موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأولى: إذا اختَلَفت عليه فَتوَيانِ


المُختارُ أنَّ عليه العَمَلَ بنَوعٍ مِنَ التَّرجيحِ؛ فإنَّه ليسَ مخيَّرًا بَينَ أقوالِهم يَأخُذُ بما شاءَ ويَترُكُ ما شاءَ، بَل مُطالَبٌ باجتِهادٍ يَليقُ بحالِه يوصِلُه إلى غَلَبةِ الظَّنِّ بصِحَّةِ الحُكمِ. وجَبَ عليه العَمَلُ بما يَغلِبُ على ظَنِّه أنَّه شَرعُ اللهِ، سَواءٌ غَلَبَ على ظَنِّه بواسِطةِ كَثرةِ المُفتينَ بأحَدِ الأقوالِ، أو بأفضَليَّةِ القائِلينَ به، أو بالأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ [676] يُنظَر: ((القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالمسلم غير المجتهد)) للشثري (ص: 26)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 487). .
وهو مَذهَبُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، واختارَه مِنهمُ ابنُ سُرَيجٍ، والقَفَّالُ [677] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 365). ، والجُوَينيُّ [678] يُنظَر: ((البرهان)) (2/ 177). ، والغَزاليُّ [679] يُنظَر: ((المستصفى)) (ص: 374). ، وأبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ [680] يُنظَر: ((قواطع الأدلة)) (2/ 363). . وبَعضِ الحَنابِلةِ، ومِنهمُ ابنُ عَقيلٍ، وذَكَره عن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ [681] يُنظَر: ((الواضح)) (5/ 257). ، وهو مَذهَبُ جَماعةٍ مِنَ الفُقَهاءِ والأصوليِّينَ [682] يُنظَر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/ 257). .
وذلك لأنَّ العامِّيَّ إذا استَفتى عددًا مِنَ المُجتَهِدينَ واختَلَفوا؛ فإنَّه حينَئِذٍ يَلزَمُه التَّرجيحُ بَينَ المُفتينَ بحَسَبِ العَمَلِ والورَعِ؛ لأنَّه لا مَزيَّةَ لأحَدِهما على الآخَرِ إلَّا بذلك، ولأنَّ الظَّنَّ بصَوابِ الأعلَمِ والأورَعِ أرجَحُ، فلا يَجوزُ له مُخالَفةُ الصَّوابِ في غالِبِ ظَنِّه.
ولأنَّ أحَدَ القَولَينِ خَطَأٌ؛ لأنَّ الحَقَّ في أحَدِ الأقوالِ، وقد تَعارَضَت عِندَ العامِّيِّ هذه الأقوالُ؛ فلَزِمَه الأخذُ بأرجَحِ القَولَينِ بحَسَبِ العِلمِ والورَعِ، كالمُجتَهِدِ يَلزَمُه الأخذُ بأرجَحِ الدَّليلَينِ [683] يُنظَر: ((القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالمسلم غير المجتهد)) للشثري (ص: 26). ويُنظَر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/ 258). .
وأيضًا فإنَّ مُجَرَّدَ التَّخييرِ مَدعاةٌ إلى الهَوى والتَّشَهِّي؛ قال الشَّاطِبيُّ: (ليسَ للمُقَلِّدِ أن يَتَخَيَّرَ في الخِلافِ، كما إذا اختَلَف المُجتَهِدونَ على قَولَينِ، فورَدَت كذلك على المُقَلِّدِ؛ فقد يَعُدُّ بَعضُ النَّاسِ القَولَينِ بالنِّسبةِ إليه مُخَيَّرًا فيهما كما يُخَيَّرُ في خِصالِ الكَفَّارةِ؛ فيَتَّبِعُ هَواه وما يوافِقُ غَرَضَه دونَ ما يُخالِفُه... لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما مُتَّبِعٌ لدَليلٍ عِندَه يَقتَضي ضِدَّ ما يَقتَضيه دَليلُ صاحِبِه؛ فهما صاحِبا دَليلَينِ مُتَضادَّينِ، فاتِّباعُ أحَدِهما بالهَوى اتِّباعٌ للهَوى؛ فليس إلَّا التَّرجيحُ بالأعلَميَّةِ وغَيرِها، وأيضًا فالمُجتَهِدانِ بالنِّسبةِ إلى العامِّيِّ كالدَّليلَينِ بالنِّسبةِ إلى المُجتَهِدِ، فكما يَجِبُ على المُجتَهِدِ التَّرجيحُ أوِ التَّوقُّفُ، كذلك المُقَلِّدُ، ولَو جاز تَحكيمُ التَّشَهِّي والأغراضِ في مِثلِ هذا لجازَ للحاكِمِ، وهو باطِلٌ بالإجماعِ) [684] ((الموافقات)) (5/ 79 - 81). .
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّاطِبيُّ أنَّ التَّخييرَ لا يَجوزُ للقاضي ولا للمُجتَهِدِ ولا للمُستفتي (المُتَخَيِّرُ بالقَولَينِ مَثَلًا بمُجَرَّدِ موافَقةِ الغَرَضِ، إمَّا أن يَكونَ حاكِمًا به، أو مُفتيًا، أو مُقَلِّدًا عامِلًا بما أفتاه به المُفتي؛ أمَّا الأوَّلُ فلا يَصِحُّ على الإطلاقِ؛ لأنَّه إن كان مُتَخَيِّرًا بلا دَليلٍ لم يَكُنْ أحَدُ الخَصمَينِ بالحُكمِ له أَولى مِنَ الآخَرِ؛ إذ لا مُرَجِّحَ عِندَه بالفَرضِ إلَّا التَّشَهِّي، فلا يُمكِنُ إنفاذُ حُكمٍ على أحَدِهما إلَّا مَعَ الحَيفِ على الآخَرِ... وأمَّا الثَّاني فإنَّه إذا أفتى بالقَولَينِ مَعًا على التَّخييرِ فقد أفتى في النَّازِلةِ بالإباحةِ وإطلاقِ العِنانِ، وهو قَولٌ ثالِثٌ خارِجٌ عنِ القَولَينِ، وهذا لا يَجوزُ له إن لم يَبلُغْ دَرَجةَ الاجتِهادِ باتِّفاقٍ، وإن بَلَغَها لم يَصِحَّ له القَولانِ في وقتٍ واحِدٍ ونازِلةٍ واحِدةٍ أيضًا، حَسَبَما بَسَطَه أهلُ الأصولِ، وأيضًا فإنَّ المُفتيَ قد أقامَه المُستَفتي مَقامَ الحاكِمِ على نَفسِه، إلَّا أنَّه لا يُلزِمُه المُفتي ما أفتاه به، فكما لا يَجوزُ للحاكِمِ التَّخييرُ كذلك هذا. وأمَّا إن كان عامِّيًّا فهو قدِ استَنَدَ في فتواه إلى شَهوتِه وهَواه، واتِّباعُ الهَوى عَينُ مُخالَفةِ الشَّرعِ، ولأنَّ العامِّيَّ إنَّما حَكَّم العِلمَ على نَفسِه ليَخرُجَ عنِ اتِّباعِ هَواه؛ ولِهذا بُعِثَتِ الرُّسُلُ وأُنزِلَتِ الكُتُبُ) [685] ((الموافقات)) (5/ 94 - 96). .
وقيلَ: يَتَخَيَّرُ بَينَ قَولِهما؛ لأنَّ العامِّيَّ ليسَ أهلًا للنَّظَرِ، وقد أدَّى ما عليه شَرعًا مِن سُؤالِ أهلِ الذِّكرِ، ولأنَّ فَرضَ العامِّيّ التَّقليدُ، وهو حاصِلٌ بتَقليدِه لأيِّ المُفتيَينِ شاءَ. وهيَ رِوايةٌ عِندَ الحَنابِلةِ، وعليها جُمهورُهم [686] يُنظَر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 462). ، وقَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالرَّافِعيِّ والزَّركَشيِّ [687] يُنظَر: ((البحر المحيط)) (8/ 365). .

انظر أيضا: