٍ، أو وجَعٍ مُفرِطٍ، أو هَمٍّ مُقلِقٍ، أو نُعاسٍ غالِبٍ، أو شَغلِ قَلبٍ مُستَولٍ عليه، أو حالِ مُدافَعةِ الأخبَثَينِ، فمَتى أحَسَّ مِن نَفسِه شَيئًا مِن ذلك يُخرِجُه عن حالِ اعتِدالِه وكَمالِ تَثبُّتِه وتَبَيُّنِه، أمسَكَ عنِ الفتوى [541] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/ 122)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 506). .
الحالةُ الخامِسةُ: كَونُ الإفتاءِ مُستحَبًّا
قد يَكونُ الإفتاءُ مُستَحَبًّا، وذلك كما لو كان المُفتي أهلًا للفُتيا، وكان في البَلَدِ غَيرُه. وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ [542] قال ابنُ النَّجَّارِ: (لِمُفتٍ رَدُّها -أي: رَدُّ الفُتيا- ومَحَلُّه إذا كان في البَلَدِ غَيرُه، أي: الرَّادِّ. وهو أهلٌ لَها، أي: للفُتيا، شَرعًا، وهذا الذي عليه جَماهيرُ العُلَماءِ؛ لأنَّ الفُتيا -والحالةُ هذه- في حَقِّه سُنَّةٌ). ((شرح الكوكب المنير)) (4/ 583). ، نَصَّ عليه مِنَ الحَنَفيَّةِ أميرُ بادشاه [543] يُنظَر: ((تيسير التحرير)) (4/ 242). ، ومِنَ الحَنابِلةِ ابنُ النَّجَّارِ [544] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) (4/ 583). ، والبَعليُّ [545] يُنظَر: ((الذخر الحرير)) (ص: 839). ، والمَرداويُّ [546] يُنظَر: ((التحبير)) للمرداوي (8/ 4100). .
وقيلَ: ليسَ له رَدُّها ولو كان في البَلَدِ غَيرُه؛ لأنَّه بالسُّؤالِ تَعَيَّنَ عليه الجَوابُ [547] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 583). . ومِمَّن قال بهذا الحَليميُّ [548] قال: (إذا كان في البَلَدِ عُلَماءُ فأيُّ واحِدٍ مِنهم جاءَه سائِلٌ فسَألَه عن عِلمٍ عِندَه ليَتَعَلَّمَه، فيَنبَغي له أن يُخبِرَه به ولا يَكتُمَه. ولا يَجوزُ له أن يَقولَ: سَلْ غَيري؛ فإنَّ عِندَه مِنَ العِلمِ مِثلَ ما عِندي). ((المنهاج)) (2/ 202). ويُنظَر أيضًا: ((التحبير)) للمرداوي (8/ 4100). .
الحالةُ السَّادِسةُ: كَونُ الإفتاءِ مُباحًا
قد يَكونُ الإفتاءُ مُباحًا أيضًا في غَيرِ حالاتِ الإفتاءِ الخَمسةِ السَّابِقةِ، فلِلمُفتي حينَها حُرِّيَّةُ الإجابةِ أوِ الإمساكِ عنِ الإفتاءِ [549] يُنظَر: ((الفتوى)) للدخيل (ص: 65)، ((الفتوى)) لمحمد يسري (ص: 207). .
هَلِ الفتوى مُلزِمةٌ؟
إذا استَفتى السَّائِلُ فأفتاه المُفتي، فهَل تَصيرُ فتواه موجِبةً على المُستَفتي العَمَلَ بها بحَيثُ يَكونُ عاصيًا إن لم يَعمَلْ بها، أو لا يَجِبُ عليه العَمَلُ؟
المُختارُ أنَّ الفتوى تَلزَمُه في الحالاتِ التَّاليةِ:
أحَدُها: أنَّه لا يَلزَمُه العَمَلُ بها إلَّا أن يَلتَزِمَه هو.
والثَّاني: أنَّه يَلزَمُه إذا شَرَعَ في العَمَلِ [550] قال ابنُ مُلَّا فرُّوخ في مَعنى لُزومِ المُستَفتي الفتوى بَعدَ العَمَلِ بها: كما (أنَّه إذا عَمِلَ مَرَّةً في مَسألةٍ بمَذهَبٍ في طَلاقٍ أو عتاقٍ أو غَيرِها، واعتَقدَه وأمضاه، ففارَقَ الزَّوجةَ مَثَلًا واجتَنَبها وعامَلَها مُعامَلةَ مَن حَرُمَت عليه، واعتَقدَ البَينونةَ بَينَه وبَينَها بما جَرى منه مِنَ اللَّفظِ مَثَلًا، فلَيسَ له أن يَرجِعَ عن ذلك ويُبطِلَ ما أمضاه ويَعودَ إليها بتَقليدٍ ثانيًا إمامًا غَيرَ الإمامِ الأوَّلِ؛ فهذا مَعنى قَولِهم: لَيسَ له التَّقليدُ بَعدَ العَمَلِ، ولا يَرجِعُ عَمَّا قَلَّدَ فيه وعَمِلَ به، ونَحوَ ذلك مِنَ العِباراتِ). ((القول السديد)) (ص: 123). قال الآمِديُّ: (إذا اتَّبَعَ العامِّيُّ بَعضَ المُجتَهِدينَ في حُكمِ حادِثةٍ مِنَ الحَوادِثِ، وعَمِلَ بقَولِه فيها، اتَّفقوا على أنَّه لَيسَ لَه الرُّجوعُ عنه في ذلك الحُكمِ بَعدَ ذلك إلى غَيرِه). ((الإحكام)) (4/ 238). وقال الزَّركَشيُّ: (ادَّعى الآمِديُّ وابنُ الحاجِبِ أنَّه لا يَجوزُ قَبلَ العَمَلِ ولا بَعدَه بالاتِّفاقِ. ولَيسَ كَما قالا؛ ففي كَلامِ غَيرِهما ما يَقتَضي جَرَيانَ الخِلافِ بَعدَ العَمَلِ أيضًا...). ((البحر المحيط)) (8/ 379- 380). ويُنظَر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/ 350). .
والثَّالِثُ: أنَّه إن وقَعَ في قَلبِه صِحَّةُ فتواه وأنَّها حقٌّ لزِمَه العَمَلُ بها.
والرَّابِعُ: أنَّه إذا لم يَجِدْ مُفتيًا آخَرَ لزِمَه الأخذُ بفُتياه؛ فإنَّ فرضَه التَّقليدُ وتَقوى اللهِ ما استَطاعَ، وهذا هو المُستَطاعُ في حَقِّه، وهو غايةُ ما يَقدِرُ عليه. وإن وَجَدَ مُفتيًا آخَرَ، فإن وافقَ الأوَّلَ فهذا آكَدُ في لُزومِ العَمَلِ بتلك الفتوى، وإن خالَفه فإنِ استَبانَ له الحَقُّ في إحدى الجِهَتَينِ لزِمَه العَمَلُ به، وإن لم يَستَبِنْ له الصَّوابُ ولم يَتَيَسَّرْ له الاستيثاقُ بمُفتٍ آخَرَ كان عليه أن يَعمَلَ بقَولِ المُفتي الذى تَطمَئِنُّ إليه نَفسُه في دينِه وعِلمِه [551] يُنظَر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني، (2/ 358)، ((أدب المفتي والمستفتي)) لابن الصلاح (ص: 166- 167)، ((صفة المفتي والمستفتي)) لابن حمدان (ص: 298)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/ 184). وصَدَرَ قَرارٌ مِن مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ الدَّوليِّ التَّابِعِ لمُنَظَّمةِ المُؤتَمَرِ الإسلاميِّ، وفيه: (الأصلُ في الفتوى أنَّها غَيرُ مُلزِمةٍ قَضاءً، إلَّا أنَّها مُلزِمةٌ ديانةً؛ فلا يَسَعُ المُسلِمَ مُخالَفتُها إذا قامَتِ الأدِلَّةُ الواضِحةُ على صِحَّتِها، ويَجِبُ على المُؤَسَّساتِ الماليَّةِ الإسلاميَّةِ التَّقَيُّدُ بفتاوى هَيئاتِها الشَّرعيَّةِ في إطارِ قَراراتِ المَجامِعِ الفِقهيَّةِ). قَرار رقم 153(2/17) - الدَّورة السَّابِعةَ عَشرةَ من 28 جُمادى الأولى إلى 2 جُمادى الآخِرة 1427هـ. يُنظَر: ((قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي)) (ص: 512). .

انظر أيضا: